قد يشعر الإنسان بالحيرة إذا ما اضطر للخيار ما بين أمرين، يمكنه أن يختار بينهما ، ولكنه يشعر ان حياته انتهت عندما يتمزق ما بين " ديانتين " وهو قد يكون هو نفس ما شعر به الخليفة الفاطمي الحاكم بأمر الله بعد ان تمزق ما بين انتمائه لوالده الخليفة ، وخاله البطريرك ، فارتضي أن يتحول إلي إله له أتباع ولأن الآلهة لا تعيش علي الأرض، اختفي في أحد كهوف جبل المقطم ، ليتلاشي جسده من خارطة الزمان والمكان ويتبقي بدعة مذهب الدروز ، ولأنه كان خليفة تحولت حيرته إلي مذهب ، وطقوس، ومؤمنين ، وأتباع .
اما البسطاء فتكفيهم الحيرة فقط، وهو ما حدث ل"مها" الفتاه المصرية التي ولدت لعائلة مسيحية، متوسطة الحال، لم تكن تمتلك الكثير من المال ولكنها كانت تمتلك الكثير من الاحترام والأخلاق والكرامة ، وجمال ابنتهم الباهر الذي اجتذب اليها العرسان ما إن عبرت سنوات الطفولة، حتي جاء العريس الذي لايرفض، شباب، و أصل، وجاه، وعائلة، ومال بلا نهاية، وفي أيام قليلة تم الزواج بين نظرات الحسد التي أحاطت بها فحتي حقائب ملابسها أحضرها لها العريس من أوروبا ، وانتقلت العروس السعيدة "لمنزل الزوجية قصر رائع، ومضت الأيام الأولي ، وهي لاتصدق نفسها من إحساسها بالسعادة ولم يقلقها الاهتمام المبالغ فيه من حماتها واطمئنانها علي زوجها كل ساعة تقريبا وتدخلها السافر في أدق التفاصيل الخاصة ، ولكنها وجدت لها مبررا معقولا فهي أم تريد الاطمئنان علي ابنها الغالي ، حتي عندما بدأت تسأل عن موعد خروجه وعودته إلي المنزل، التمست لها ألف عذر وعذر، وعندما بدأ يتغيب عن المنزل لساعات طويلة بدأ القلق يزحف إلي قلب العروس انقلبت الآية وبدأت الأم تلتمس له الأعذار والحجة جاهزة ، فالتجارة تحتاج صاحبها دائما ، ولم تمض فترة طويلة حتي أدركت العروس رغم قلة خبرتها أن عريسها غريب الأطوار، فعندما يعود إلي المنزل يتحرك وكأنه لايراها، لم يكلف نفسه في ابتكار الأعذار أو حتي التودد إليها، ضيقت عليه الخناق حتي تبرع وأخبرها بحقيقة أمره فهو صاحب مزاج وله سهراته الخاصه التي لن يتخلي عنها ، وتغيرت الأمور بعد مصارحته لها، سكنتها الحيرة ولازمها الصمت الذي ورثته من كل حكايات الجدات عن الصبر وتحمل الزوج ونزواته ، تحملت وهي تعلم أن زواجها عقدة من حرير لن تنفك أبدا ، حتي عندما أحضر أصدقاءه للمنزل ، انزوت في أحد غرفه الباردة، كانت تصلها أصوات المرح المجنون ولم يكتف هو بانزوائها وصمتها بل طالبها بمجالستهم والترحيب بهم ، فرفضت فضربها، وتفنن في إذلالها وتذكيرها بأنها أصبحت كالأسيرة في منزله، اشتكت لأسرتها ، ولقس كنيستها ، ولم تفلح كل التدخلات، هجرت القصر وعادت إلي منزلها الذي يحيط به صخب الحياة ، ولكنها كانت تعود ، بعد وعود بإصلاح الحال ، وسفره للعلاج في الخارج ، المهم أن تختفي الفضيحة وتتحمل هي ، وفي المرة الأخيرة أخرجت أمه كل مخالبها المزينه بعشر قراريط من الألماظ، وأفهمتها أنه لامفر وأنه لايوجد من يمكن أن يخلصها وهي علي وجه الأرض وإن كان ولابد فلتنتظر الخلاص في السماء، وسأترك لها ان تنهي قصتها بنفسها: كان من الممكن أن أصبر إلي ما لا نهاية ولكني لم أتحمل شذوذه وجنونه عندما طالبني أن أستجيب لطلبات أصدقائه، فهم أقرب إليه من نفسه، ولم يكن أمامي سوي الطلاق، وفشلت تماما في الحصول عليه، فحالتي لايمكن إثباتها وحتي إذا وجدت من يصدقني فالأفضل أن أصبر، طرقت كل الأبواب، وفي النهاية تحولت إلي الإسلام وحصلت علي حريتي، تركت ديني وأنا مرغمة، وعدت للحياة مع أسرتي، ومرت السنوات وأنا سجينة اختياري كثيرا ما كانت تطاردني نظرات اللوم، وفي بعض الأحيان الاحتقار ، وقليلة كانت هي نظرات الإشفاق ولم أكن أملك أن أقص حكايتي التي نسيها من يعرف حقيقتها ولم يتبق غير رواية زوجي وأهله عن كفري ومروقي، وتجاوزت الأربعين من عمري وأنا نصف مسلمة ونصف مسيحية، ولم أستطع أبدا أن أكون مسلمة بحق ولا مسيحية بحق، وأنما أنا فتاة مسيحية تحمل هوية مسلمة، ولاأستطيع الزواج من مسلم ولا مسيحي، وفضلت أن أنزوي في صمت في انتظار الموت الذي لاياتي لمن مثلي بسهولة.
كانت كلماتها الأخيرة تحمل كل معاني اليأس والحزن ، وحكايتها تشبه حكايات كثيرة غيرها ، ممن تتصادم مشاكلهم الحياتيه مع موقف الكنيسة من أن لا طلاق إلاّ لعلة الزني ومؤخرا الشذوذ وسألت القمص أندراوس عزيز ، كيف نجد حلا لمها ولغيرها بعد تأكيد الكنيسة علي قصر الطلاق علي علة الزني ورفض الزواج الثاني وما هو الذنب الذي ارتكبته هذه السيدة وغيرها كثيرون ؟
الحل الوحيد من وجهة نظري هو في الهجرة من مصر ! هل نطلب منها أن تترك بلدها وتهاجر ؟
أجابني : نعم هذا هو الحل الوحيد في ظل تشدد الكنيسة التي لاتهتم بمساندة الإنسان أو الاهتمام بالوقوف إلي جانبه للاندماج في العقيدة المسيحية الحقة كما أرادها المسيح ، وأغلقت بموقفها المتشدد باب المغفرة والرحمة في أمور الزواج والطلاق وعلي الجانب الآخر نجد أيضا موقف الدولة المتشدد في أزمة العائدين إلي المسيحية وهذه الحالة التي نتحدث عنها ليست فريده وأنا لدي الكثير من أمثالها وأنصح الجميع بالهجرة إلي الخارج واختيار ما يرونه مناسبا لهم والعودة بعد عدة سنوات . بعد أن يكون المجتمع قد نسي مشكلتهم، فلا يوجد حل إلا الهجرة ، وهو ما أنصح به من يلجأون إليّ، حتي لاتنهار حياتهم خاصة بعد تعرضهم لتجارب صعبة ومؤلمة ، وحتي يستطيعوا بدء حياة جديدة وطبيعية .
طرحت هذا الحل علي بطلة حكايتنا فأجابتني وإذا هربت من مصر فكيف أهرب من ذكرياتي وإحساسي بالعجز والحيرة والغربة ، بكل تأكيد أنا لاأحتاج مزيدا من الغربة.
سألت الدكتور رفيق حبيب قال: في قضايا الزواج والطلاق هناك نماذج إنسانية متعددة يصعب الوصول لحل فيها ، لأن قانون الزواج والطلاق لابد أن يعتمد علي نصوص قانونية مع دراسة الحالة الاجتماعية وسلطة تقديرية لجهة القضاء حتي تستطيع التعامل مع النماذج المختلفة لأن الحالات المختلفة لايمكن حصرها في القانون وفي تقديري لابد من عودة الوضع القديم المتمثل في المحاكم الملية كمحاكم مسيحية متخصصة مرتبطة بالكنيسة والشريعة المسيحية بحيث تكون قادرة علي التعامل مع الحالات التي لاتحسمها النصوص القانونية، لكي يحدث تجانس بين هذه الجهات المسئولة عن الزواج والطلاق في المسيحية.
وتبقي مشكلة الطلاق ، والزواج الثاني عند الأقباط تنتظر الحل مابين صيحات منظمات حقوق الإنسان ، ونظريات المفكرين، وقاعات المحاكم، وآراء الحكماء ، وقواعد الدين ، وألم الحائرين ، وقسوة الزمان ، وضياع العمر، ولايتبقي إلا خلاص السماء .
اخر ساعة