الأسطورة رصيد ثقافى معقد خصوصاً، عندما يصبح حلقة أخيرة لتاريخ مقدس، إذ تسرد حدثاً يضرب فى الزمن، ويمس الشخصيات العظيمة، فيستغلها أديب العصر، والقصاص الشعبي، ويعيدان صياغتها، ويبثان فيها الروح دائما،ً فالشعب دوماً يريد البطل ليأخذ بيده،على الرغم من أنه قد يكون خالقاً لهذا البطل كنتاج اجتماعي.
ولقد كان لشخصية جمال عبد الناصر بما فيها من قوة وثراء إنسانى فعل السحر فى تفجير إلهام الأدباء والشعراء، بمنجزاتها وظروف تواجدها ورحيلها المفاجئ، ما جعلها محصلة أحلام بطولية خارقة، فلقد عاشت فى مصر الحديثة لتبنى مجدا، يشهد بحيوية الشعب العربي، فشخصيته الأسطورة ربطت زمنها بالماضى العظيم.
وأرخ الشعراء من كافة الأقطار العربية لمولده الأسطوري، إذ أطل علينا فى فترة من أحلك فترات تاريخنا الحديث، وما أكثرها!!، والحاجة إليه ماسة لبطل التفينا حوله، من المحيط للخليج.
يؤرخ صلاح عبد الصبور "مصر" لمولده، كمولد أبطال التراجيديات فى الأساطير القديمة، قائلا:
"حتى طلعت، طلعتما، الثورة الكبرى وأنت كانت مصر الأم قد غفت كى تستعيد شبابها ورؤى صباها وكأنها كانت قد احترقت لتظهر ثم تولد من جديد فى اللهيب وخرجت أنت فى شرارة التاريخ من أحشائها لتعود تشعل كل شيء من لظاها ونعيش فى أيامنا الملأى بصوتك منشدا لغة رخيمة كى يوقظ الموتى من الأجداث يدعو من ركام العالم أطياف انتصارات قديمة لتعود للوادى وتبعث فى ثرى مصر الجديدة والعظيمة ونعيش فى أيامك الملأى بيومك واسعاً كالأمنيات".
ويربط صلاح عبد الصبور بين مولده، وأسطورة إيزيس وأوزوريس، قائلا:
"نلقاك شاباً فى رداء الحرب تنفخ فى النفير كى توقظ الأشلاء، تجمع شمل مصر المشرقة كانت على مجرى الزمان تمزقت قطعاً فطفت على مسار النيل تجمع مزقة فى إثر مزقة حتى نهضت، نهضتما، ألقيتما التابوت فى لهيب السعير< ويعبر عن فرحته بلقائه فيقول:
"صوتك الحانى الجسور قادماً يجتاح أسوار التاريخ البعيدة حاملا من أرض طيبة قصة المجد ورؤياه العجيبة ساكبا فى وضح الشمس وفى وكر النسور لحن دنيانا الجديدة".
أما الشاعر محمد الجيار "مصر" فقد رأى فى ملامحه الشخصية امتداداً للزعماء العظام، فقد ضرب فى أعماق التاريخ والجذور ليظهر بها، قائلا:
"يا أول راجل يخرج من صلب بلادى ويجسم حياً من دمع المظلومين يومض فى عينيه حسام صلاح الدين يتشح بثوب ابن الخطاب".
ورأى فيه الشاعر محمد مهدى الجوهرى "العراق" المفجر للطاقات، والنابت فى أرض أمة خصبة الإنبات توحداً حتى صار شيئاً وكياناً واحداً.
"قد كنت شاخص أمة
نسماتها وهجيرها والصبح والإمساء ألقت عليك غياضها ومروجها
استودعتك الرمل والصحراء قالوا أب بر فكانت أمة ألفا
ووحدك كنت فيها الباء. عصرت طاقات الجموع ورزتها
فوجدتها ولادة عشراء"
أما معين بسيسو "فلسطين" فقد رأى فى عبد الناصر ناشراً للثورة فى كل مكان باسطاً جناحها ليستظل به الثوار.
"فوق القاهرة وغزة فوق دمشق وفوق الخرطوم فوق طرابلس وفوق خنادق كل الثوار يلقى الأعلام ويلقى الأزهار".
والشاعر عبد المنعم الرفاعى "الأردن" رأى الأمل كل الأمل منعقدا فى ثورة يوليو وكيف أنها بزعامة عبد الناصر هى المنجاة من اليأس، بقوله:
"ثورة من ضفاف النيل عارمة
يرتاع من هولها المستعمر الأشر كأنما هى فى الآفاق عاصفة
تجتاح من رمم الماضى ولا تذر ومسى اليأس لولا عصبة صدقت
وعداً وشد عراها عهده النضر".
أما الفيتورى "السودان" فيرى تناسخ روحه فى أجساد الزعماء فيقول:
"لكأنك ملفوف بوشاح بلادك آت توا من حطين وكأنك أرهقت فنمت لتصحو بعد سنين أو أنت عرابى الواقف تحت الراية ذو الصوت الآمر أو أنت الراية يا عبد الناصر؟ أو أنت الثورة والشعب الثائر؟".
ورصد فاروق شوشة "مصر" حياته وتلاحمه مع الشعب العربى من المحيط للخليج وتوحدهم، بقوله:
"كنت فيهم واحدا منهم لهم حبة القمح وجلباب الشتاء ويد الرحمة فى لفح البلاء والأب الحانى إذا عز الدواء كنت فيهم واحدا منهم لهم صوتهم صوت المآسى والشقاء والغد الآمل فى عين الرجاء كنت منهم أنت فى تاريخهم لغة الأرض وموال الفداء".
وعن خلوده أبد الدهر، وخلود أسطورته فى الماضى، والحاضر، والمستقبل، يقول محمود حسن إسماعيل "مصر":
"سمع الملايين ما زال يصغى لصوته ويجهش بالدمع حين يرى بصمته على خطوة الكادحين وفى نظرة الشرفاء وفى كل فأس بكف السنين وفى كل صفصافة كفكفت بأوراقها أدمع المتعبين حيارى التراحيل، أهل المعاول والدمع، أهل الأنين وفى قبضة الزاحفين وفى صيحة الثائرين وفى زأرة السود وفى تذيب العناصر لسحق الفوارق بين الوجوه على كل سائر وفى المسجد المستجير الحزين وفى القدس وهى تناديك من فتك الغاصبين".
وعن رسوخ مكانته فى وجدان الشعب العربى كحلم وحقيقة يقول كمال عمار "مصر":
"يا من كنت أخاً وأباً وصديقاً للمنتصرين وذراعاً للمنكسرين وشجاعاً فى ساعات الهول وشعاعاً للمرتقبين على أرض فلسطين المنتظرين الله يمد الكف الخضراء من بعدك يحكى للفقراء عن يوم لا يعرف طعماً للحزن عن أرض ما فيها غير يكون إجابة كن من بعدك يا عبد الناصر نتملى طلعته فى الظلماء يروينا إن مال الغصن يرضينا ما يرضيه سواء بسواء".
وعن تأصل ظاهرته فى النفوس ضاربة فى أعماق الناس والأرض، يقول صلاح عبد الصبور: "فأنت قبضة من ثراها بل قبضة منه تعود إليه تعطيه ويعطيه ارتعاشاتها وخفق الروح يسرى فى بقايا يربها وذما دماها مصر الولود نمتك ثم رعتك ثم استخلفتك على ذراها ثم اصطفتك فى لحظة لتصير أغنية ترفرف فى سماها".
ويؤكد على تغلغل الزعيم الأسطورة فى الوجدان محمد الجيار "مصر" بقوله:
"وجهك يمنحنى ثقة بحياتى يمسح فوق جليد الوحشة عرقى بسماتك تطفو فوق دموعى تنقذنى من غرقى".
وها هو بدر توفيق "مصر" يناديه كرمز بطولى اشترك فيه الحلم والواقع إذ يقول:
"أيها العلم المشرئب على النيل، من حافة البحر حتى الجنوب يا جيب المسافر عبر البحار، وعبر الدروب وانتظار الجماعات فى حلقات الخطر أينا يستطيع العبور وحيداً على مزلق الممر؟ نحن لما عشقناك كانت طفولتنا فى يديك فنمونا على صوت خطواتك الواثقة واستوى عودنا الغض بالقبلة الصادقة يا ذبيح السهاد الذى طارد النوم من مقلتيك أينا يستعيد الليالى فلا يعرف النوم حزنا عليك؟!".
وانطلقت فى رثائه أقلامهم تؤكد رحيله بالجسد فقط، فروحه ما تزال مطلة، تبث الثورة فى النفوس، ليتدفق العزم دوما. ويبقى الرمز اسطوريا خالدا فى النفوس كرمز للعطاء، يعبر عن هذا محمود درويش "فلسطين" بقوله:
"أبكيك يا جمال فيما تبقى من تراب وطنى ومن دماء عزوتى ومن بيوت بلدى وهى تصيح من قرار جرحها وعارها "ولو! لن تتركنى يا سندي" أبكيك.. لكننى تعلمت.. إلى الأبناء والأحفاد كيف يكون الصبر والجهاد وكيف تحمى مصارع الرجال شرف الرجال".
أكدت الشاعرة السورية طلعت الرفاعى رفضها لفكرة موته، مؤكدة على خلوده فى قولها:
"ما مات عملاق العروبة قم وأذن يا بلال الله أكبر لن تروع أمة منها جمال ستظل إصرار اليقين يؤج فى دمنا.. وضاء ما زلت تجمع أمة وتذيب أغلال الجفاء يوم الفجيعة كنت وحدتها كأيام الهناء يوم الوداع.. عبر الموت إشعاع البقاء يوم الوداع.. تقطعت مهج وجمدت الدماء يوم الوداع رأيت كيف بكت فتاها كربلاء يوم الوداع.. كما شهدتك كنت قلعة الكبرياء".
وعبر محمود درويش عن بقاء جمال عبد الناصر كرمز اسطورى خارق بقوله:
"ولكن ظلك أخضر نعيش معك نجوع معك وحين تموت نحاول ألا نكون معك ففوق ضريحك ينمو قمح جديد وينزل ماء جديد وأنت ترانا نسير نسير نسير".
ولا غرو أن القلوب الثكلى المكلومة ما تزال مقيمة، تنتظر عودته، فهناك أمل يحدوها أن تتناسخ روحه، وتبعث ثانية، يرصدها الفيتورى بقوله:
"يا من يتجسد وهو شموخ، فى قلب المأساة ياعطر الأيام الحبلى بعذابات التكوين يا من هو كل المهمومين وكل المظلومين إنى أصغى لصدى خطواتك فى أرض فلسطين أو أنت القادم عند الفجر فى أرض فلسطين؟! عليك سلام الله.. عليك سلام الله".
وعن أسطورة الزعيم الخالد عبر د. كمال يونس فى مقطوعة من النثر الفنى بعنوان "جمال وزهرة الياسمين" عن ملامح اسطورته، وخلودها فى ذاكرة الأمة، مما حدث له، ومعه فى أدق اللحظات، مثل نكسة1967، والتنحي، وإعلان خبر وفاته الجسدية1970.
وعبر الشاعر الكبير (نزار قباني) عن الرئيس جمال بإصراره على أن جمال لم يمت بقوله
السيد نام السيد نام
كالسيف العائد من إحدى الغزوات خلوه
يغفو لساعات
وفي نهاية القصيدة قال:
من قال الهرم الرابع قد مات
"لا لم يمت جمال.. لقد تمدد على الأريكة.. قيلولة فى سبتمبر.. فثورته لن تخبو أبدا.. ولن تذبل فى رياض تاريخنا زهرة الياسمين.. نسيم العصاري.. راية مجد ترفرف.. نجم يهدينا فى دجى الأيام.. أكليل الوفاء قلده إياه الزمان. قبض الفلاح بيمينه مفاتيح قصر عابدين.. وتربع العامل فى قصر القبة.. وباركته بهية فى قصر التين.. وأقمنا فى منشية البكري.. والتف الكل حوله فى الأزهر.. فملأ الأديب دواته.. وأملاه قلبه.. وخط بقلمه.. وأبدعت فى يد المصور الفرشاة.. وانطلقنا نحقق الأحلام.. لانعرف المستحيل.. ويفجر فينا نبع الهمة. ارتجف المذياع.. أيها الأخوة المواطنون.. المشاعر تأججت.. والحمية تدفقت.. وأنصتنا.. وسالت عبراته.. ماذا؟!!.. تتنحى.. وأبينا.. حتى الأجنة فى الأرحام.. وقلنا لا.. فلتكمل.. فأنت وجندك لم تحاربوا.. هلموا نداوى الجرح.. فنحن.. لا.. لا.. لا لم ولن ننكسر. لهف عليك.. طعنك الأصدقاء قبل الأعداء.. واستنزفك الأشقاء.. فى أيلول أسود.. وكم من أيامنا أيلول.. وتداعى فؤادك لحال أمة.. ورثت عن البداوة الاختلاف.. وكأنهم ما سمعوا.. "واعتصموا".. تتلى عليهم.. وافترقوا.. وسقط الجسد. آه.. آه.. تبكيك حجارة السد.. ومياه البحيرة.. وحوائط الفصول.. وأجران القمح.. وشاطئا القناة.. وطين أرض مرقدك فى قلبها.. ذراعاك دلتا النيل.. وإحدى رجليك النهر.. وتنثنى ركبة الأخرى عند توشكى.. و نظرة الحسرة تطل من عينيك.. الشرق.. الشرق..تنادى افيقوا.. ترنو الجنوب.. اتحدوا.. تحذر الغرب.. لا تختصم.. فلا الشرق أفاق.. ولا الجنوب استيقظ.. ولا الغرب رد. أيا نخلة مثمرة فى صحراء تاريخنا.. كم رموها.. وتولى التاريخ عنك الرد.. فلتسر فينا روحك مقاومة.. حجارة يلقيها الطفل الأعزل.. يلقى.. يلقى هواما فينا تنهش. أيها الوفي.. أبا خالد.. أنادى روحك يا جمال.. عودى تناسخي.. حققى الحلم.. فأنا المنتظر عبر السنين.. فليطل علينا صوت ناصر.. "أيها الاخوة المواطنون".وما أحوجنا الآن كعرب، فى ظل الظروف العصيبة، التى تمر بها الأمة العربية والإسلامية إلى هذا الرمز الخالد، وتلك الأسطورة، ليتوحد الشعب العربى كله، لنربط الماضى بالحاضر الرائع، فنفض عن كواهلنا ذل الحاضر وغبرة أحداثه، وواقعه الأليم. عبد الناصر أيها الأسطورة العربية الرائعة العذبة، إننا نفتقدك كثيرا كثيرا، فما زلنا ننام ونصحو على حلم بالبطل الرمز، الذى نلتف حوله ليقودنا إلى دنيا المجد، فينير ظلمة الحاضر".