جريمة كنيسة النجاة..... والذاكرة العراقية
صلاح عمر العلي
iraqliberation@gmail.com
ذاكرة الشعوب لا تُمحى. فهي محفوظة في سجلات ذلك الشيخ الجليل ألقابع في صومعة الحق والحقيقة، ذلكم هو التاريخ، وسجلاته لا يطالها التشويه او التبديل او التزوير. فقد سجل لنا التاريخ قصة الانسان منذ بدء الخليقة الى الان وسيستمر في أداء مهمته هذه ما دام هناك انسان على وجه الارض. والتاريخ لا يترك صغيرة ولا كبيرة، نافعة أو ضارة، الا ودونها في كتاب مبين. فمن يريد الانتفاع من تجارب الماضي، وإستخلاص العبر والدروس، عليه العودة الى تاريخ شعبه أو الشعوب الاخرى. والعراق كما يجمع المؤرخون يحتفظ بأقدم وأغنى ذاكرة حضارية وتاريخية على وجه الارض، ما يغني المواطن العراقي عن الحاجة للبحث في تاريخ الشعوب الاخرى، لأي غرض من الاغراض ولاي سبب من الاسباب.
ففي الصفحة الثلاثين من كتابه القيم المعنون (مصرع الكولونيل ليجمن) يقول الكاتب المرحوم عبد الجبار العمر: كان الفرات الاوسط قد آذن الاحتلال بحرب منه (يقصد الاحتلال البريطاني- كاتب المقال) فجمع ليجمن شيوخ عشائر "لواء الدليم" في الرمادي (بهدف اثارة مشاعرهم الطائفية – كاتب المقال) وأولم لهم وليمة فاخرة، وقال لهم:
هنالك إضطرابات في النجف وما حولها ونريد أن نتعرف على آرائكم بشأنها.
( ولقطع الطريق على الكولونيل لجمن لاثارة تلك الفتنة – الكاتب) بادره ضاري "ويقصد الشيخ ضاري المحمود شيخ مشايخ زوبع"بقوله:إن أهل النجف يريدون حكومة وطنية لعموم العراق ونحن نتفق معهم بذلك.
فأجابه ليجمن بقوله: وأنا أتفق معكم بهذا الخصوص وأعطف على مطاليبكم الوطنية، ولكن حكومة صاحب الجلالة في حيرة من أمرها، هل تجعل حكومة العراق شيعية أو سنية؟
أجابه ضاري: ليس هناك شيعة وسنة في العراق، فالكل مسلمون ومن عنصر عربي.
فتجاهل ليجمن جواب ضاري، وعقب كما لو انه يتم كلامه، وقد قررت الحكومة أن تأخذ رجال الدين هناك بالعقاب بجريمة التحريض على الاغتشاش. فألح ضاري الذي كان مصرا على الكلام خشية ان يأخذ باطرافه أصدقاء ليجمن ويؤثروا على الحاضرين بآرائهم الشاذة: هم أًولو أمرنا في الوقت الحاضر وذلك لعدم وجود حكومة شرعية في العراق وطاعتهم واجبة على كل مسلم واذا اتخذت الحكومة إجراءات ضدهم فسنكون الى جانبهم مهما أصابنا من جراء ذلك... وبهذا الموقف أبطل ضاري لعبة ليجمن الطائفية، وعندما عاد ضاري الى ديرته واجتمع برهطه قال لهم بنبرة ذات مغزى: لقد كسبت لكم عداوة الكرنل.
وفي الصفحة 31 من الكتاب نفسه، يكمل السيد العمر قائلا: وفي عام 1900 بالضبط رد آية الله الميرزا حسين الشيرازي رحمه الله القنصل البريطاني ببغداد ردا غير جميل لأن الاخير أراد أن يستغل حادثة وقعت للامام في سامراء فعرض عليه حماية بريطانيا العظمى على ما حدثني به الاستاذ علي آل بازركان رحمه الله. ويستمر السيد العمر قائلا: ولكي ننصف الاستعمار فانه لا يفرق في تنفيذ خططه بين مسلم ومسيحي.
روى الشيخ كاظم الدجيلي في رسالته التي كتبها الى الاب انستاس ماري الكرملي عن ثورة العشرين أن الانكليز بعد أن يئسوا من إيجاد ثغرة بين المذاهب الاسلامية عمدوا الى إثارة الشحناء بين الطوائف الدينية وذلك باختلاق وسيلة يتوصلون بها الى الفتك بأهل بغداد، وقد أعدوا الفرصة المناسبة لذلك يوم عيد الجسد، وتدبروا تلك المكيدة الشنيعة وهي أنهم يأتون بعدة رجال من البوليس الوطني ( ما اشبه الليلة بالبارحة) من خادمي أفكارهم من المسلمين ويلبسونهم ثياب العلماء الاسلامية وعمائم بيضاء ويعطون بيد كل واحد منهم مسدسا ويتركونهم يندسون مع المتفرجين حتى اذا مرت الحفلة في الجادة الكبرى هجموا عليها وقتلوا من صبيانها وصباياها بضعة أنفس وبذلك يتسنى للحكومة ضرب الاهلين والمطالبة بحفظ الاقلية باسم الدين (مثلما يحصل هذه الايام تماما) . ولما طرق خبر هذه المؤامرة الفضيعة مسامع النصارى خافوا على اولادهم وبناتهم من القتل فاوعزوا الى رؤسائهم الروحيين انهم لا يرسلون اولادهم وبناتهم للاشتراك باحتفال عيد الجسد الا اذا كان الاحتفال لا يخرج عن المحلة التي في دائرة الكنائس الاربع! (التي تقع في منطقة السنك) اللاتين والسريان والارمن والكلدان.
ولما سمع المسلمون بهذه الحالة ونوايا الحكومة السيئة ارادوا أن يزيدوها غيضا على غيض فاجتمعوا في يوم الاحتفال الذي وقع في عصر الاحد 6 حزيران وساروا جمعا واحدا الى كنيسة الكلدان حيث يكون الشروع بهذا الاحتفال المقدس فيها، واشتركوا فعلا بالاحتفال مع النصارى، ولم يكتفوا بذلك بل انقسموا قسمين قسم اشترك بالاحتفال والقسم الاخر وقف صفين على الطريق الذي تقرر ان يمر منه المشهد ففرشوه بالسجاد النفيس وحملوا بايديهم الورود الكثيرة المختلفة الالوان وماءها ايضا. ولما مر مشهد المحتفلين من بينهم أخذوا ينثرون عليهم الورود ويرشون ماءها ويهتفون لهم مع التصفيق القاصف بقولهم:
ليدم مجد السيد المسيح
ليحيى آباء الكنيسة
لتعش الجامعة الوطنية
ليدم الاتفاق العراقي
ليحيى إخواننا المسيحيون
لتحيى الجامعة القومية.
فكنت تسمع قسوس النصارى مع تابعيهم يحيون المسلمين هاتفين بقولهم:
ليعش إخواننا المسلمين
ليعش العرب
أما الانكليز الذين اشتركوا في الحفلة فكانوا يتميزون غيضا من جراء هذه الحالة............." .
وهناك رواية اخرى لما حدث يوم الاحتفال بعيد الجسد، وان كانت لا تخرج في معناها العام عما كتبه السيد عبد الجبار العمر الا اننا نرى مما له مغزى في هذه الايام التي يتعرض فيها العراق المحتل الى المزيد من المكائد والمؤامرات الهادفة الى تفكيكه وتقسيمه ومن ثم تدمير ما بقي من كيانه. فقد قيل بان خبر المؤامرة البريطانية هذه وصل الى مقر المجاهد الكبير الشيخ مهدي الخالصي في الكاظمية قبل بدء الاحتفال بيوم، فما كان منه الا ان يوجه دعوة عاجلة الى عدد كبير من علماءالمسلمين شيعة وسنة للاجتماع والتباحث حول كيفية إحباط المؤامرة البريطانية. وفي ذلك الاجتماع تقرر ابلاغ رؤساء الطوائف المسيحية بخبر المؤامرة البريطانية وعندما وصل الشخص الذي أُوفد من الاجتماع الى رجال الدين المسيحيين واخبرهم بما لديه قالوا له باننا علمنا ايضا بهذه المؤامرة ولكي نفوت على الانكليز هذه المكيدة قررنا الغاء احتفال هذا العام ولكن اخوانهم المسلمين اجابوهم على الفور باننا نصر على إقامة الاحتفال بحمايتنا نحن علماء المسلمين لكي يعرف الانكليز باننا شعب واحد بديانات وطوائف مختلفة. وهو ما حدث فعلا.
ولابد ونحن نورد هذه القصص المشرقة من تاريخنا المجيد ان نذكر القاريء الكريم بان تلك القصص وعشرات من امثالها وقعت قبل تسعين عاما من الان، في وقت كانت الثقافة السائدة آنذاك متدنية جدا لدى المواطن، وهي في الغالب الاعم ثقافة دينية، وأما الوعي السياسي فقد كان محصورا في دائرة ضيقة من الاشخاص، لإن ألبلاد كانت خارجة توا من ادارة الدولة العثمانية التي استمرت في العراق قرابة خمسة قرون ونصف، الا ان الشعور الوطني وحب الوطن والتمسك بروح المواطنة لدى العراقيين تغلبت على كل ما عداها من المعايير، التي لم تجلب لنا في الماضي ولا في الحاضر سوى الكوارث والمآسي والمحن، سواء مع المحتلين الاوائل أو الجدد. واذا كانت بريطانيا قد لعبت تلك الادوار التخريبية في العراق خدمة لمصالحها في عشرينات القرن الماضي حيث لم يشهد ذلك القرن هذه الثورة العملاقة في مجالات التكنولوجيا والاتصالات والاعلام العابر للقارات والاموال الطائلة والاسلحة الفتاكة وجيش المتطوعين من العراقيين لخدمة مآرب المحتل الامريكي ومخططاته الاجرامية، فماذا على الانسان أن يتوقع من هذا المحتل وهو يعاني ما يعانيه منذ سبعة أعوام من المقاومة الباسلة التي الحقت به اضرارا وخسائر في شتى مجالات الحياة عسكريا وماليا وسياسيا وبشريا وبالمعدات العسكرية المختلفة! فهل الفاجعة الدموية التي تعرض لها المصلون المسيحيون في كنيسة النجاة او في الآلاف من الجوامع والحسينيات الا من إنتاج المحتل وعملاءه المنبثين في كل زاوية من زوايا العراق.
إنني أكاد آجزم بان ما حدث لكنيسة النجاة من تدمير كامل وقتل عشرات الابرياء من النساء والاطفال والرجال سوف لن يكون الاخير، بل سيتكرر مرات ومرات للكنائس والمساجد والحسينيات ما دام ذلك الفعل الشنيع يخدم مصالح المحتلين في تفرقة الشعب واضعافه. ولا يحسبن احدكم بان مؤسسة عراقية دينية أو غير دينية سوف تكون في منجاة من تخريبهم اذا لم نقتف أثر آباءنا واجدادنا العظام قادة ثورة العشرين في الحرص الشديد على وحدة الوطن والشعب، تاركين الخيارات الدينية والمذهبية والسياسية خلف ظهورنا، حيث كانوا يضعون مصلحة البلاد الوطنية العليا كشعار عام، وهم يواجهون بصدورهم العارية وباسلحتهم البدائية وبايمانهم بالدفاع عن شرف الوطن وسيادة الشعب جنود المحتلين البريطانيين. ولم اقرأ في اي كتاب من الكتب التي تؤرخ لهذه الثورة العظيمة وقادتها الابطال أن احدا منهم طالب باقامة حكومة شيعية أو سنية أو حتى حكومة اسلامية بل كانت مطاليبهم تتركز على قيام دولة مدنية دستورية وديمقراطية، لانهم كما يبدو كانوا اكثر وعيا بطبيعة التركيبة الاجتماعية للشعب العراقي واكثر إيمانا من جيلنا بأن وحدة البلاد ومستقبلها لا يمكن ضمانهما الا بما يتساوق مع تلك المطاليب التي كانت تمثل الاهداف الكبرى لثورتهم، وبهذا تركوا لنا إرثا وطنيا خالدا. فهل تعلمت أجيالنا الراهنة شيئا من ذلك التراث؟!!
ومن نافلة القول بأن على المبدعين والكتاب والمحللين السياسيين والمثقفين العراقيين عموما، كما على كل الوطنيين العراقيين مهما إختلفت إتجاهاتهم، تقع مسؤولية التوعية ونشر الثقافة الوطنية من خلال التاكيد دائما وباستمرار ان من يمارس عملا اجراميا ضد اي مواطن عراقي مهما كان دينه او مذهبه او انتماؤه السياسي لا يمكن الا ان يكون اداة رخيصة بيد المحتل الامريكي لتنفيذ مخططاته، وخادما لمشروعه الرامي الى البقاء والاستقرار على ارضنا وفي بلادنا وتوفير المناخ الملائم لهذا المحتل لنهب ثرواتنا وإذلال شعبنا وسلب حريتنا وسيادتنا وحرماننا من ابسط شروط الاستقرار والتقدم العلمي. لتتوحد كل الجهود وتتكرس كل الطاقات الكامنة في شعبنا العراقي من أجل مقاومة المحتل وافشال مشروعه في العراق بشتى انواع المقاومة عسكريا وسياسيا وثقافيا وفكريا وإجتماعيا وقانونيا، وتحريم أي عمل يستهدف ابناء شعبنا العراقي أو مؤسساته العامة،وإدانته وفضحه على أوسع نطاق.
19/11/2010