في مدينة باريسية عربية توسطتُ ساحة الذهول، ارتبكت باريس العربية في ساحة العبور...
في تلك اللحظة ظهرت عصفورة أمطرت الكحل الأسود على عينيها تمشي بخطوات متباطئة متهالكة وتطير عباءتها المفتوحة كالجرائد أو كشراشف المقاهي المفروشة، وتأتي الرياح لتبعثر ما خرج من مقدمة شعرها الممزوج بلون باريس الشقراء الحالمة، وبدأت تمشي بثقة وهي تشيح بوجهها الذي شهد حرب الغبراء يميناً ويساراً حتى تبهر العابرين بألوان قوس قزح التي لطخت تعرجات وجهها العربي .
وبدأت تتمايل العصفورة وكأنها في عمر الربيع، حاولت كتم أنفاس ضحكتي، ولكن الصغيرة أرهقتني بوابل من كلمات التجريح الساخرة: دقّقي على ظهر عباءتها رسمت عليها حلزون ضخم أحمر، لقد تذكرت البحر بهذه العباءة خذيني إليه!"
أوه إنه لصباح باريسي مُهين، لم أستطع لملمة لسان الصغيرة فهي ناقدة تنفد من زجاج الواقع وتهلك العابر على نهج باريسي.
قررتُ وقتها أن أطمر صورة تلك العجوز من ذهن الصغيرة المنتقدة، وقلت لها وأنا أضع يدي على وجنتيها الناعمة الملساء وما زالت هي تدقق النظر في تلك العصفورة العابرة: ما رأيكِ أن نرتشف القليل من الحليب بالقهوة لننسى صباحات باريس".
لم يعرها اهتمامي فكانت موجهة الأنظار لعجوز في ساحة الموضة، بعثرت الصغيرة شعرها بحنان ووقفت عند محطة الضحك مرة أخرى: كعب عال وجسد متهالك إنه يشبه حذاء العارضات الممشوقات القوام، أوووووووووووه أليس يشبه حذاء سندريلا الزجاجي؟!".
بدأت ملامح الانكسار تظهر على ملامحي بسبب الصغيرة الناقدة، فقد ظهر الصقيع والبرد والخوف على لسان الصغيرة، فقد ألبستني جنوني، وأصبح لسانها غابات من السيوف، وأحياناً أراه لساناً زمردي ومن الياقوت.
حاولت بعثرة صورة تلك العجوز من ذاكرة الصغيرة، وبدأت أجرجر أذيالي لمكان عربي لا تدنسه قهوة باريسية، تنفستُ الصعداء وأنا ابتعد عن صباحات باريس، قمتُ بالتوغل مع الصغيرة لمتجر الألعاب، لتنسى لعبة الحياة الصعبة، وفي أثناء عبورنا الشارع الآخر رأينا عربية شمطاء تتكسر على أرصفة باريسية عربية، وقد زينت جسدها بعباءة مزخرفة بألوان الطيف (التي أصبحت لديها عشرة ألوان) وتشبه في تنسيق ذراع العباءة جناح الفراشة أو كما يسمونها عباءة الفراشة ، أظنها تذكرني بالمرأة الوطواط.
دخلتُ هذه المرة مع الصغيرة في جدلية الموضة والفوضى، وكأنني أدخل في تفاصيل تاريخنا العربي، ومن جديد انطلق لسان الصغيرة مع أغنيات الريح الصاخبة: هداكِ الله يا جدتي هذه ثياب استعراضية استخدمتها مرة في دور مسرحية الفراشة والوردة، ربما هي ذاهبة لحفل تنكري".
حاولت إسكات الصغيرة من جديد والتفتُ لتلك المرأة الشمطاء لعلها سمعت همسات الصغيرة، ولكنها كانت منشغلة وقتها بإجراء مكالمات من هاتفها المزخرف بفصوص كريستالية وتارة تبدي انزعاجها من عباءتها وتفتح ستارها لتبهر المارين بثوبها الأحمر الصارخ، وامتزاج الضوء بالعتمة، حاولت إلغاء ذاكرتي من هذه الساحة وأنزلتُ ثوب العار، ورحلنا من جديد لنختفي خلف الطرقات لإلقاء تلك الذكريات، اخترتُ منزل إحدى جدات الصديقات العتيقات لأعانق تاريخنا العربي وأشم عبقه، هنا بعد أن تنفست بأجواء باريس، دخلتُ ووجدتُ أصواتاً وشِجاراً فحرب داحس والغبراء على الأبواب، حاولت إنهاء المعركة الحامية الوطيس بين صديقتي وجدتها التي تذكرني بعبق العروبة العتيقة، تنهدت الجدة ثم أمسكت يدي وهي تتوسلني : ابنتي صديقتكِ تستفزني لأنني طلبت منها شراء ثوب الفراشة، ما أزهاه يا ابنتي أريد واحداً مثله".
أي صباح عربي هذا، حسبتُ أنني سأتذوق هذه المرة القهوة العربية الخالصة من هذه الجدة و لكن عاد موّال موضة الفراشة على لسانها العتيق، أمسكت الجدة بثوب حفيدتها المسمى الفراشة : أريد ثوباً كهذا ، أريده بأي ثمن كان.
عنّفتها الحفيدة وأشاحت بوجهها وطارت بثوبها الفراشة عنها وسرعان ما تعلق جناح الثوب بمقبض الباب وتمزق الجناح بل تكسر جناح الحفيدة ، نظرت للجدة وقد خرجت شرارتا نار ملتهبة حول الجدة قائلة لها بغضب: (عين الحسود ما فيها عود).
تهلهل وجه الجدة فشعرت بانتصار لهزيمة الحفيدة واستفزتها بعبارة : هذه اللعنة ستحل عليكِ إذا لم تشترِ لي ثوب الفراشة .
شعرتُ بدوار الموضة والفوضى من العربية العتيقة... شعرتُ بغثيان من تلك اللقطات.. أيتها العربية الشمطاء التي تتحدثين العربية وتطلبين أثواباً تطير بألوان أجنبية ...صباح عروبة بارييسية... اكتفت الصغيرة بابتسامة وهي تمسك يدي بقوة وبدأت تردد : هذا العالم قد أصابه الجنون بتلك الألوان والفنون.
نظرتُ من جديد للطرقات و ظهرت على الساحة من جديد فراشة عربية شمطاء، جلستُ على كرسي قريب وبدأت أهذي : أنا بحاجة لقهوة خالصة عربية . ومن وراء مقاهي عربية ، نطقت قهوة عربية :ممزوجة أنا بصباحات باريسية، ومن وراء سوق عربية وجدتُ عباءة زهرية همست لماضيها:
كانت تنبهر بي الشابة والشمطاء، وقد هزمتني الآن الفراشة الوطواط .وأخيراً فاض نهر جنوني بعد أن بكت العربية العتيقة قرب عيوني .
مجلة حطة