يحتلّ التلمود مكانةً هامة داخل الديانة اليهودية، ويعتبر الركن الأساسي فيها، وما يعرف باليهودية الربانية ليس سوى تلك اليهودية التلمودية التي تدين إلى الرباني يهوذا بن سيميون بن جامليل 135-217م.
والتلمود هو مجموعة قواعد ووصايا وشرائع دينية وأدبية ومدنية وشروح وتفاسير وتعاليم وروايات تتناقلها الألسن، فوصلت شفاهاً وسماعاً إلى الناس، وقبلت إلى جانب الشرائع المدوّنة في أسفار موسى الخمسة. وخوفاً من النسيان والضياع، وحفظاً للأقوال والنصوص ولكثرة الشروحات والاجتهادات، فقد دوّنها الحاخاميون وشكّلت ما يسمى بالتلمود.
ومن المفيد الإشارة إلى أن هذه الشريعة الشفوية لم تصبح بمنـزلة الشريعة المكتوبة إلا بعد خراب الهيكل الثاني، أي منذ عام 70م وحتى مطلع القرن السادس، وذلك بيد المعلمين المعروفين بـ"التنائيم".
توجد نسختان من التلمود: التلمود الفلسطيني والتلمود البابلي، وقد كتبتا في أوقات متباعدة، واختلفتا في المضمون وأسلوب العرض واللغة، أما التلمود الفلسطيني فيرجع تاريخه إلى منتصف القرن الرابع للميلاد، وكتب على يد الرباي يوحنان بن نبحة مؤسس أكاديمية طبرية، وهو يكتفي بالشرح أو التحاليل لنص المشنا مع سرد مناقشة غير مطوّلة بين الأحبار، ويعتبر المرجع الفصل في كلِّ نظرية فقهية ومعاملة تشريعية. وهو يتميز بالاقتضاب.
أما التلمود البابلي فإنه يفتح باب النقاش واسعاً، فلا تنتهي إلى قول مرجّح، وهو نتاج الأكاديميات اليهودية في العراق، وتبلغ حجم مادته ثلاثة أضعاف التلمود الفلسطيني، ما جعله يحتل منـزلةً رفيعةً ويغدو مرجعاً هاماً لا غنى عنه.
نشأة التلمود وتكوينه:
اشترك في كتابة التلمود أقلام كثيرة، وتعددت مراحل كتابته، فاختلفت في كل مرحلة أساليب جمعه وتصنيفه وتبويبه وتدوينه.
المرحلة الأولى تبدأ بمجيء عزرا الكاتب من بابل، وتمتد حتى عصر المكابين 450-100ق.م.
خلال هذه الفترة، جرى جمع القسم الأكبر من الكتابات وتمّ إضافتها إلى التوراة لتغطية الأوضاع والنواحي الجديدة وتكييف بعض الشرائع التوراتية وفقاً لمتطلبات الحياة، ويطلق على هذه المرحلة مرحلة الكتبة الذين انحصر نشاطهم الرئيسي في حقل نشر التعليم الديني إلى جانب بعض التشريعات والمراسيم التي كان لها أثر في ترتيب التوراة وإثبات نصّها المعياري.
المرحلة الثانية تبدأ فيما بين "المكابي والهيرودي"، وخلال هذه الفترة ظهر ما يعرف بالمعلمين الكبار الذين أطلقت عليهم تسمية "الأزواج" "زوجوت"، وقد غطّى هؤلاء خمسة أجيال، ويمثّل كل زوج منهم المنصبين التاليين: رئيس السنهدرين أو الأمير ولقبه النّاسي، ونائب الريس أو رئيس بيت الدين، وهم حسب التسلسل:
- جوزية بن يوعزر جوزية بن يوحنان
- يشوع بن فراحيا نطّاي الأربيلي
- يهوذا بن طباي سمعان بن شطاح
- شماعيـا أتباليـون
- هيـلّل شـمّاي
وبالرغم من الخلافات التي حصلت بين هؤلاء حول ممارسة بعض الفرائض الدينية، فإنهم لعبوا دوراً هاماً في تطوير الشريعة الشفوية. وهناك العديد من الروايات والأقوال الهجادية والأحكام الشرعية والقوانين التي تنسب إليهم، خاصة الزوج "هيلّل وشمّاي" اللذان تنسب إليهما الكثير من الأحكام الشرعية التي تحمل اسميهما، وكان هناك خلاف دائم بينهما استمرّ حتى مع الأجيال اللاحقة. وفي القرنين الأولين للميلاد، يظهر التنائيم، أي المعلّمون والثقاة، ومعظمهم يحملون لقب "رابي" بمعنى سيدي، وكان أشهر هؤلاء الرابي "مائير" الذي تابع العلم التنظيمي للتقاليد الشفهية بعد معلّمه قليبا، وتنسب إليه المصادر اليهودية أنه وضع الأساس لجمع المشنا.
ومن اشتهر منهم أيضاً النّاسي، وكان رئيس السنهدرين، وينسب إليه جمع المشنا وتصنيفه وتبويبه، وتقسيم المادة المجموعة إلى ستة أجزاء عرفت بالسّدريمات الستة، ويحتوي كل سدر على عدد من المقالات أو الأسفار. وكل مقالة تقسم إلى عدد من المفاصل، ويتألف كل مفصل من فقرات عديدة تعرف بـ"حلقوت"، وهي الأحكام الشرعية، ويبلغ عدد هذه المقالات63/ثلاث وستون مقالة. وقد اعتبرت مجموعة الرابي يهوذا النّاسي بمثابة المشنا الأوحد.
وفي وقت لاحق وبالتحديد في مطلع القرن السادس، بلغت الشروحات والتفاسير مداها الأقصى، وكانت تدعى "الصابورائيم"، أي التأمليون والشرّاح في أقوال السلف وأصحاب الرأي، وأشهرهم الرابي "جوزية" والرابي "آحاي". والراب "جيزا" والراب سمعونا، وقد انحصر نشاط هؤلاء الصابورائيم بالتعليق على التلمود بواسطة إضافات وهوامش تفسيرية وشرحية، إلى جانب بعض المجالات التي أضيفت إلى التلمود دون ذكر أسماء المشتركين فيها وبأسلوب غريب، كما أدخلوا على التلمود بعض القراءات النهائية حول اختلاف الآراء لدى أسلافهم.
أقسام التلمود
يقسم التلمود إلى قسمين رئيسيين هما " المشنا والجمارا":
المشنا:
هي مجموعة قوانين اليهود السياسية والحقوقية والمدنية والدينية التي تتضّمن القواعد والأحكام بغير نقاش غالباً، والمشنا أشبه ما تكون بالكتاب القانوني أو مصّنف الأحكام الشرعية والفقهية التي تدعى " هالاغا"، أي المذهب أو المسلك أو الطريق الذي يذكّر بالأحكام والفرائض والتشريعات الواردة في أسفار " الخروج واللاويين والتثنية والاشتراع"، ويبقى الحلال والحرام والطهارة والنجاسة وغيرها ممّا ورد ذكره في التوراة وفسّره الفقهاء اليهود ووضعوا له حدوداً وقيوداً تلائم حاجة العصر الذي كانوا يعيشون فيه.
المشنا تتألف من ستة أقسام رئيسية تدعى " سداريم" جمع سدر. وكل سدر يضمّ عدداً من الأسفار أو المقالات أو الكتب تضمّ عدداً من الإصحاحات أو الفصول تسمى " برقيم"، وتكوّن بمجموعها 63 مقالة.
1 - الزراعة: وتعرف باسم البذور Seeds، وفي العبرية Zeraim. يتحدث هذا القسم عن النظم والقوانين المتعلقة بالزراعة في شيء من الإفاضة والتفصيل، فيبحث في الريّ والحرث والحصاد، ويتناول مختلف أنواع زراعة المزروعات والحقول والحدائق والعناية بها، سواء كانت مثمرة أو غير مثمرة، ويربط هذه الأعمال بالعبادة اليومية، ويبين حق الفقراء في الحصاد، ويتحدث مع ذلك عن حمد الله بعد الطعام، وصيغ التبرك التي تتلى في أوقات مختلفة.
2 - الفصول أو المواعيد: وهي تتحدث عن تبجيل يوم السبت والعبادة فيه، وعن مواعيد الصيام، والأعياد والاحتفالات، كما يتناول التقويم اليهودي.
3 - النساء (ناشيم)، ويعرض فيه قوانين الزواج والطلاق، والجوانب الجنسية عامة، ويفصّل العلاقة بين الزوجين وحق كل منهما على الآخر، وقوانين العيش والطلاق، والنذور... إلخ.
4 - الجروح والجنايات (نازكين)، ويتناول فيه باستفاضة الشؤون المدنية والمسلكيات والتصرفات في الحياة العامة، من التعامل والاعتداءات، وجزاءات كل عدوان، ويتحدث فيه عن الآداب والأخلاق، مثل حسن التعامل ورعاية الحقوق، وحقوق الوالدين، وما إلى ذلك، كما إنه يعرض الوصايا والتفسيرات الشفوية من عهد موسى إلى عهد هليل وشماي، فضلاً عن نظم التقاضي، وقوانين القضاء، مما يجب أن يفعله القاضي والمتقاضون، ونظم التجارة والإبحار والسياسة والاجتماع...
5 - المقدسات (كادا شيم)، وهو مخصص لأعمال الضحايا والهيكل ومرافقه، وتنصيب القسس وواجباتهم، كما يتحدث عن الذبائح والأطعمة.
6 - قسم الطهارات «توهوروت»، ويتطرق فيه إلى الحديث عن التطهر والنجاسة والطاهر والنجس في الإنسان والحيوان، والحيوانات الطاهرة والنجسة، والأشياء التي تستعمل، وما يجوز أكله من الحيوان وما لا يجوز.
هذه بإيجاز أهم أقسام المشنا، وقد أضاف «الربانيون» و«الأحبار» إليها زيادات عرفت باسم «التصافوت» _ أي الإضافات، ومع هذه الإضافات لم تحو المشنا كل المأثورات.
ويرى بعض الباحثين المحدثين أن بعض أخبار المشنا مأخوذ من مصادر إسلامية في وقت متأخر، كما فعل موسى بن ميمون، والمشنا ظل بابها مفتوحاً للنمو والزيادة حتى العصر الحديث.
وفي قسم المواعيد والمواسم، نجد أحاديث عن إبراهيم وسارة لم ترد في التوراة، وقد بالغ الباب في وصف سارة بالجمال البالغ إلى الحد الذي لم يستطع فيه إبراهيم طوال الفترة التي قضاها معها أن يملأ عينيه منها، ويذكر لهذا الجمال أعاجيب ونوادر هي ولا ريب من الخرافات، وجاء في بعض نسخ المشنا أن إبراهيم يشفع لليهود يوم القيامة، ويذودهم عن النار.
ويوجد في أقسام المشنا تضارب في الروايات، لذلك قال بعض الباحثين بأن أشياء أضيفت في وقت متأخر لم تكن متسقة مع ما سبق، حيث تكونت من مقالات عديدة متفرقة. وقد كان من تساهل الفريسيين أنهم قبلوا الشروح والروايات الكثيرة التي لم تسلم من التضارب رغم ما بذل في تمحيصها.
ومهما يكن من أمر هذه الروايات الشفوية والكتابات، فقد اتخذت مكانةً تلي التوراة في قداستها، ومنذ عهد الرباي يهوذا بن سيميون، كان لها المكانة الأولى في المدارس اليهودية، سواء في فلسطين أو في بابل.
الجمارا _ Josefto
الجمارا _ أو الإضافات _ مجموعة أخرى ضمت إلى المشنا واستقلت بهذا الاسم. وأصلها من عمل المعلمين الذين كانوا في عصر الرباي يهوذا ولم يكونوا أعضاء في مجلسه، فقد عملوا من جانبهم على جمع روايات أقل شهرة، كما جمعوا الروايات التي استبعدها يهوذا من مشناه، ولكن هذه لم تكن قليلة الأهمية، ولا مما يليق التخلي عنه، ومنها أقوال وروايات نجمت عن مدرسة عقيبا وإسماعيل ونسجت حولها شروح وتفاسير في أقوال المعلمين Amoraim، فرأى الدارسون أن يجمعوا ذلك كله مع بعض الأحكام الشرعية Halachath، والإجابات عن المشاكل التي عرضت، كل ذلك جمع أخيراً وكون الجمارا، وهي بمعنى الإنهاء والإنجاز، وهي، كما هو واضح، وسعت المشنا، لأنها تحوي أحكاماً ومواد ليست في المشنا، منها القديم الذي لم يأخذه يهوذا، ومنها المستحدث.
لم تجمع الجمارا إلا بعد 300 عام من اكتمال المشنا، وقد ثار جدال طويل بين المفسرين حول المواد التي تكوّنت منها الجمارا، وبالرغم من كونها مجمّعة من الروايات الشفوية والمشنا، كان يراد لها أن تكون معتمدة على نصوص التوراة. وقد كتبت باللغة الآرامية.
من المشنا والجمارا معاً يتألف التلمود الذي هو نتيجة تفاعل الشريعة المكتوبة مع أوضاع الحياة المتغيرة والحاجات الطارئة، فهو يعتبر بمثابة سجل حافل يبين خلال المناقشات والشروحات والأمثلة والردود والروايات، كيف كان اليهود يحاولون تطبيق الوصايا والفرائض التوراتية في حياتهم اليومية، وحين يصطدم التطبيق العملي بالنصوص المقدسة تبدأ المشكلة بالظهور وتكثر الاجتهادات، بينما يتصاعد البحث عن الحلول والمخارج.
تنقيحات وإضافات مستمرة:
استمر المعلمون والربانيون ينقّحون مواد التلمود ويضيفون إليها، وظل هذا النشاط دائباً في كلتا المدرستين: الفلسطينية _ والبابلية، وظهر في هذا الميدان ربانيون ومعلمون نالوا شهرة عالية، وأضافوا إلى المقدسات اليهودية آثاراً قيمة من الشروح. في بابل بلغ النشاط المكثف قمته على يد المعلم أباي (283 _ 338م) والمعلم رابا (299 _ 352)، وهذا الأخير تميز ببلاغته، ما جعل المعلمين من بعده يتبعونه في منهجه وطريقته، ولم يلبث أن كثرت أعداد الشراح مقتدين بأباي ورابا، حتى تراكمت الشروح، واحتاجت إلى تنقيح جديد وتصفية، فظهر معلمون جدد لا يشرحون النصوص القديمة، بل ينقحون الشروح ويفاضلون بينها ويختارون، وبرز في هذا الميدان المعلم راب آشي Rab Ashi ت 427، وقد رأس أكاديمية سورا Sura أكثر من خمسين عاماً، وإليه ينسب معظم التلمود البابلي، وتلاه خلفاء أشهرهم رابينا الثاني _ 500م _ وهو آخر المعلمين وآخر من علّم التوراة معتمداً على الروايات الشفوية، وبشرحه وصل التلمود إلى نهايته تقريباً، ولكن بقيت الشروح والتعليقات مستمرة.
كارثة اليهود في بابل
تعرّض يهود بابل، كما تعرض يهود فلسطين خلال القرنين الخامس والسادس ق.م إلى محن أليمة، فبعد موت الربانى آشي Ashi (500م)، فتر النشاط اليهودي، وزاد خطر المزدكية في بلاد فارس، والذي كان قد بدأ في حياة آشي ولكنه اشتد بعده، حيث انقاد كسرى يزدجرد الثاني (438 _ 457م) إلى تحريض المجوس على محاربة الأديان الأخرى ـ عدا المجوسية ـ ونال اليهود من اضطهاده ما لم ينله أتباع الأديان الأخرى، لشدّة إصرارهم على دينهم وعلى عنصريتهم، ولما خلفه ابنه فيروز (459 _ 486م) بلغ اضطهاد اليهود ذروته، فأغلقت مدارسهم وشدّد من حصاره على أكاديمية صورا.
وفي أول القرن السادس 501م وعقب موت آشي مباشرة، طغى مذهب مزدك الذي جعل الممتلكات والنساء حظاً مشاعاً بين الناس، ففرح به الأوباش والرعاع، والتفوا حول دعاته طمعاً في الكسب الرخيص، ولحق باليهود اضطهاد عنيف، ولكن مدة مزدك لم تطل، فقد مات سنة 528م، فتنفس اليهود الصعداء من جديد، وظهر بينهم معلمون جدد كانوا يسمون ساباريم Sabaraim، وهي كلمة عبرية تعني المفكرين أو المتأملين، لأنهم كانوا يطيلون التأمل والتفكير في أقوال المعلمين السابقين في التلمود، ويضيفون إليها بناءً على تأملاتهم شروحاً جديدة، وبهذا صار اليهود يعيشون على الماضي وحده، وشاعت بينهم في هذا الوقت رذائل ربما يعود سببها إلى ضعف الدعاة، وإلى ما مارسته المزدكية عليهم من ضغوط.
ودخل الإسلام فيما بعد بلاد بابل والعراق، وتحول معظم السكان إليه، لكن الحكام المسلمين تركوا اليهود على ديانتهم. فبقيت لليهود معابدهم، وأعادوا ما كان قد هدم على عهد يزدجرد وفيروز، لكن مراكز اليهود الروحية في بابل وفي فلسطين كانت قد فقدت تأثيرها وفاعليتها، ولم يعد اليهود في المناطق النائية يتوقون إليها ويستقون منها عظاتهم وتوجيهاتهم كما كانوا يفعلون من قبل، وكانت هذه المراكز تعمل على الاتصال بهم وإقامة الروابط بينهم، فكان التلمود وحده هو الذي يؤدي هذه المهمة، وظلت تعاليمه هي الإطار الذي يجمعهم. وقد يعجب المرء لشدة تمسكهم بمبادئ التلمود، ولكن يجب أن لا يغرب عن البال، أن مقولة الشعب المختار قد ارتكزت في أذهانهم، وبقيت تغذي نزعتهم العصبية التي بها كانوا يترابطون، ويعيشون معاً في أحياء خاصة.
حركة القرّائين
انبعثت هذه الحركة حوالي منتصف القرن الثامن الميلادي في العراق، وكانت استجابةً لصيحة حبر يهودي يدعى عنان بن داود Anan ben Dawid. وكان من عمله أنه أنكر التفسيرات الشفوية ودعا إلى نبذ التلمود وكل الفروع الشفوية الأخرى. ويبدو أنه كان متأثراً بآراء الصدوقيين ومذهبهم، فدعا إليه، ولاقت دعوته أنصاراً كثيرين باتت الديانة اليهودية من أجلهم مهدّدة بالانقسام، واتهم هو بالردة والرغبة في التخريب، ولكن وقوف أخيه الأصغر إلى جانبه والدعوة إلى المذهب العناني كانا قد أبعدا عنه المخاطر، كما إنّه شكّل حركةً استقطابيةً كبيرة، فكثر به أتباع هذا المذهب.
وأنصار هذا المذهب سموا القرائين Karaits، تمييزاً لهم عن المذاهب الأخرى. وكانت لهم تعاليم صارمة عنيفة أخذوا فيها بحرفية النص التوراتي، فأضحى التلمود معهم أثراً غير ذي قيمة، ومن أهم تعاليمهم اعتزال العمل نهائياً يوم السبت.
مذهب القرائين فيما وراء النهرين
ومما أعطى حركة القرائين دفعاً وقوةً وسعة انتشار، انضمام ذوي الثقافة العالية إليها، فكثر أتباعها في الأراضي البابلية أولاً، ثم جاوزتها إلى خارج أرض بابل، وبالتحديد إلى بلاد فارس لقربها من بابل، وفي القرن التاسع الميلادي، انبعثت حركة نشيطة على يد بنيامين النهاوندي _ تلميذ عنان _ فعمل بقوة على تثبيت المذهب، ولكنه هذّبه بعض التهذيب، فمع عدائه _ تبعاً لأستاذه _ للتفسيرات التلمودية، لم يتشدد في التمسك بحرفية النص مثله. والميزة التي امتاز بها أنه كان ذا نزعة فلسفته، فأدخل فلسفته على تعاليم التوراة، وكساها ثوباً جديداً، ولم يقصر تغييراته على الطقوس والعبادات، بل تعداها إلى جوانب عقدية كانت مثار جدل من قبله، وظلت أيضاً من بعده. وكان عمله مجرد تحوير في المذهب، لأنه بتفسيره التوراة بآراء فلسفية وقع في ما عابه عنان على الربانيين، إذ فسروها بآراء ونقول شفوية.
ومن تفسيراته الفلسفية أن الله تعالى أسمى من أن يتصل بالمادة أو بهذا العالم الدنيوي، ولذا هو لم يخلق العالم، وإنما خلقه ملك أمره الله بخلقه، وقد حملته هذه الفكرة على أن يعتبر نصوص التوراة من الرموز والمجازات، فابتعد بذلك بالمذهب عن أصله، وحملته فلسفته ثانياً أن ينكر حياة الروح منفصلة عن الجسد، وبوجه عام كان عمل النهاوندي تحويراً واسعاً لمذهب القرائين وبعداً به عن أصله.
وعاصر النهاوندي متفلسف آخر هو دانيال الخوميسي، وكان صاحب نزعة مخالفة لصاحبيه معاً، سواء في العقيدة أو الشريعة، فقد أنكر النـزعة التأملية التي دعا عنان إليها، وكذلك أنكر النـزعة الرمزية التي نادى بها النهاوندي.
ومن اتجاهاته الهامة، أنه أنكر الحساب الفلكي الذي ابتكر من قبل لإثبات بدايات الشهور العبرية ونهاياتها، وجعل الاعتماد على الرؤية وحدها، لأنه لا يعتمد شيئاً من أعمال الربانيين اليهود، وخالف النهاوندي في نقطة أهم، وهي أنه أنكر وجود الملائكة نهائياً، ولكنه جعل الخلق والإفناء من مظاهر الكون راجعة إلى قوى الطبيعة، والله هو الذي يسير هذه القوى، وحيث إن التوراة تذكر الملائكة، فقد أوّلها هو بأنها هي الطبيعة، وبذا لوى نصوص التوراة التي يدعو إلى التمسك بها.
هؤلاء الثلاثة الكبار أبرز علماء المذهب القرائي خلال القرن التاسع، وكان لكل واحد منهم مدرسته وأتباعه، وبهم تشقق المذهب وصار مذاهب مختلفة متضاربة.
مسارات حديثـة
ظهرت هذه النـزعة في القرن الثامن عشر، وكانت ذات أثر في تطور حياة اليهود وعلاقتهم بالآخرين، وربما كانت راجعة إلى حركة الاضطهاد التي كانت قد سادت معظم أو كل الشعوب الأوروبية ضد اليهود قبل ذلك، كما نشأ عنها انعزالهم وتقوقعهم على أنفسهم بعيداً عن مجتمعاتهم، وقد تكون هذه الحركة الصوفية راجعة إلى طبيعة الشخص الذي بدأها، والصفات النفسية التي تميز بها.
تأسست هذه الحركة على يد شخص يدعى: «إسرائيل بعل شم» وهو عابد متصوف عاش بين سنتي 1700م ـ 1760م، وكان يعيش في مقاطعة كارباثيان Cerpahtian، في شمال البلقان. عاش حياة صوفية زاهدة قريبة إلى الرهبنة، قوامها العبادة والتأمل، وقد اجتذب إليه عدداً من المعجبين كتلاميذ وحواريين، ثم تكاثر أتباعه ونسبت إليه معجزات وخوارق تناقلها الناس، وزادوا عليها أو زينوها، ما أشاع الطريقة ودعا إليها الكثيرين.
وبعد موته سنة 1760م، قام بالدعوة الرباي باير Baer، فوسع دائرتها، وأكسبها إيجابية أكثر، فنظم إرساليات بدأت في أوكرانيا، وانتشر نشاطها في أجزاء كثيرة في أنحاء أوروبا الشرقية.
واعتبرت هذه الحركة امتداداً لحركة العباد Hassidims التي ظهرت في العصر الهلليني، والتي قاومت تيار الهللسيتينة، وانبثقت منها فرقة الفريسيين، وسُمي القائمون بها باسم العُبَّاد أو الأتقياء، وهم الذين أضفوا على أسفار التوراة الأولى _ أسفار موسى _ صفة القداسة والبهاء.
ولا يبدو أن هذه الحركة كانت امتداداً لحركة العباد، ولكنها كانت منفعلة بها، وهي منفعلة أكثر بحركة أخرى سبقتها تتّصف بالصوفية والعبادة، وهي حركة أو جماعة القبالة The Kabbaleh. وكلتا الحركتين ذات صبغة فلسفية وصوفية، ولكن الحركة الحديثة لم تخل من الفكر اليوناني ومن عناصر أخرى ربما كانت هندية أو فيثاغورية.
ومن أبرز تعاليمهم _ أو هو أبرزها _ أنها تفترض وجود وسيط بين الله وبين المخلوقات، وسموه القديس أو الصديق Zaddik، وقالوا إنه شخص يتصف بالتقوى والورع، وإن حياته روحانية أكثر منها مادية، ويحصل المريدون من خلاله على الرحمة الإلهية، وفضل الله، وهو ذو قدرة على الاتحاد بالإله، ويستطيع ذوو الاستعداد الروحي أن ينمّوا صفاتهم ومقدرتهم الروحية بواسطته.
ولهؤلاء العباد نزعة أخرى، إذ يقررون أن الإشعاع الإلهي إنما ينشأ وينمو من خلال التفكير في الذات الإلهية، كما إن هذا ينتقل من الأستاذ إلى مريده، وقد جعل هؤلاء الأستاذ الصوفي مصدر تشريع كما هو مصدر إشعاع، وأحلّوه محل التوراة ومحل الربانيين المفسرين، وهذا ما أثار غضب المحافظين اليهود عليهم، وهو أهم أسباب الإثارة، فأعلنوا سخطهم وإنكارهم لهذه الطريقة، وأثاروا كراهية واضطهادات عنيفة واسعة ضدهم.
الخروج من العزلة
في هذا القرن، تغير فجأة موقف اليهود، فبرزوا من عزلتهم، وبدأ الناس في أوروبا وأمريكا يقبلونهم مواطنين، وقد كان للثورتين الكبيرتين؛ الثورة الفرنسية وثورة تحرير العبيد في أمريكا، أكبر الأثر في هذا التغير، فعلى إثرهما شاع بين الناس شيء من التسامح، وزال الفرق الواسع بين الطبقات، ما سّهل ظهور اليهود واندماجهم بالشعوب التي يعيشون بينها.
ومع تقدم الحركة الصناعية والثقافية الحديثة عامةً ظهرت لليهود مواهب في مجالات كثيرة في الجامعات والمصانع وغيرهما من القطاعات، وأضحى التأثير متبادلاً بينهم وبين البيئات التي عاشوا فيها، غير أنّ اليهود رغم تغلغلهم في كلِّ جوانب الحياة، ظلّت لقاءاتهم مغلقة باستمرار، وظلوا يعملون على تحقيق مملكتهم المنشودة، وظل تعصبهم فيما بينهم يزداد ويقوى، فكل يهودي يؤثر التعامل مع أخيه اليهودي ويعمل على نفعه وصالحه حتى لو كان مما يضرّ بالآخرين.
ومما تميز به اليهود أنهم كانوا قد شكّلوا طبقة برجوازيةً تكتنـز المال، فكثرت أعداد هؤلاء في البلاد الأوروبية، وامتلكوا المتاجر والمحال الكبرى والمصانع، فوظفوا بها كثيرين من غير اليهود، ما أشعر بالحاجة إليهم وأنشأ ألفة بينهم وبين الناس.
كما ظهر منهم علماء في الاجتماع والفلسفة والطب وغير ذلك ساهم إلى حد كبير في سيطرة هؤلاء على أهم مفاصل الحياة السياسية والاقتصادية والفكرية والعلمية وغير ذلك في أوروبا.
وفي سنة 1965م، حصلوا من البابا لويس السادس على قرار ببراءة اليهود المعاصرين من دم المسيح، فكان ذلك عاملاً كبيراً في إزالة الجفوة بينهم وبين الأوروبيين.
يتبع