قبل أن يقفز القلب

الإدارة المشاركات : 3446 . :

قبل أن يقفز القلب
محمد خليل عقل/ النائب في البرلمان الأردني

لم تكد سيارات الوفد تنطلق من القصر الرئاسي السوداني بعد مقابلة الرئيس البشير وتنقل إليه رسالة التأييد من ممثلي المجالس النيابية العربية والإسلامية، حتى هاتفني أحد الإخوة من عمان يقول: جهز نفسك، السفر إلى غزة يوم الأحد بإذن الله.
لحظات يعزّ وصفها، لم تشفع هيبة النّيل وجماله الأخاذ -ونحن نسير إلى جانبيه- لدقات قلبي بأن تتسارع وأنا أشعر بأن الحلم قد يتحقق قريباً، فاجتهدت في أن ألجم هذا الخفقان حتى لا تشي بي عيوني في ذلك المشهد السياسي الصارم.

وفي صباح ذلك الأحد انطلقت الحافلة من مطار القاهرة تقل الوفد النيابي الأردني باتجاه معبر رفح، يتوحّد الجميع في نيل الغاية من هذه الرحلة لكسر الحصار عن شعبنا المحاصر في غزة وتقديم التهاني بالنصر باسم الشعب الأردني بكل مكوّناته، وتسنح الطريق الطويلة للمشاعر الخاصة أن تسترسل، فعادت بي إلى بواكير الطفولة في أزقة مخيم البقعة، حيث كانت العواصف تقتلع الخيام، فأغدقت علينا وكالة الغوث بما يسمى «البرّاكيات»، وهي غرفة صغيرة من صفيح يتراكم فيها أفراد الأسرة في مشهد إنساني مريع، تقسو عليهم بأقسى مما تقسو عليها أحوال الطقس.
في تلك المرحلة كان يمكن أن ننسى أي شيء إلا فلسطين والإصرار على العودة إليها، حيث كان الآباء والأجداد لا يتحدثون إلا عنها بلهجة العشاق، فيطلقون العنان لطفولتنا كي تسرح في مدنها وقراها وشواطئها وحقولها وبياراتها، فنجمع أجمل ما فيها في لوحة واحدة هي فردوسنا السليب الذي يجب أن نقاتل اليهود لنعود إليه.
لم نكن بحاجة إلى تأكيد حق العودة والتمسك به، لأن الحديث بغير ذلك كان يعادل الكفر. والأهم من ذلك أننا كنا نعيش العودة يوماً بعد يوم، وبالرغم من تراكمات العجز العربي فإن وهجها لم يغادرنا وإن خفّ بريقه عند بعض ضعاف النفوس!
وتستمر الخواطر ونحن نجتاز الجسور المنتصبة فوق قناة السويس، لتقول سبحان الله، حتى سيناريو العودة إلى فلسطين بعد أكثر من أربعين عاماً من مغادرتها لا يوافق ما كان يداعب مخيلتي دوماً باجتياز جسر الملك حسين، مروراً بالقدس كي ألثم ترابها وأصلي في أقصاها، ثم أنطلق إلى جبل الخليل حيث بلدتي «ذكرين» لأعانقها وأتفقد ذكريات والدي فيها وأرى ما صنعت بها الأيام.
وها أنا أعود إلى غزة، بوابة البطولة وصانعة المعجزات، وكلما أوغلت الحافلة في أعماق سيناء باتجاه العريش ثم رفح ازداد خفقان القلب وأيقنت أنه يتهيأ كي يقفز عندما تحطّ قدماي في غزة. وبدأت أمواج البحر المتوسط تهدر حوالينا وتتضح المعالم شيئاً فشيئاً، وأخذ نواب الأردن يحزمون مشاعرهم وأمتعتهم فهم الآن على أبواب غزة، أما قلبي فأخذ يتقافز كلما اقتربنا من معبر رفح، واشتد به الأمر حتى ظننت أنه سينخلع من مكانه عندما توقفت الحافلة وبدأنا بالنزول، واقتربنا من الضابط المصري الذي كان يتهيأ لإبلاغنا رسالة السلطات المصرية: «إن المعبر مغلق ولن يفتح لكم أبداً»، فذهلت من صدمة الجواب وتحسست قلبي، فإذا هو مكانه، فقلت في نفسي: «يبدو أنهم أشفقوا عليَ من دخول غزة حتى لا يقفز القلب!».