الشواهد نسبتها ومناسبتها
10( للباحث الأديب الشاعر عبد القادر الأسود )
ــ 3 ــ
أُعلِّمُهُ الرمايةَ كلّ َيومٍ
... فلمّا اسْتَدَّ ساعدُه رماني
ويروى
(اشتدّ) بدلاًمن استدَّ ، لكنّ الأصمعي رجَّحَه بالسين . قيل إنّ هذا البيت هو لأبي البطحاء ،وقيل لمالك بن فهم الأزدي ، وقيل لمَعْن بن أَوْس وهو من الإسلاميين . وقد أتينا به خلف سبقه لما بينهما من ترابط ، ويُتمثّل بهذا البيت لمن ينكر المعروف حال قوته ،ويتنكّر لمن كان قَصَدَه في حاجته ، وقالوا أيضاً في هذا المعنى:
لقد ربيّتُ جرواً طول عمري .... فلمّا صار كلباً عضّ رجلي
وهذا من مصائب العلماء وانعكاس حظوظهم ، أن يصيروا عند من علموه مستجهلين ، ولدى من قدّموه مرذولين ، وقد رجّح كثيرٌ حقّ المعلم والمؤدِّب على حقّ ِالوالد، كما سلف بيانه في قصّة الإسكندر الأكبر .
ومن نسَب هذا البيت إلى مالك ،فقد ساق القصة الآتيّة في سببه ، فقال: لمّا استولى مالك بن فَهْمٍ الأزديّ على مُلْكِ عُمانَ والعراقَ ، وحاز أطرافَها وما حولها ، وكان بِنُزُلٍ ما بين شطِّ عُمانَ إلى ناحية اليمن ، فجعل على أولاده الحرس بالنوبة ، كلٌّ مع جماعة من خواصّه وأُمنائه من قومه الأزد ، لما كان بينه وبين ملوك اليمن من تنافس وتحاسد . إلى أنْطمع بعضهم في ملك الآخر.
وكان أقربَ ولدِ مالك إليه ، ابنُه سليمة ، وهو أصغر ُولده ، وكان مالك يُعلّم سُليمة في صغره الرمي بالسهام إلى أن تعلّم وكبر ، واشتدّ عَضُدُه ، فكان يحرس كأحد إخوته بالنوبة . فحسده إخوته لما له في نفس أبيه.
وأقبل نفر من أبناء مالك إلى أبيهم ، فقالوا : يا أبانا إنّك قد جعلتَ على جماعةٍ أولادك الحرس بالنوبة ، وما أحدٌ منهم إلاّ قائم بما يليه ، ما خلا سليمة ،فانّه أضعفُ همّةً ، وأعجز ، وإنّه إذا جنّه الليلُ في الليلة التي تكون فيها نوبته يعتزل عن فرسان قومه ، ويستسلم للنوم ، فلا يكون لك فيه كفاية . وجعلوا يوهنون أمره عند أبيه ، وينسبونه إلى العجز والتقصير . فلم يجدوا لكلامهم أثراً في نفس أبيهم،فانصرفوا من عنده راجعين بغير ما كانوا يأملون .
ثم إن مالكاً داخله الشك في أمر ابنه سليمة ، فأسرَّ ذلك في نفسه . إلى أن كانت الليلةُ التي كان فيها نوبةُ ابنِه سليمة . وخرج سليمة في نفر من فرسان قومه يحرسون مالكاً كالعادة ، ولمًا جنّهم الليل . اعتزل سليمة عنهم المكان الذي يكمن فيه بقرب دار أبيه وخلد إلى النوم .
فبينما هو كذلك ، إذا أقبل مالك بن فهم من قصره في جوف الليل مختفّياً ، لينظر ما يكون من أمر سُليمة ، وقد كانت لحقته سِنةُ من نوم ، فأغمض على ظهرِ فرسه، وهومتنكّبٌ كنانته ، وفي يده قوسُه ، وأقبل مالك بن فهم في سواد الليل قاصداً نحوه فأحَسّت الفرس بمالك فصهلت الخيلُ ، فانتبه سليمة من سِنته مذعوراً . ففوّق سهمَه في كبد قوسه ، ويمّمه نحو شخصِ مالك وهو لا يعلم أنّه أبوه .
فسمع مالك صوتَ السهم ، فهتف به : يا بنيَّ لا ترمِ أنا أبوك . فقال سليمة : يا أبتِ
( قد مَلَكَ السهمُ قصدَه). فأرسلها مثلا . فأصاب السهمُ مالكاً في قلبه ، فقتله . فقال مالك حين أصابه السهم من ابنه سليمة هذه القصيدة، ونعى نفسه فيها إلى القبائل بأرض اليمن، وذكرَ مسيرَه الذي ساره ، وما كان من شأنه ، والقصيدة طويلة اخترنا منها الأبيات الآتية :
ألا مِن مبلغٍ أبناءَ فَهْمٍ... بمـالكهم من الرجلِ العُمان
وبلّغْ مُنْبِِهاً وبني حَنيسٍ... وسعــدَ الله ذي الحيّ ِاليمـاني
بلاد قد نأى عنها مزاري... وجـيرانُ المجاورةِ الأداني
جلبت الخيل من سروات نجد .... وواصـلت الثنايا غيرَ وان
فصالت فَهْمُ والأملاك فيهم....بمرهقـــة تحلّ عُراالمِتان
فأمتعناهمُ بالمَنِّ عفــواً.... وجدنا بالمكارم والأمــــان
جزاني لا جزاه اللهُ خــيرًا.... سليمةُ إنّه شرّاً جَزاني
أعلّمه الرمايـة كلّ يـــــوم... فلمّا اسْتَــــدّ ساعدُه رماني
وهذه رواية من نسبه إلى معن بن أوس المزني
:
فلا وأبي حبيبٌ ما نفاه .... هوازنُ من بلاد بني يمانِ
وكان هوى الغني إلى عناه ..... وكان من العشيرة في مكانِ
تكنّفَهُ الوشاةُ فأزعجوهُ.... ودسُّوا من قضاعة غـيرَ وانِ
ولولا أنَّ أمّ َأبيه أُمِّي.... وأنّي من هجـاه فقد هجاني
إذاً لأصابه منِّي هجـاءٌ.... تناقله الرواة على لِسـاني
أعلِّمه الرماية كل يـوم.... فلمَّا اشتدَّ ساعدهُ رمــاني
ومن نسبه إلى أبي البطحاء روى له الأبيات الثلاثة الآتية :
فواعجباً لمن ربَّيتُ طفلاً... ألقمُه بأطراف البَنـانِ
أعلمه الرماية كل َّيـوم... فلمَّا اشتدَّ ساعدُه رماني
وكم علَّمتُه نظمَ القوافِي... فلمَّـا قال قافيةً هجانِي
والرأي أن البيت للأقدم من هؤلاء الثلاثة وقد أخذه عنه الآخران : تضميناً من قبلهما ، أو هو وهمٌ الرواة .
ــ 4 ــ
فما كان قيسُ هُلْكُهُ هُلْكَ واحدٍ.... ولكنًّهُ بنيانُ قوم تهدّما
هذا البيت للشاعر عَبدةُ بنُ الطبيب ، وهو شاعر مخضرم من
بني عبدِ شمسٍ ابنِ كعبٍ بنِ سعدٍ بنِ زيدٍ بنِ مَناةَ من تميمٍ . وعَبْدةُ : تأنيثُ عبدٍ،
وهو من الصفات الجاريةِ مجرى الأسماء . وهذا البيت من قصيدة مطلعُها :
عليك سلامُ الله قيسَ بنَ عاصمٍ.... ورحمتُه ما شاء أن يترحَّما
وهو شاهد على الأحرف التي تنصِبُ الأسماءَ ، ويُروى :
هُلك) رفعاً ونصباً ، فمن نصبَه فعلى أنّه خبرُ كان ، ومن رفعه فقد جعله بدلاً من قيسٍ ،البدلَ المعروفَ بالاشتمال ، لاشتماله على المعنى ، كقولِك أعجبني عبدُ اللهِ عِلمُه ؛ المعنى:أعجبني علمُ عبدِ الله .
قال الله تعالى : ((يسألونك عن الشهرالحرام قتالٍ فيه)) (سورة البقرة، الآية : 217) المعنى : يسألونك عن قتالٍ في الشهرالحرام . ومَن هذا النوع قولُ الأعشى يهجو الحارثَ بنَ وَعْلَةَ :
لعمرك ماأشبهت وعلةَ في الندى ... شمائلَهُ ، ولا أباه المُجالدا
المعنى المراد : ما أشبهت شمائلَ وعلة .
وهذه القصيدة قيلت في رثاءِ قيسٍ بنِ عاصمٍ المنقريّ ، وعن هذا البيت قال الأصمعيُّ هو أَرثى بيتٍ قالتْه العرب .
قيل إنّه لمّا مات عبدُ الملك بنُ مروانَ اجتمع وِلدُه حولَه فبكى هشامٌ حتى اختلفتْ أضلاعُه، ثم قال : رحِمَك اللهُ يا أميرَ المؤمنين ، فأنتَ واللهِ كما قال عَبْدةُ بنُ الطبيب :
وما كان قَيْسٌ هُلْكُه هُلْكُ واحد......ولكنَّه بُنْيَانُ قومٍ تَهَدَّما
فقال له الوليد كذبتَ يا أحولُ يا مشْؤوم ، لسنا كذلك ولكنّا كما قال الآخر
ويقصد الشاعرَأوسَ بنَ حِجْرٍ:
إذَا مُقْرَمٌ مِنًّــا ذَرَا حَــدُّ نابِه.....تَخَمَّطَ فينا نابُ آخَرَ مُقْرَم
المقرم : السيِّدُ ، تخمّطَ : تَغَضَّبَ و تَكَبَّرَ
ولعبدة هذا بيت آخر كان أميرُالمؤمنين عمرُ بن الخطاب رضي الله عنه يتعجّبُ من جودتِه وهو :
والمرءُ ساعٍ لأمرٍ ليس يُدركُه ..... العيشُ شُحٌّ وإشفاقٌ وتأميلُ
وكان يقول : ما أحسَنَ ما قسّــمَ .
يروى أن قيس بن عاصم جمع ولده حين حضرته الوفاةوقال يا بَنيَّ إذا مِتُّ فسوِّدوا كبارَكم ولا تُسوِّدوا صغاركم فيسفِّه الناسُ كبارَكم ، وعليكم بإصلاح المال فإنه مَنبهةٌ للكريم ويُستغنى به عن اللئيم ، وإذامِتُّ فادفنوني في ثيابي التي كنت أُصلي فيها وأصوم، وإياكم والمسألة فإنها آخرمكاسب العبد ، وإنَّ امرأً لم يسألْ إلاّ تَرك مكسَبَه ، وإذا دفنتموني فأخفوا قبري عن هذا الحيِّ من بكر بن وائل ، فقد كان بيننا خماشاتٌ في الجاهلية ، ثم جمع ثمانين سهماً فربطها بوَتَرٍ ، ثم قال: اكسروها ، فلم يستطيعوا ، ثم قال: فرِّقوا ،ففرّقوا فقال : اكسروها سهماً سهماً ، فكسروها، فقال : هكذا أنتم في الاجتماع وفي الفرقة ، ثمَّ قال :
إنّما المجدُ ما بَنى والدُ الصِّدْقِ.....وأحيا فَعــالَه المولودُ
وتَمامُ الفضلِ الشجاعةُ والحِلْـمُ..... إذا زانَه عَفَافٌ وجُـودُ
وثلاثون يا بَنيَّ إذاما..... جَمَعتْهم في النائباتِ العُهودُ
كثلاثين من قِدَاحٍ إذا مـا..... شَدَّها للزمانُ ، قِدْحٌ شديـدُ
لم تَكَسَّرْ وإن تَفرَّقتِ الأسْهُـمُ..... أوْدَى بجمعِها التبديد
وذوو الحلم ِوالأكابرُ أولَى..... أن يُرَى ، منكُمُ ، لهم تسويدُ
وعليكمْ حِفْظ الأصاغرِ حتَّى ...... يَبْلُغَ الحِنْثَ الأصغرُ المجهودُ
ثم مات فقال عبدةُ بنُ الطبيب يرثيه :
عليكَ سلامُ الله قَيْسَ بن عاصـمٍ ..... ورحمتُه ما شـاء أن يَتَرَحَّما
تحيَّـة َمن أوليتَه منك نعمةً ..... إذا زارعن شَحْطٍ بلادَك سَلَّمــا
فمـا كان قَيْسٌ هُلْكُه هُلْكُ واحـدٍ ... ولكنَّه بُنْيانُ قومٍ تَهَدَّما
القصيدة
ــ 5 ــ
لا تنهَ عن خُلُقٍ وتأتي مثله..... عار عليك إذا فعلتَ عظيمُ
وهذا البيتُ من قصيدةٍ للمُتَوَكِّل اللّيْثِي بن عبد الله بن نَهْشَل ساكن الكوفة وكان
يكنى أباجهمة ومطلعها:
للغانيات بذي المجازِ رسومُ ..... فببطن مكّةَ عهدُهُنَّ قديمُ
وقد قالها يمدح الخليفةَ الأُمويَّ الأوّلَ ،الصحابيَّ الجليلَ معاويةُ بنُ أبي سفيانَ رضي الله عنهما وابنَه يزيدَ بنَ معاويةَ .
ومنهم من نسب هذا البيت للأخطل ، ومنهم من نسبه لأبي الأسود الدؤلي كما قيل إنه لحسان بن ثابت ، لكن الذي ينعم البصر ويعمل الفكرَ يجده أقرب إلى نسيج أبي الأسود.
وأتي بهذا البيت كشاهد على (واو الصرف) فقال الفيروز أبادي في القاموس المحيط .
واوُ الصَّرْفِ : وهو أن تأتِيَ الواوُ معطوفَةً على كلامٍ في أوَّلِه حادِثةٌ لا تَسْتَقيمُ إعادتُها على ما عُطِفَ عليها كقولِهِ : لا تَنْهَ عن خُلُق ٍوتأتيَ مِثْلَهُ عارٌ عليك إذا فَعَلْتَ عَظِيمُ ، فانّه لا يجوزُ إعادَةُ (وتأتِيَ مِثْلَهُ) على (تَنْهَ) سُمِّيَ صَرْفاً إذ كان مَعْطوفاً ولم يَسْتَقِمْ أن يُعادَ فيه الحادِثُ الذي فيما قَبْلَه .
كما أتي به كشاهد انتصاب الفعل بإضمار (أَنْ) أي : لا تجمع بين النّهي عن القبيح وفعله؛ ولم يرد نهيُه عن الفعلين .
وأتى به صاحب شذور الذهب وغيره كثير كشاهد على (واو المعية) وكلهم نسبوه إلى أبي الأسود الدؤلي .
وقد اخترنا من قصيدة المتوكل الليثي التي وردت في منتهى الطلب من أشعار العرب ــ (ج 1 / ص 97) الأبيات الآتية:
للغانياتِ بذي المجازِ رسـومُ ..... فببطنِ مكةَ عهدهنَّ قديـمُ
فبمنحرِ الهدْيِ المُقَلَّدِ من مِنًى .... جُــــدَدٌ يلُحْنَ كأنّهنّ َوُشـومُ
أبلغْ رميـمَ على التنائي أنّني .... وصّال ُإخوانِ الصفاءِ صَرومُ
أرعى الأمانة للأمينِ بحقّهـــا......فيُبينُ عمّا سرُّهُ مكتومُ
وأشُدُّ للمولى المدافعِ رُكنَـهُ ...... شَفَقاً من التعجيزِ وهومُليـمُ
وإذا أهنتَ أخاك أو أفردتَـــه..... عمداً فأنتَ الواهنُ المذمــومُ
لا تَنْهَ عن خُلُقٍ وتأتيَ مثلَـهُ...... عارٌ عليكَ إن فعلتَ عظيـمُ
قد يكثرُ النكسَ المقصِّرُ هــمّهُ...... ويَقِلُّ مالُ المرءِ وهو كريـمُ
وأنا امرؤٌ أصِلُ الخليلَ ودونهُ ...... شُمُّ الذُرا ومَفازةٌ ،دَيْمومُ
ومن نسبه إلى أبي الأسود الدؤلي أتي به ضمن قصيدته الآتية :
تلقى اللبيبَ محسَّداً لم يجـترمْ..... عِرضَ الرجال ِوعِرضُه مثلومُ
حسدوا الفتى إذ لم ينالوا سعيه ..... فالقوم أعـداءٌ له وخصوم
كضرائرِ الحسناءِ قُلْنَ لوجهِها.....حسداً وبَغيـاً ــ إنّه لذميـم
وإذا عَتبتَ على الصديق ولمتَـه ..... في مثلِ ما تأتي فأنتَ مُليـم
فابدأ بنفسِِك وانْهَها عن غيّهــا..... فإذا انتهتْ عنْهُ فأنتَ حَكيــم
فهناك يَسمع ما تقولُ ويَقتَدي...... بالقول منك ، وينفعُ التعليـمُ
لا تَنْــــــهَ عن خُلقٍ وتأتيَ مثلَــه..... عارٌ عليكَ ــ إذا فعلت عظيـمُ
وإذا طلبتَ إلى كريمٍ حاجةً..... فلقاؤه ، يكفيـــك ، والتسليمُ
وإذا طلبت إلى لئيمٍ حاجةً ..... فأَلِّحَّ في رِزْقٍ وأنتَ مُديـم
والزَمْ قُبالَةَ بابِه وخِبائه...... بأشَـدَّ ما لَزِمَ الغريمَ غَريـمُ
وعجبتُ للدنيا وحُرقةِ أهلِها..... والــــرِزقُ فيها ، بينهم،مَقسومُ
ثم انقضى عجبي لعِلمي أنّـه..... رزقٌ مــوافٍ ، وقتُه مَعلومُ
وكما رأيت أخي الكريم فإنّ أبا الأسود أولى بنسبة هذا البيت إليه لأنه إلى نسيجَه أقرب.