الإحساس متعلق بجناح طائرة
ألقيت بنفسي في أول مقعد فارغ قابلته غير مصدقة أنني أنهيت المرحلة ما قبل الأخيرة من رحلتي وأن عنائي انتهى مؤقتا ريثما تحط الطائرة في المطار القادم والأخير ليبدأ المسلسل من جديد. إحساس بنعومة الارتياح وعظمة التراخي لعدة ساعات بعد عملية التفتيش الطويلة والركض في ممرات مطار نيويورك التي تشعرك بقيمة مطار دولتك المتواضع الذي غادرته مستبشرا بفرح السفر ولكنك تحلم منذ اللحظة بالعودة إليه ولو‘‘حشو الكفن‘‘ ليس حنينا وحبا وشوقا بقدر ماهو معرفة المرء بحده وتعريفه.
كنت أطوي الكتاب على الصفحة الأخيرة من رواية رديئة مددت مساحة الملل في روحي حين أعلنت المضيفة أن الطائرة بدأت بالهبوط. إحساس بالارتياح ملأ صدري ومن ثم تصاعد إلى رأسي فأحسست باسترخاء أطرافي وربما بسمة طفت على شفتيّ رآها الشخص الجالس بجانبي.. فابتسم، لاأدري من أي جهة يأتيني إحساس غامر بالأمان كلما سمعت نداء شد الأحزمة لأن الطائرة بدأت بالهبوط علما أن الساعات الماضية مرت من دون الإحساس بالخوف إذ طالما أن جناحي الطائرة اللذين أطل عليهما بين الفينة والأخرى خلال النافذة قبالتي بخير إذن كل شيء بخير، قد يكون السبب هو الخروج من الغيوم .. من الضباب ..من اللاوقت الذي أقمنا فيه في قلب فضاء رمادي مديد.. ومن دون الاحساس بأن الطائرة تطير إلا حين تصطدم بمطبات جوية فتلك دقائق إستثنائية تثير بعضا من فزع ..لالون للسماء التي نحن فيها ولاوجود لأي ملمح أليف يدل على مكان.. ساعات تمضيها في جوف آلة معدنية ثقيلة تطير بجناحين كما دوري صغير! أحب ركوب الحافلات، بل إنني أحب السفر من أجل ركوب الحافلة، أية مطية ألقي بنفسي داخلها وأتمتع بانعدام الوقت، أنا حرة في هذه الفجوة من الزمن في غياب كامل لتأنيب الضمير: حيث لا فعل مطلوب مني إنهاؤه، ولا عائق بيني وبين أفكاري أو كتابي أو حلم يقظتي وأنا مسمرة في مقعدي.. دقائق، وتبزغ الأرض: تعرجات الطرق المتشابكة ، براري شاسعة تختلط فيها الألوان: أخضر الغابات مع البني الترابي ، مع أزرق باهت، الألوان دليل المسافر في طائرة على الاقتراب من الجغرافيا المألوفة، والعودة إلى الوقت إذ أول ملمح لهذه العودة أراها في نظر المسافرين إلى ساعاتهم، معظمنا يشمر كمه قليلا وينظر في ساعته، أركز الانتباه إلى التضاريس، هنا يبدأ الإحساس بالعوم: لاأرى جبالا تتطاول ولا وديانا تقترب ولا سهولا ولا نباتات خجولة .. تلك هي أبجدية تضاريسي، أرى فقط أفقا من الماء .. ولأن علاقتي بالماء تنوس بين الرجاء والتوجس.. بين الأمل في أن تلقي السحابة حملها فوق أرضنا.. وبين الخيبة لأن ريحا غير مؤاتية أخذتها بعيدا عنّا.. وبين حكايا الحضارت الأولى التي ترعرعت على ضفاف الأنهار في وطني.. وبين الجفاف الذي يزحف مع الصحراء ليأكل ماتبقى من اللون الأخضر.. ولأن بحرنا متوسط بين نهر وبحر.. أحس بالتباس وانكماش وبزهو يرجو التواضع بأننا اجتزنا المحيط ونحن الآن نعلوه! أحتفظ لنفسي بسرها الحميم ( وصلنا بالسلامة على متن الآيات القرآنية التي قرأتها وفي مقدمتها باسم الله مجراها ومرساها) تنعطف الطائرة بجناحيها ثم تهبط أكثر، فيدنو المحيط منا .. نترجرج قليلا فوق الماء ثم يعود الجناحان إلى الاستواء.. أبحث عن تمثال وصفه شاعري الأثير‘‘بأنه لايرد التحية‘‘ فتحضر القصيدة ويحضر الصوت وتحضر المناسبة وتحضر أحاسيس ‘‘الهندي الأحمر الذي يلقي خطبته ماقبل الأخيرة أمام الرجل الأبيض‘‘ فأفقد للتو إحساس السائح المحايد لأدخل منطقة معتقة بتاريخ يجرجر شعارات وخطب وهتافات لم يبق منها سوى صدى بعيد .. بعيد في الذاكرة .. في هذه اللحظة أسمع صوت ارتطام العجلات على الأرض وتصفيق المسافرين للطيار الماهر الذي عبر بنا المحيط وأوصلنا إلى الأرض الجديدة .. ألقي نظرة أخيرة وسمحة على جناحي الطائرة اللذين حملا أحاسيسي وأنتشل جسدي من المقعد الذي التصقت به عشر ساعات وأخرج إلى أمريكا...
ـــــــــــــــــــــــــــ
مزن الأتاسي
أديبة وكاتبة سورية