سيطرت الانتخابات على العقل العام المصرى ونسيت أو تناسينا أو أجبرنا إعلام الدولة ومسئوليها على نسيان الأزمة الأخطر.. أزمة حوض دول حوض النيل ونصيب مصر من المياه المعرض للنقصان فى زمن ستصبح فيه المياه هى العزيز الغالى على الأرض، كما تقول أغلب الدراسات العلمية فى هذا الشأن.. والواضح من خلال أحداث الشهور الأخيرة أن بعض المحاولات المصرية لحل الأزمة مع دول حوض النيل قد باءت بالفشل، بدليل انهيار فكرة دورة دول حوض النيل الكروية وفشل الاتحاد ووزارة الخارجية فى إقناع إثيوبيا وغيرها من الدولة فى المشاركة بتلك الدورة على سبيل التقارب.
الدولة فى مصر تسوق على استحياء، كما يحدث كل مرة أن الأزمة محلولة، وأن سلاح التاريخ ومسألة الريادة المعروفة يمكن استدعاؤها للمساهمة فى حل المشكلة، أو أن نضخ المزيد من الاستثمارات فى إثيوبيا وكينيا وأوغندا قد يفلح فى تأجيل رغبات تلك الدول بتقليل حصة مصر من المياه، ولكن تبقى هذه الحلول مؤقتة!، ربما لأنها تشبه الرشوة المقنعة أو ربما، لأنها تأتى على خلفية من التعالى لم تعد مقبولة لدى دول تغيرت الأوضاع داخلها بفعل ما تضخه دول كبرى مثل إيران وإسرائيل والصين وتركيا من الأموال والاستثمارات فى بنيتها التحتية وحاضرها ومستقبلها المالى، بحثاً عن دور ريادى وتأثير إقليمى فى ظل انشغال مصر بأمور أخرى أغلبها يتعلق بكيفية ضمان بقاء النظام الحاكم.
هل ستقبل دول حوض النيل منح مصر المالية المغلفة فى شكل استثمارات لن ترقى بالطبع لمستوى ما تضخه تلك الدول الأغنى فى المنطقة؟.. هذا أمر مشكوك فيه، وهل بقى من التاريخ شىء يمكن استدعاؤه للتأثير على إثيوبيا وكيينا؟.. أعتقد أن نظرة واحدة على ما تقوله صحف تلك الدول عن الأزمة كافية بأن يجعل إجابة هذا السؤال بـ"لا".
إذن لابد من أن نأخذ الطريق الدائرى، والطريق الدائرى هنا يعنى السرعة فى التأثير على تلك الدول التى تلعب فى منطقة حوض النيل، التأثير على إيران وإسرائيل والصين وأمريكا وتركيا.. المصلحة تقتضى أن نفعل ذلك بعد أن أصبح قرار دخول المنافسة مع هذه الدول فى حوض النيل غير فعال، لأنه جاء متأخرا جدا، ولأن هذه الدول سبقتنا بأميال.
يبقى السؤال الأهم.. كيف ستنجح مصر فى التأثير على تلك الدول لكى تستخدم نفوذها داخل منطقة حوض النيل فى حماية حصة مصر من المياه؟ أو بمعنى أكثر براجماتية ما الذى يمكن أن تقدمه مصر لتلك الدولة مقابل أن تحافظ على حصتها من مياه النيل؟
ولأن أزمة المياه ليست أمرا هينا، ولأن موقف دول حوض النيل تجاه تقليل حصة مصر يبدو فى هذه المرة أكثر جدية أعتقد أن مصر يجب أن تقدم الكثير، ولحسن الحظ أننا فى مصر نملك ما نستطيع مساومة هذه الدول عليه مع الوضع فى الاعتبار أن كل ذلك قد يحدث تغييرا غير متوقع فى الشكل السياسى والدبلوماسى للمنطقة ككل، لأن مصر وقتها قد تصبح مضطرة لأن تستعيد علاقتها مع إيران وتعقد معها صلحا يقضى على خلافات سنوات الفرقة فى محاولة لأستغلال النفوذ الإيرانى داخل حوض النيل، وبنفس المنطق قد نفتح أسواقنا بتسهيلات أكثر أمام الصين حتى تفتح لنا هى جراب نفوذها فى أوغندا وإثيوبيا، ونميل قليلا نحو تركيا ونكف عن التحذير من بحث تركيا عن دور إقليمى، ونساوم الولايات المتحدة على المزيد من الإصلاحات الديمقراطية والسياسية التى كانت تضغط من أجل تحقيقها.
أعلم أن فى الأمر رائحة صفقات قد يراها البعض مشبوهة، وقد يراها البعض غير مقبولة، ولكنها تبدو الوسيلة الأمثل من وجهة نظرى لحل أزمتنا مع دول حوض النيل فى ظل خسائرنا الفادحة داخل أفريقيا التى بدأنا ندركها الآن، ونحن نكتشف أن وجودنا فى تلك المنطقة الحيوية وتأثيرنا فيها يساوى.. زيرو!
محمد رشدي
اليوم السابع