اقتصاد الإتحاد الأوروبي بين الديمومة والاندثار
للكاتب/ أ. أسامة أبو حجاج*
منذ انتصار الأيدلوجية الامبريالية الأمريكية وما أُفرز عنها من تغيرات جذرية في العالم، والتي من أبرزها على الصعيد الاقتصادي نشأة النظام النقدي الدولي بعد الحرب العالمية الثانية، وتربع الولايات المتحدة الأمريكية على عرش النظام النقدي الدولي كأكبر دولة دائنة، أو بالأحرى الوحيدة آنذاك، واعتبار الدولار الأمريكي العملة الرئيسية في تسوية موازين المدفوعات بناءً على نظرية هوايت Harry White الأمريكي الجنسية، وجاء ذلك في اتفاقية بريتون وودز Bretton Woods في يوليو 1944، والأزمات المالية تضرب الحوائط المالية في الدول النامية تارة والمتقدمة تارة أخرى، وسببها الرئيسي هي المديونية في العالم، فما إن وصلت الأزمة ذروتها حيث ضربت حائط الولايات المتحدة الأمريكية في 15 سبتمبر 2008 نتيجة لتفجر فقاعة عقارية والتي تعتبر امتدادا لأحداث 11 سبتمبر 2001 وهذه الأزمة التي وصفت بأكبر أزمة في تاريخ النظام النقدي الدولي ما زالت إلى اليوم تعاني منها أمريكا، وليس فقط كذلك بل ووصلت تأثيراتها إلى أكثر من 50 دولة مجاورة وذلك نتيجة للاعتماد والتفاعل التجاري المتبادل Interdependence بين هذه الدول وأمريكا . فوصلت تأثيراتها السلبية إلى الدول النامية أو ما توصف بدول أل 77، كما ووصلت إلى الاتحاد الأوروبي كارتداد طبيعي للازمة المالية العالمية وهو الأصعب والأكثر تأثيرا، وهذا ما سيكون تركيزنا عليه في هذه المقالة . فلقد نتج عن هذه الأزمة وانتقالها إلى الاتحاد الأوروبي تفجر فقاعتين ماليتين نتيجة للديون السيادية المستحقة على تلك الدول وهنا لابد لي من الإشارة إلى هذه الفقاعات باختصار :
- الفقاعة الأولى ( تفجر فقاعة المديونية اليونانية ):
لقد انضمت اليونان إلى الاتحاد الأوروبي عام 1981، والتي تعتبر من الاقتصاديات الضعيفة والهشة بالنسبة للدول الأخرى المشاركة في الاتحاد الأوروبي ، والتي حسب تقديرات المحليين الاقتصاديين بأنها في أزمة دائمة منذ دخولها الاتحاد الأوروبي، لكن تأثيرها لم يكن يذكر مقارنة بحجم تأثيرها على دول الاتحاد الأوروبي خلال الأزمة الحالية نتيجة للديون السيادية المتراكمة.
لقد تفجرت الفقاعة اليونانية مع إعلان حجم الديون السيادية على الحكومة اليونانية والتي تقدر بأربعمائة (400)مليار دولار أمريكي، كما وصل العجز إلى 13% من الناتج المحلي الإجمالي والذي يعتبر أربعة أضعاف النسبة المسموح بها وهي 3% حسب اتفاقية "ماستريخت" الاقتصادية التي التزمت بتنفيذها الدول الأوروبية المشاركة في الاتحاد الأوروبي ، ما جعل حكومة أثينا تستغيث البنك المركزي الأوروبيECB وصندوق النقد الدولي المسئول عن تسوية موازين المدفوعات بين الدول، وبناءً على ذلك صدر عن صندوق النقد الدولي والبنك المركزي الأوروبي قرار إقراض أثينا مئة وخمسين (150) مليار دولار على ثلاث سنوات وهذا الإقراض مشروط بفرض بالمزيد من التقشف المالي.
- الفقاعة الثانية (تفجر فقاعة المديونية الايرلندية):
إن الأزمة لم تتوقف على الحدود اليونانية فأزمة المديونية السيادية المزمنة لا تعرف حدودا في ظل اعتماد سياسة التكتيم الاقتصادي ، وبالتالي فلقد وصلت شظايا هذه الفقاعة إلى أيرلندا والتي تعتبر أيضا دولة صغيرة وصاحبة اقتصاد ضعيف بالنسبة للدول المشاركة في الاتحاد الأوروبي، فمنذ أن أعلن مصرف أي آي بي وهو ثاني اكبر المصارف الايرلندية، وتملك الحكومة حصة فيه أن حجم الأموال المودعة فيه تقلصت بنحو ثمانية عشر )18( مليار دولار منذ مطلع العام الحالي كانت بمثابة إعلان آخر بفقاعة جديدة ومسقط رأسها ايرلندا، فسجلت مديونية أيرلندا أمام المصارف الأجنبية في حزيران 2010 ما قيمتها سبعمائة وواحد وثلاثون (731) مليار دولار وفق لبيانات التسويات الدولي في بازل أي نسبة 320 % من حجم أداء الاقتصاد مقارنة بالنسبة المسموحة 60%.ووصل حجم العجز 14 % من الناتج المحلي الإجمالي، وقد يصل في نهاية هذا العام 2010 إلى 32% حسب تقدير الخبراء وهذا يعد إنذاراً خطيراً على أبواب تفكك الاتحاد الأوروبي ، في بادئ الأمر تأخرت حكومة دبلن عن طلب المساعدة من صندوق النقد الدولي والبنك المركزي الأوربي وذلك لارتفاع الفائدة على هذه القروض من جهة ،وخوفا من هروب المستثمرين الأجانب من ايرلندا وفقدان الثقة بالاقتصاد الايرلندي من جهة اخرى، ومن ثم تخلص المستثمرين من السندات السيادية والتي سينخفض سعرها وتقع ايرلندا بأزمة أخرى بالإضافة إلى سحب المستثمرين الودائع من البنوك ، لكن ونتيجة للضغط على حكومة دبلن من طلب المساعدة وذلك للحفاظ على اليورو كعملة مستقرة وموثوق بها وافقت ايرلندا على طلب المساعدة وصدر قرار عن البنك المركزي الأوروبي وصندوق النقد الدولي بإقراض دبلن 120 مليار دولار على أربع سنوات، بالإضافة إلى المساعدات الفردية من الدول المجاورة وابرز هذه الدول بريطانيا مع ضرورة فرض حالة التقشف المالي.
ولقد أعلنت الحكومة الايرلندية عن تخفيضات في الموازنة تصل إلى خمسة عشر (15) مليار يورو (20.7 مليار دولار) سيتم تنفيذها على أربع سنوات لتقليص حجم العجز إلى النسبة المسموح بها 3%. كما وفرضت زيادة في الضرائب وخفضاً في الإنفاقات في قطاع الرعاية الاجتماعية والتعليم. وهذا ما أوقد نيران المظاهرات المعارضة لتلك الخطة.
إن سيل الديون السيادية لم يتوقف عند هاتين الفقاعتين بل ما زالت المخاوف من انتقال عدوى الديون إلى دول أوروبية أخرى رغم الإعلان عن خطط الإنقاذ التي بلغت سبعمائة وخمسين (750) مليار يورو، والتي اعتبرها مسكنات لآلام قنابل المديونية التي أصابت الجسد الأوروبي الواحد على الرغم من شراء البنك المركزي الأوروبي لتلك الديون التي تُكرس الازمة، والتي يترتب عليها صعوبة الدول المدينة من الاقتراض. فيقول رئيس مركز الدراسات السياسية الأوروبية "دانيال غروس" إن هناك اعتقادا بان أوروبا الآن بصدد الانتقال من أزمة إلى أخرى ويرى محللون بان البرتغال هي الأضعف في أوروبا، وبالتالي يعتقدون بان هناك فقاعة ديون برتغالية انفجرت لكن لم يسمع صوتها بعد حيث وصل العجر 9.6% وفرضت حكومة البرتغال خطة تقشف مع بداية العام 2011 لتخفيض حجم العجر الى 4.7% خلال العام القادم. أما الفقاعة الأخرى والتي من المحتمل إعلانها كدولة منغمرة في الديون هي اسبانيا على الرغم من التطمينات من الحكومة الاسبانية بان الاقتصاد الاسباني ما زال يتعافى من الأزمات المالية وانه بحالة اقتصادية جيدة لكن البيانات والمؤشرات تشير عكس ذلك فيصل حجم العجز في اسبانيا الى 11% من الناتج المحلي الإجمالي كما ويصل حجم العاطلين عن العمل 20% من الأيدي العاملة متجاوزة معظم المعدلات في أوروبا.
وما يزيد الطين بلِّة هو ذلك الانخفاض الحاد بالنسبة لليورو أمام العملات الرئيسية والذي أطلقت تحذيرات بشأنه بأنه من الممكن أن يصل إلى التعادل بينه وبين الدولار بفعل يورو واحد لكل دولار، وذلك إذا استمرت الأزمة وتَهاوت الاقتصاديات الاوروبية، والذي يدق ناقوس الخطر في اقوى تكتل اقتصادي في العالم يصل نصيبه 21% من حجم الاقتصاد العالمي.
إن أوروبا اليوم ليست كأوروبا الأمس، فهي تغرق في الديون السيادية يوما بعد يوم فبعد أن كانت أوروبا ترفع شعار ( لن تحدث أزمة إفلاس لأي دولة كما انه لن يحدث أي إنقاذ للدول في الاتحاد) فلقد سقط الشق الثاني بمجرد إعلان الاتحاد الأوروبي عن خطط إنقاذ للدول المصابة بداء المديونية ، كما أسقط الشق الأول بمجرد الحديث عن تحميل الدائنين جزءاً من الخسائر وهذا يعني إعدام تلك الديون، كما ويقول خبراء اقتصاديون أن حجم أعباء الديون على اليونان وايرلندا والبرتغال يجعل سدادها غير ممكن حتى في ظل خطة التقشف المفروضة التي تعيق عملية النمو الاقتصادي وهذا ما يُعرِّض تلك الدول إلى الإفلاس. كما ويقول وزير مالية ألمانيا "فولفجانج شيوبله": "إن مستقبل عملتنا على المحك في نفس الوقت يراهن على بقائها ويقول إن العملة الأوروبية وجدت لتبقى".
السؤال الذي يطرح نفسه: ما هو موقف الدول الكبرى في منطقة اليورو مثل ألمانيا وفرنسا من هذا الحجم الكبير من الديون؟.
من الواضح من حجم هذه الأزمة أن الدول الكبرى لن تكتفي بأنها داعمة لهذه الدول الصغرى بل ستضع حلولا مشروطة على هذه الدول وخاصة ألمانيا التي تتحمل اكبر تكلفة من هذه الديون والتي تنافس دول أوروبية من حيث الصادرات حيث تعتبر اكبر دولة تعتمد على الصادرات في الاتحاد الأوروبي واكبر دولة يوجد فيها فائض تجاري، فعلى لسان رئيسة الوزراء الألمانية "أنجيلا ميركل" هددت بالخروج من الاتحاد الأوروبي والعودة إلى قطبها بحجة أنها لا تتحمل أخطاء دول ضعيفة وهشة وفي الوقت ذاته يحذر وزير مالية ألمانيا من استبعاد الدول الضعيفة من الاتحاد الأوروبي، وهنا يحدث الانشقاق التاريخي في الاتحاد إلى قطبين: قطب قوي، وقطب ضعيف . وفي ظل هذا التهديد يأتي على لسان "ميركل" أيضا الحلول بمعنى: إما تطبيق شروطنا وإما الخروج من الاتحاد الأوروبي والرجوع إلى قطبنا القوي. فاقترحت ميركل آلية وتسمى ( آلية الاستقرار الاقتصادي) والتي تقتضي ضرورة إعادة النظر في اتفاقية السيولة بحيث يتم إنشاء نظام دائم للإنقاذ ، مع تحميل الدائنين جزءا من خسائر الديون، وحرمان الدول الحاملة لفيروس الديون من التصويت في نادي أوروبا عقاباً لها كدول ضعيفة. هكذا علمتنا الديمقراطية الرأسمالية والامبريالية العالمية بأن القوي يأكل الضعيف!!! كما وتفرز لنا الطفيليات التي تتغذى على ديون العالم الصغير.فالكل يحتاج إلى أن يكون القوي في محيطه مثلما تفعل أميركا في العالم.
ومن هنا نرى أن الاتحاد الأوروبي الذي يتكون من سبع وعشرين (27) دولة مشاركة فيه وتتعامل ست عشرة (16) منها بعملة اليورو كعملة موحدة أصبح هشيما تذروه الرياح، كما أصبح على شفا حفرة من الهاوية، فلا بد من إنقاذه وان الإنقاذ لا يكون فقط بالتمويل والاقراض وشراء الديون التي تعيق عملية النمو. بل بالرجوع إلى الوراء ومحاولة إعادة النظر في النظام النقدي الدولي القائم على الرأسمالية سواء في النواحي السياسية او الاقتصادية .
وأخيراً لا بد لي من اقتراح بعض الحلول التي قد تساعد في الإصلاح النقدي سواء في النظام النقدي الدولي أو في الاتحاد الأوروبي:
1- من العبث الحديث عن حلول دون الوقوف على النظام النقدي العالمي IMF لذلك يجب إعادة النظر في هذا النظام والرجوع عن قرار الدولار الأمريكي كوحدة حساب لتسوية موازين المدفوعات بين الدول والذي لم يعد يكفي لسداد الاحتياجات المالية ومحاولة أن يكون هناك نوع من الكينزية في النظام النقدي الدولي في إصدار عملة عالمية محايدة ( البانكور كما أطلق عليها الاقتصادي الانجليزي جون مينارد كينز ) في تسوية المدفوعات الدولية علما بان تكون هذه العملة ركيزة أساسية في الاقتصاديات العالمية وان تكون مربوطة بسلة عملات من العملات القوية بالإضافة إلى الذهب.وضرورة الدعوة إلى نظام اقتصادي عالمي جديد أكثر عدالة وأكثر وضوحاً، ولا تكن فيه الولايات المتحدة الأمريكية وحدها هي الداعية إلى تشكيله والمتفردة في بنائه.
2- ضرورة إعادة هيكلةRestructuring الديون الأوروبية ومساعدة الدول الصغيرة المصابة بفيروس الديون من إعادة تنظيم تلك الديون مع الأخذ بعين الاعتبار الظروف الإنسانية وتخفيف حالة التقشف عن المواطنين ورفع شعار (الإنسان قبل الأرباح).
3- ضرورة إنشاء صندوق مالي مليء بالأموال يسمى صندوق الطوارئ بجانب الصندوق الحالي الذي لم يعد يكفي لحاجات التمويل . وجعل صندوق الطوارئ رافداً لتمويل الصندوق الحالي. لكن هذا الحل لا ينصف الدول القوية باعتبار إن هذه الأموال ستذهب إلى الدول الضعيفة ولا تستفيد منها الدول القوية التي هي الممول الرئيس لهذا الصندوق، وهذا السبب القاطع الذي يدعو إلى رفض هذا البند، لكن ما نقوله بأنه - وبعيدا عن النظام الرأسمالي - يجب على كل دولة قوية أن تتحمل جزءا من مسئوليتها تجاه الدول الضعيفة باعتبار النظام النقدي العالمي واحد موحد.
4- ضرورة فرض الرقابة الفاعلة والمتزامنة على تفاعل المثلث الشيطاني المالي ( سعر الفائدة، بيع الديون ،المقامرة ) لتفادي الوقوع في أزمات أخرى، وضرورة الإصلاح الإداري في المؤسسات المالية والرقابة عليها. مع ضرورة أن يكون هناك تنسيق اقتصادي وطني بين الحكومات الأوروبية ورفض شعار (الأسواق دائما على حق). وضرورة تغيير سياسة سعر الفائدة الموحد لكل الدول الأوروبية لان السياسات الحكومية تختلف فيما بينها مما ينتج عنها اختلالات اقتصادية مثل أزمة المديونية.
5- يجب على دول أل G20 كأكبر دول اقتصادية في العالم التي تمتلك حوالي 95% من الاقتصاد العالمي، أن تتحمل أي خلل اقتصادي في العالم وتعديله ليبقى النظام النقدي العالمي واحدا موحدا لا يشوبه أي خلل لان الخلل عندما يكون صغيرا ونتجاهله يكبر ويصيب دول قوية، والفقاعة الثلجية الصغيرة إذا تركت تتدحرج على الجليد تكبر وتضخم وقد تصبح جبلا.
* * * * *
*كاتب وباحث في الاقتصاد الدولي.
Email: Mr.Osama.Hajjaj@hotmail.com