3
ظلم الضلال
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين وأصحابه المنتجبين وعلى جميع أنبياء الله والمرسلين، السلام عليكم أيها الأخوة المؤمنون والأخوات المؤمنات ورحمة الله وبركاته.
من الأمور التي ركَّز عليها القرآن الكريم في عملية الضلال والهدى هي مسألة القرين، الصديق، الصاحب، باعتبار أن الإنسان كثيراً ما يتأثر بصاحبه وبقرينه وبصديقه، لأن العلاقة بين الإنسان وبين صاحبه الحميم تنطلق من خلال العاطفة، والعاطفة غالباً لا تدقق في الحسابات، بل إنها أشبه بالفيضان الذي يقتحم السدود ويطغى على ما حوله، ولذلك فقد أراد القرآن الكريم أن ينبّه الإنسان إلى أن لا يخضع لقرينه، بل يبقى ليختار الصديق الجيد الذي يملك عقلاً وديناً ومسؤولية، ليستزيد بصداقته عقلاً من عقله، وديناً من دينه، وروحاً من روحه، واستقامة من استقامته، وفي هذا المجال يقول الشاعر:
صاحب أخا ثقة تحظ بصحبته فالطبع مكتسبٌ من كل مصحوبِ
والريح آخذة ممّا تمر به نتناً من النتنِ أو طيباً من الطيبِ
أي إذا كان عندنا أماكن نتنة وجاءت الريح فإنها تحمل تلك الرائحة معها، وإذا كانت الأماكن طيبة مثل بساتين الورود والبرتقال أيضاً، فالريح تحمل معها الرائحة الطيبة، كما في قول الشاعر:
عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه فكل قرين بالمقارنِ يقتدي
فلا تسأل عن فلان وكيف هو، بل اسأل من هو صديقه، على حسب المقولة المشهورة: «قل لي من تصاحب أقل لك من أنت». وهناك آيات قرآنية أكدت هذا المعنى في أكثر من جانب.
وقبل أن نبدأ بالحديث عن القرين كما هو التعبير القرآني، فإن علينا أن ننبه كما نبهنا أكثر من مرة عن الذهنية الخرافية المتخلفة التي يحملها الكثير من الناس، وهي قضية "القرينة"، لأنهم إذا لاحظوا أي حالة مرضية تسيطر على الفتاة أو الشاب أو حالة نفسية، فيقولون إنها القرينة، ويذهبون إلى الذين يفتحون الكتاب حتى يفكوا لهم القرينة بطريقة الخرافات والخزعبلات. نحن نقول لهؤلاء لا يوجد قرينة، وإذا كان بعض الناس أيضاً يتكلمون أن فلانة تلبّسها الجن وفلان تلبّسه الجن، فالله تعالى لم يسلّط الجن علينا، لأنه عالم مستقل يعيش لوحده، ونحن عالم مستقل، هم مكلَّفون بتكاليف من عند الله، فإن أطاعوه أعطاهم أجراً على طاعتهم، وإن عصوه عاقبهم. ونحن أيضاً كذلك.
أما ما يقال بأن الجن يأتي ليتلبّس أحداً، وأنّ هناك بعض الناس أيضاً يُقيمون علاقات مع الجنّ ويوهمونهم بذلك، فيأخذون منهم مبلغاً من المال مقابل إخراج الجن منهم؛ هذه الحالات التي تحدث للناس كلها غير واقعية، سواءً كانت حالات صرع أو حالات نفسية أو حالات عضوية، فالشيء العضوي نرجع فيه إلى الأطباء، والشيء النفسي أيضاً نرجع فيه إلى الأطباء النفسيين أو الأشخاص الذين يستطيعون أن يكتشفوا خلفيات الحالات النفسية للناس. إذاً نحن نتفق أنه ليس هناك شيء اسمه القرينة، أمّا القرين فهو الصاحب الذي يشهد على صاحبه يوم القيامة.
يقول الله تعالى عن بعض هؤلاء الناس الذين يعصونه: {ويوم يحشر أعداء الله إلى النار فهم يوزعون} (فصِّلت/19)، يعني يحبس السابق منهم ليلحق بهم اللاحق، هذا معنى "يوزعون"، أي يأتي الذي يسبق، وينتظر الذي يأتي من بعده، فيحشرون في النار، حتى إذا ما جاؤوها، أي وصلوا إلى النار أو إلى مشارفها، شهد عليهم سمعهم إذا كان الإنسان يستمع الحرام، أو أنه سمع آيات الله تتلى عليه فلم يعبأ بها، وأبصارهم في ما يحرم على الإنسان النظر إليه، أو في ما قامت عليه الحجة من البصر، كمثل شخص يشهد شهادة ويقول رأيت، فالبصر يشهد عليه هذا ليس صحيحاً فهو لم ير، وهذا ما يؤكده الإمام علي (ع) في قوله: «بين الحقّ والباطل أربع أصابع؛ الحق أن تقول رأيت والباطل أن تقول سمعت».
وقد ورد في الكتاب الكريم: {ولا تقف ما ليس لك به علم} الشيء الذي لست متأكداً منه، {إن السمع} في ما سمع {والبصر} في ما رأى {والفؤاد} العقل، _ {كل أولئك كان عنه مسؤولاً} (الإسراء/36)، فالإنسان إذاً عليه أن يعرف كيف يتحرك في أي شيء يتصل بالسمع أو بالبصر أو بكل ما في جلده، فاليد لها دور حلال وحرام، والرجل كذلك، وكل الأعضاء الأخرى التي عند الإنسان أيضاً لها حلال وحرام {حتى إذا ما جاؤوها شهد عليهم سمعهم وأبصارهم وجلودهم بما كانوا يعملون} (فصّلت/20)، يعني أن اليد تشهد وتقول أنا سرقت وضربت، كالرجل الذي ضرب زوجته بغير حق، أو ضرب ابنه من دون حق، أو ضرب جاره من دون حق، أو أمسك السلاح بيده فقتل أو جرح أو غصب؛ كل هذا يشهد عليه، وأيضاً كالشخص الذي يذهب إلى مكان يقام فيه اجتماع لا يرضى الله به، وهكذا في كل شيء.
{وقالوا لجلودهم}، هنا تحدث عند الإنسان مفاجأة، فأذنه تشهد عليه، وبصره يشهد عليه، والجلود التي تتصل بالأعضاء تشهد عليه، فيستغربون من ذلك كله ويسألون جلودهم كيف تشهدون علينا؟ أنتم الذين سوف تتعذبون وهذه الشهادة ليست في مصلحتكم، {وقالوا لجلودهم لم شهدتم علينا قالوا أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء وهو خلقكم أول مرة}، الله الذي خلقكم بكل ما عندكم من طاقات، {وإليه ترجعون* وما كنتم تستترون} أي أن واحدكم لم يكن يختبئ من جلده أو من سمعه وبصره، {أن يشهد عليكم سمعكم ولا أبصاركم ولا جلودكم} لأنكم كنتم تعيشون الغفلة عن فكرة أن الله يتطلع على كل ما عندكم، {ولكن ظننتم أن الله لا يعلم كثيراً مما تعملون} (فصّلت/21-22)، وذلك عندما كنت تختبئ في غرفة أو في أي موقع ما، وأنت تعتقد أن الله لا يراك، {ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم أين ما كانوا ثم ينبئهم بما عملوا} (المجادلة/7)، مشكلتكم أنكم لا تعرفون الله ولا تتصورون أن الله تعالى يشرف على الإنسان في كل سره وعلانيته، في ظاهره وباطنه، {يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور} (غافر/19).
وكما يقول الشاعر:
إذا ما خلوت الدهر يوماً فلا تقل خلوتُ ولكن قل عليّ رقيب
وهناك كلمة للإمام علي (ع) من أروع الكلمات يقول فيها: «اتقوا معاصي الله في الخلوات»، أي عندما تكون وحدك، وتشعر بالأمن بعيداً عن أيِّ حسيب أو رقيب، فاعرف أن الشاهد هو الحاكم وهو الله، لأن الله الذي يراك هو الذي يتولى الحكم يوم القيامة، {لمن الملك اليوم لله الواحد القهّار} (غافر/16) فإذا كنت تعرف أن الذي يحكم عليك هو الذي يشهد عليك، فكيف تقف في موقف تتحمل أنت وحدك مسؤوليته وتتلقى نتائج أحكامه يوم الحساب؟ {وذلكم ظنّكم الذي ظننتم بربكم أرداكم فأصبحتم من الخاسرين* فإن يصبروا فالنار مثوى لهم _ يصبروا على نار جهنم _ وإن يستعتبوا _ يعني إن يطلبوا رضى ربهم، {فما هم من المعتبين} (فصّلت/32-24)، لأنه في الآخرة تغلق أبواب الأعمال ويبدأ حصد النتائج، عندها يتبادر السؤال: لماذا كانت النتيجة هكذا؟ ولماذا وصل هؤلاء إلى ما وصلوا إليه؟ ما هو السبب الذي جعل هؤلاء يصلون إلى هذا المصير وإلى العداوة لله والانحراف عن الخط المستقيم الذي رسمه الله لهم ليسيروا عليه؟ وفي الكتاب الكريم الجواب حاضر بقوله تعالى: {وقيَّضنا لهم قرناء فزينوا لهم ما بين أيديهم وما خلفهم}، يعني هيّأنا لهم. وقد يقول أحدهم إنّ الله يهيئ لنا أصحاباً شريرين؟! لا، هذا غير صحيح، لأن الله جعل الإنسان مختاراً في ما يريد السير عليه، فهو هيَّأ له الأسباب، واختار الإنسان طريقه، وحصل على نتائج اختياره، سلبياً كان أو إيجابياً، ولكن باعتبار أن الله هو الذي خلق الأسباب، ينسب الأشياء إلى نفسه، وليس معناها أنه هو المسبِّب المباشر، بحيث نقول إن الله هو الذي يختار للناس القرناء والأصحاب، {وقيّضنا لهم} هيّأنا لهم {قرناء فزينوا لهم ما بين أيديهم وما خلفهم} يعني زيّنوا لهم المعاصي، سواء التي يقبلون عليها أو التي خلّفوها وراءهم {وحق عليهم القول في أمم قد خلت من قبلهم من الجن والإنس}، أي ثبت عليهم الحكم، لأنهم عندما خضعوا لما زيّنه لهم قرناؤهم من السوء، فثبت عليهم الحق وصدر عليهم الحكم في هذه المسيرة التي سبقتهم {في أمم قد خلت من قبلهم من الجن والإنس إنهم كانوا خاسرين} (فصّلت/25) لأنه عندما أخذوا بأسباب الخسارة، فمن الطبيعي أنهم وقعوا في الخسارة في هذا المجال.
وهناك آية أخرى تتحدث عن هذا الموضوع، مبينةً الأسباب التي يختار بها الإنسان أصدقاء السوء وقرناء السوء، ومن بين الأسباب الغفلة عن الله، لأن الإنسان الذي لا ينظر إلى ربّه بعين قلبه وعقله، ولا يعرف مقام ربه في مواقع عظمته ونعمته وقوته ومسؤوليته، وإذا جهل الشخص مقام ربه، ونسي ربه فمن الطبيعي جداً أن يستلمه الشيطان، فهو بعدها لا يفكر كيف يختار أصحابه وأصدقاءه أو كيف يختار طريقه، لأنه إذا غفل عن ذكر الله فإنه يصبح من دون ضوابط، بل إنه يتحرك وفق شهواته وغرائزه، والله تعالى ذكر: {وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى* فإن الجنة هي المأوى} (النازعات/40-41)، الجنة هي مأوى الذي يخاف مقام الله تعالى.
وأما الإنسان الذي يغفل عن ذكر ربه، فإنه يستسلم لهواه ولشهواته، ويجعل هواه هو العنوان الكبير الذي يحكم كلَّ حياته، ويرى أن كل ما يحكم حياته هو أن يحقق أهواءه وأن يحقق شهواته، كبعض الناس الذي يقول المهم أن أحقق أحلامي، حتى لو كانت أحلامه أحلام السوء وليست أحلام الخير، وفي هذا يقول تعالى: {ومن يعش عن ذكر الرحمن _ يتعامى، والأعشى هو الذي لا يرى، بعضهم يقول الذي يفقد الرؤية، والبعض يقول هو الذي لا يرى في الليل ويرى في النهار، _ ومن يعش عن ذكر الرحمن _ أي يعرض عن ذكر الرحمن، وذكر الرحمن أن يذكر الله بعقله فيشرق عقله بالله، ويؤمن بأن الله يراقبه في كل حركة فكره وفي كل ما يخطط له عقله، وأيضاً في قلبه عندما ينبض قلبه بالخير.
وقد ورد عن الإمام جعفر الصادق (ع) في تعليقه قوله: إن ذكر الله على كلّ حال ليس قولك سبحانه الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر، وإن كان ذلك منه، ولكن أن تذكر الله عند كل واجب فتفعله، وأن تذكر الله عند كل حرام فتتركه. وهو أن تذكر الله بحيث ترى أن الله يراقبك ويراك، وأنّ بعد هذه الرؤية والمراقبة هناك حساب وعقاب، {ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيِّض له شيطاناً فهو له قرين} (الزخرف/36) وليس معنى ذلك أن الله يأتي له بهذا الشيطان ويقول له اذهب عند فلان، لا، لأن الإنسان إذا عمى وأعرض عن ذكر الله ونسي الله وغفل عنه، فإن من الطبيعي أن الشياطين يتسلمونه ويأتون إليه ويحيطون به من كل جانب، سواء كانوا من شياطين الإنس أو الجن، لأنه ليس عنده ما يمنعه من الدخول إلى عقله وقلبه وحياته، {وإنّهم} هؤلاء الشياطين {ليصدّونهم عن السبيل}، عن سبيل الله، وعن طريق الله، فإذا أرادوا السير في الطريق المستقيم صدوهم بما يستمعون إليه منهم.
الآن مثلاً هناك الكثير من الأشخاص إذا رأوا شاباً يريد أن يلتزم بأوامر الله ونواهيه، أو إذا رأوا فتاةً تريد أن تتحجب وتلتزم بأوامر الله ونواهيه، فإن بعضهم يقول أنت ما زلت شاباً وأنت ما زلت صبية، غداً تلتزمون عندما يصبح عمركم 50 أو 60 سنة. إنّ الله كلَّف الإنسان منذ بلوغه سن التكليف، ومعناه أن الله يسجِّل له الثواب والعقاب على المعصية والطاعة. أو يقولون انظروا هذه الدنيا بكل ما فيها أين أنتم فيها وأين تعيشون؟ وفي أي زمن؟ أو أي محيط؟ هذه وساوس الشيطان، {وإنهم ليصدّونهم عن السبيل ويحسبون أنهم مهتدون} (الزخرف/36-37)، إنهم ينصحونهم ويبصّرونهم لعلَّهم ينفتحون على الحياة والعصر حتى تتقبلهم الناس وتمتدحهم، {حتى إذا جاءنا} ووقف في موقف يوم القيامة ورأى صاحبه الشيطان الذي كان معه وعرف النتائج {قال يا ليت بيني وبينك بعد المشرقين} بحيث لا أراك ولا تراني {فبئس القرين} لأنك أنت ورّطتني وجعلتني أتحرك في الأمور التي جعلتني في موقع غضب الله وسخطه، وفي موقع عقاب الله سبحانه وتعالى.
والله يعلّق هناك ويقول: {ولن ينفعكم اليوم إذ ظلمتم _ يعني أنفسكم _ أنكم في العذاب مشتركون} (الزخرف/39) يعني أنكم مجتمعون، لأن كل واحد يتعذب على حسابه، فعندما يجتمع الأصحاب في النار فكل واحد يأخذ نصيبه من العذاب. فمن الطبيعي أنه لا ينفعهم كونهم يتعذبون بعضهم مع بعض، لأن كل إنسان لا يجزي عن الإنسان الآخر، بل يتحمَّل كلٌّ منهم عذابه باعتبار أنه يتحمل مسؤوليته وحده، {وكلهم آتيه يوم القيامة فرداً} (مريم/95) {واخشوا يوماً لا يجزي والد عن ولده ولا مولود هو جاز عن والده شيئاً} (لقمان/33) {ولن ينفعكم اليوم إذا ظلمتم أنكم في العذاب مشتركون}، فمشكلة هؤلاء الناس أنهم عُمي البصائر وصمّ الأسماع، {أفأنت تسمع الصمّ أو تهدي العمي ومن كان في ضلال مبين} (الزخرف/40).