ماسحو أحذية .. ماسحو زجاج السيارات على المواقف .. متسولون .. متسكعون .. وكلهم أطفال يشكلون اللوحة المحزنة فلماذا هذه الظاهرة وماهي ملامحها ؟
أسئلة قد نجد اجوبتها في دراسة بعض الحالات ، ونعرضها بكل ما فيها من خيوط محزنة .
ـ أين أبي ؟!
هذا العنوان الفرعي المستقى من عنوان فيلم سينمائي محزن يقفز إلى الذهن ونحن مع حالة الطفل (ن) ، فقبالة المتحف الساعة الثامنة صباحاً يستوقفنا هذا الطفل الذي لم يتجاوز عمره الست سنوات بهيئته المزرية وملابسه المهترئه وكمية الأوساخ التي تراكمت على ماظهر من جسمه وخاصة قدميه الحافيتين .
يسأل الطفل بارتباك العدد القليل من المارة في تلك الفترة المبكرة أن يعطيه أحدهم ثمن صندويشة لأنه جائع ، ومظهره يدل على صدقه وعندما نستنطقه تتكشف جوانب المأساة في حياته ، ونرتب ماساته كما رواها بعفوية الطفولة :
في أحد أحياء المخالفات الهامشية ولد هذا الطفل ، وعندما كان عمره ثلاث سنوات دخل والده السجن بتهمة السرقة وليكبر هذا الطفل مع أخويه الأصغر منه دون أن يعرفوا أباهم .
الأم وبعد أن أعيتها ظروف اعالة هؤلاء الأطفال لجأت إلى أعمامهم طلباً للعون فمالبوها لأنهم أصلاً غير قادرين على إعالة عوائلهم ، وفي ظل غياب الأب ولامبالاة الأعمام وعجز الأم وجد الأطفال الثلاثة أنفسهم في حالة ضياع وقد رحم الله أصغرهم فمات وبقي الثاني مع الأم ،و الثالث الذي هو بطل حكايتنا بقي في الشارع ، فأحد الأعمام لقاء ايوائه في بيته كلفه ببيع الدخان المهرب ، وقبل أيام صادرت دورية المكافحة منه كروز دخان فلم يجد الجرأة للعودة إلى عمه لأنه يعرف مدى العقاب الذي سيطاله كما لم يجد الجرأة للعودة إلى أمه لأنه يعرف أن العم سيبحث عنه عند أمه ليعاقبه ، وبالتالي كان الشارع الملاذ ، ولكنه الملاذ المجهول المعتم .
سألنا الطفل إن كان قد ذهب للمدرسة فاستغرب السؤال ، فهو يرى أطفالاً في مثل سنه يذهبون لشيء اسمه المدرسة ولكنه لم يفكر أبداً أن يكون مثلهم ، والشيء الوحيد الذي يسيطر على تفكيره هو كيف يتحاشى الوقوع في قبضة عمه ويهرب من عقاب على ذنب لم يرتكبه ، ولا نعلم عندما غادرنا الطفل هل كان يسأل نفسه : أين أبي ؟!
ـ مئة ليرة يومياً أو !!
الأطفال ماسحو الأحذية والذين يتمركزون في ساحة سعد الله الجابري ويعيشون في حالة كرّ وفرّ مع دوريات الشرطة استنطقنا عدداً منهم وتبين ما يلي : الأب يفرض على ابنه الطفل أن يعود يومياً بمبلغ لايقل عن مئة ليرة ودون السؤال عن مصدر هذا المبلغ ، وإذا لم يعد الطفل بهذا المبلغ فهو معرض لإحدى عقوبتين : الضرب الشديد أو الطرد من البيت ، وكنموذج عن هذه الحالات ماحكاه الطفل (س) وعمره ثمان سنوات ، قال عبر حوار صغناه كمايلي :
.ـ عندما لا أعود إلى البيت بمبلغ مئة ليرة أنام خارج البيت ، وكانت الأمور ميسرة ، فقد كنت أربح أكثر من مئة ليرة من مسح الأحذية ، لكن بعد ملاحقة الشرطة لنا صرت أنام خارج البيت كثيراً
ـ ألم تذهب للمدرسة ؟!
ـ والدي يقول أن المدرسة لا تطعم خبزاً وعملي بويجي أفضل
ـ كم عدد اخوتك ؟! ]ـ نحن سبعة أولاد .. أخي الكبير في السجن واحد أخوتي هارب لأنه مطلوب من الشرطة ... )
ولم نستغرب وجود كبير من الأخوة في السجن وموار آخر لأنه مطلوب بجرم ما ، فهذه الظروف الأسروية تنتج حتماً هذه الحالات والله أعلم إن كان هذا الطفل لن يكون مصيره كمصير أخويه . ]ـ ضحايا الطلاق :
من بين خمس حالات أطفال شوارع درسنا ظروفهم الأسروية تبين وجود ثلاث حالات تم الطلاق فيها بين الوالدين وليجد الأطفال أنفسهم ضحية هذا الطلاق ، وكانت الحالات الثلاث كمايلي :
ـ الطفل (ج) ( 9) سنوات : بعد طلاق والديه عاش مع والدته لمدة عام ، ولكن الأم تزوجت وسلمته لوالده الذي كان قد تزوج أيضاً وليجد الطفل نفسه منبوذاً من زوجة الأب وزوج الأم ولعله عندما تشرد في الشوارع أراح الأب والأم من مشاكل وجوده عند أحدهما .
ـ الطفل (ك) (10) سنوات : الأب بعد تطليقه الأم تزوج من امرأة مطلقة عندها أولاد تكفل بتربيتهم كشرط لقبولها الزواج منه لكن هذا الشرط لم يتحقق لأن زوجة الأب بدأت باضطهاده فهرب للشوارع ، والغريب أن أمه أيضاً تزوجت بعد طلاقها من رجل عنده أولاد من زوجة طلقها .
ـ الطفل (و) (11) سنة : بعد طلاق والديه قرر (التشرد) حسب تعبيره كاحتجاج على مافعلاه .
ـ تعددت الأسباب :
هذه بعض أسباب تفاقم ظاهرة أطفال الشوارع كما رصدنا حالات منها ، علماً أن الأسباب عديدة وتنبع من ظروف التخلف والفقر والتفكك الاسروي والطلاق وضحاياها عدد غير معروف من الأطفال من مختلف الأعمار تحويهم الحدائق ليلاً وغالباً أيام البرد يعيشون تحت الجسور ويتعرضون لكل أنواع الاستغلال والانحراف ، فما العمل ؟!
ـ رأي القانون ]سؤال توجهنا به لعدد من السادة القانونيين فتوافقت آراؤهم كما صاغها السيد المحامي محمود حمام قائلاً : ]ـ القانون حدد إجراءات وتدابير لحماية الأحداث والأيتام والجانحين والمشردين ،وهناك من العقوبات التي تفرضها محكمة الأحداث ، وهي تسليم الطفل لوليه في حال وجود أب أو ولي ، أما في حال عدم وجود ولي فيصار إلى وضعه في مأوى أو دار للأيتام أو دار للمشردين .
وتبقى مسؤولية المجتمع قائمة حيالهم من أجل تعليمهم وتثقيفهم وتنشئتهم نشأة صالحة تساعد على اندماجهم في المجتمع ، وإن إيلاء هذه المراكز الاهتمام والعناية اللازمين من أهم وظائف المجتمعات المتقدمة .
مايحدث هو أن هؤلاء الأطفال المشردين غالباً مايقعون في أيدي فئات متمرسة بالانحراف والإجرام فتوظفهم وتستغل طفولتهم في مهن وأعمال تتنافى مع إمكانياتهم وطفولتهم ، والملفت للنظر هؤلاء الأطفال يتواجدون بشكل ظاهر للعيان أمام كل مؤسسات الدولة وعلى مفارق الطرق والأرصفة والحدائق وتحت الجسور والأنفاق ، وتحت أنظار الجهات المعنية بما في ذلك أقسام الشرطة وموظفي الشؤون الاجتماعية والعمل !! ]وعن الحل يقول المحامي السيد حسن حديد :
[]ـ يجب الاهتمام بالطفولة ولا سيما في المرحلة العمرية المبكرة وقمع أي حالة تسريب من المدارس وإحالة ولي الحدث الذي يمتنع عن إرسال ولده للمدارس إلى القضاء وإنزال العقوبة القانونية المتوجبة ، كما يجب الاهتمام بمراكز التوقيف والنظارات ودور الأحداث وتوظيف شخصيات وقدرات مؤهلة علمياً واجتماعياً للعمل على إصلاح الجنوح عند هؤلاء الأطفال وذويهم ومعالجتهم وفق حالتهم الاجتماعية والمرضية ، وإبعادهم عن المجرمين وأصحاب السوابق . ]ويقول المحامي السيد معتز غنام :
ـ نهيب برجال القضاء الاهتمام بالأسرة كونها البيئة الصحية السليمة التي ينمو وينشأ فيها الأطفال صحياً وطبيعياً واجتماعياً وعدم توقيف الآباء توقيفاً احتياطياً غير مبرر لأن هذا التوقيف يضر بالأسرة ويساهم في ظهور حالات تشرد الأحداث : كما نرجو من القضاء العادل عدم توقيف الأب والأم في وقت واحد خشية على الأطفال من الضياع .
ـ ويقول السيد المحامي خلوق مصطفى :
ـ إذا لم يكن هناك مبرر لتوقيف الحدث فنرجو من القضاء العادل عدم توقيف الحدث والاكتفاء بتسليمه لوالديه مع متابعته عن طريق الرعاية الاجتماعية من مراكز الملاحظة
ـ ويضيف المحامي محمود حمام قائلاً :
ـ يجب التشدد في متابعة ومكافحة ظاهرة التشرد والتسول وملاحظة البالغين الذين يستثمرون هؤلاء الأحداث المشردين في أعمال انحرافية إجرامية وإن ملفات القضاء مليئة بجرائم قام بها أطفال بسهولة ويسر وذلك لعدم الانتباه لهم أو أخذ الحيطة والحذر منهم وسهولة تسلقهم للمباني ودخولهم الأسطحة وفوهات التهوية وتبين أن أعمالهم منظمة من قبل مجرمين محترفين يجمعون أكثر من عشرين أو ثلاثين طفلاً ويوجهونهم نحو الانحراف والإجرام .
[]كما أن هناك نزاعات بين هذه العصابات التي تنتشر فيها جرائم الانحراف بأشكاله ، وإن أماكن تواجدها في الحدائق العامة وعلى أسطحة بعض الأبنية في الأسواق المحلية والأبنية المهجورة . 6]ـ وماذا بعد ؟ ]ظاهرة تشرد الاحداث مقلقة ومحزنة كما قلنا ، وإذا كنا في هذه الوقفة قد عرضنا رأي قانونيين فإننا نأمل عرض آراء اجتماعيين وتربويين في وقفة قادمة ]
حلب
تحقيقات
عبد الرحمن حمادي
الجماهير