غيرُ خافٍ أن التجديد ليس غايةً في نفسه، بل هو أمر يُراد به الوصولُ إلى تغيير واقعٍ لا نرضى عنه، أو إلى نتيجة نسعى إلى بلوغها، وكلا الأمرين مقصودٌ حين نتحدث عن التجديد في ميدان النحو ومناهجه. وغيرُ خافٍ أيضًا أن وضوح الغاية يساعدنا على اختيار الوسيلة المناسبة لبلوغها، والغايةُ التي نرمي إليها في ميدان العربية هي السلامةُ في القراءة والسّدادُ في الفهم إذا قرأ الطالب أو سمع، والصحةُ في الكلام والقدرة على الإفهام إذا تحدّث أو كتب. إن الغاية بإيجاز هي: فهم اللغة مسموعة ومقروءة وإفهامها منطوقة ومكتوبة. ولست أريد أن أجول وأطيل، شأنَ بعض التربويين في الحديث عن المهارات وأنواعها وكيفية اكتسابها، وهي أمور لاحقة للغة بعد وجودها، بعد تحقّقها، بعد امتلاكها، إذ كيف يتعلّم المرء المهارة في شيء لا يملكه أصلاً؟ كيف نعلّم المهارة في استعمال سلاح لا يملكه المتعلّم أصلاً؟! المهارة ضرورة، ولكنها صفة تابعة لوجود اللغة، والمهارة في الخط ضرورة، ولكنها صفة لاحقة لمعرفة أشكال الحروف وقواعد كتابتها، والمهارة في القراءة ضرورة، ولكنها صفة متأخرة تأتي بعد معرفة الحروف وإتقان نطقها ومعرفة حركاتها.. ولا بدّ من الإشارة إلى أن الضعف اللغوي العام، والمستوى المتدنّي للغة العربية على ألسن الطلاب وأكثر المثقفين في كتاباتهم، ليس النحو هو المسؤول عنه؛ فالنحو لا يعلّم اللغة ولا يحييها، بل هو بعدها وتالٍ لها، يقوّم منآدَها، ويرشد إلى الصواب فيها. والضعف في العربية عام؛ في فقر الطلاب في الثروة اللفظية، وضعفهم في صياغة الجمل، وجهلهم بمواضع حركات الإعراب وقواعد الإملاء. وإذا كان هدفنا أن يبلغ الطالب الفهم السليم إذا سمع أو قرأ، والإفهام السليم إذا تحدّث أو كتب، فما الذي تبلغه مناهجنا من ذلك كله؟! - مناهجنا اليوم لا تُعنى بالخطّ ولا بالإملاء العنايةَ الكافية، والخط والإملاء وسيلتنا إلى إتقان الكتابة، ولا تُعنى بالقرآن، وهو خير وسائلنا لإتقان القراءة والنطق. ونحن نقتل البلاغة بتدريسها جامدة في حدود وتعريفات وأمثلة تحفظ مبتورة حين ندرّسها في المرحلة الثانوية، وأما في الجامعات فكثير من العرب استغنوا عنها وقلّصوها أو قلبوها نقدًا أو أسلوبًا أو أسلوبية!! - وأما في النحو فنقدّم تفصيلات نحوية مبكرة، وتعليلات لا شأن للطالب بها، ونتركه يحفظ الإعراب أحيانًا، ويحفظ الاصطلاحات النحوية دون فهم لمعناها. - ونحن في أحيان أخرى لا نميز بين طالب دراسة عامة وطالب مختص باللغة العربية.. فنعطي غير المختص ما لا يحتاج إليه! - وإننا في جميع المراحل الدراسية نهمل أهم ما يكسب الطالب اللغة، وهو سماعها وتقليدها وممارستها!! إننا نعرف أن اللغة لا تعلّم تعليمًا كما يعلّم النحو، ولكنها يمكن أن تكتسب بالسماع والممارسة، وقد كان الناس قديمًا يتحدثون اللغة سليقةً، وكان الأبناء يسمعون اللغة سليمة.. ونحن نقدم اليوم لأبنائنا سلائق عاميّة تختلف باختلاف بيئاتنا العامية في أقطارنا المختلفة، وينمو أبناؤنا وهم لا يسمعون في أكثر الأوقات غيرها!! وأما الفصيحة فهي عندهم كالفرنسية والإنكليزية لا يسمعونها إلا في درسها ـ إذا تحدّث المعلّم بالفصيحة ـ ثم هم لا يجدون في مجتمعهم مناسبة لاستعمالها!!. وما دامت اللغة تكتسب بالسليقة والممارسة، فلا بدّ اليوم من العودة إلى سليقة النص القرآني والنص الأدبي الرفيع؛ يكثر المتعلّم من مطالعته وحفظه لتصبح لديه سليقة يقلّد بها اللغة التي سمعها وحفظها.. إن التقليل من ساعات القرآن في المرحلة الابتدائية وما قبلها خطأ لغوي وتربوي وقومي؛ لأن المتعلّم في تلك المرحلة الابتدائية، وإن لم يكن مدركًا للمعاني التي تعبّر عنها الآيات القرآنية، يستقرّ في أعماقه أنموذج من الصياغة اللغوية يصبح أشبه بالمثال الذي يقتفيه، أو يصبح السليقة التي يقيس عليها ويولّد لغته على مثالها، وبذلك تقوى لغته وهي اللغة الأم التي تربطه بقومه. إن اللغة لا تعلّم بمحاضرات ودروس نظرية، وليس لدينا اليوم سليقة يحاكيها المتعلّم، فلا بدّ من غرس السليقة عن طريق لغة سليمة يختزنها المتعلّم ويولّد لغته على سمتها. إننا كثيرًا ما نصوغ لغتنا على نحو ما اختزنّاه في ذاكرتنا وفي (لاشعورنا) من نصوص اللغة التي حفظناها وقامت في نفوسنا مقام السليقة التي افتقدنا سماعها. يقول ابن خلدون في تحصيل الملكة اللغوية: «ووجه التعليم لمن يبتغي هذه الملكة ويروم تحصيلها أن يأخذ نفسه بحفظ كلامهم القديم الجاري على أساليبهم؛ من القرآن والحديث وكلام السلف ومخاطبات العرب وكلام المولَّدين في سائر فنونهم، حتى يُنَـزَّل لكثرة حفظه لكلامهم منـزلةَ من عاش بينهم ولقن العبارة منهم». فإذا فاتنا السماع لأصحاب السلائق فلنقرأ للمطبوعين من الأدباء والفصحاء وأصحاب القرائح. والتمرس باستعمال اللغة الأم يجب أن يكون في مرحلة مبكرة، مرحلة قبل مرحلة التعليم الثانوي والجامعي، وإذا تأخّر ذلك فإنه لا يجوز أن تتجاوز مرحلة إتقان اللغة، نهاية المرحلة الثانوية التي يكون الطالب قد بلغ فيها الثامنة عشرة من عمره، وانتهت مقدرته على التمكن من المهارات اللغوية الأساسية. إن تعلّم اللغة الأم يحسن أن يكون فيما بين الطفولة المبكرة والسنة العاشرة من العمر، وأما المرحلة اللاحقة فلتفتّح الإبداع وتشجيع المواهب، فأين نحن من هذا كله؟ ومدارسنا تزدحم الدروس فيها بالمقررات، وتتردد على أسماع الطلاب فيها لغات عربية عامية ولغات أجنبية، وأما العربية الفصيحة فلا تطلّ إلا على استحياء، إذا أطلت في بعض الدروس وعلى لسان بعض المدرّسين!! ومدارسنا ساحات للتجارب التربوية والتعليمية الوافدة أو المستوردة عامًا بعد عام، على أننا إذا كنا في حاجة إلى خطوات تجدّد أو تعدّل أو تيسِّر ـ ونحن في أشدّ الحاجة إلى ذلك إنقاذًا للعربية من المستوى الذي بلغته على الألسن والأقلام ـ فإن من الأهمية بمكان أن ننبّه على أن ما نريده من بلوغ المتعلّم في نهاية المرحلة الثانوية من إتقان للقراءة والفهم، وإجادة للتعبير والإفهام، وما نسلكه أو نتخذه لبلوغ تلك الغاية لا يجوز أن يمسّ الهيكل العام للبناء النحوي في أصوله وقواعده، فهو بناء عاشت أمتنا عليه قرونًا نتركه للباحثين والدارسين المختصّين لنصرف جهودنا إلى مرحلة التعليم الأساسي والمرحلة الجامعية لغير المختصّين. وإن رأيًا واحدًا يتناول تعديل الأصول وزلزلة البناء سيتردد صداه في الأقطار وسيتناوله المتربصّون والمتزيّدون لنسمع تشجيعًا وردًّا وتقريعًا ونقدًا، ولينقسم العرب حوله شيعًا وأحزابًا، ويصبح الرأي آراء، والشعب شعوبًا، والأمة أممًا، والعرب اليوم يكفيهم ما تفرّق من كلمتهم وشال من نعامتهم! وليس ينقصهم إلاّ أن يصبح نحوهم مختلفًا، لكل قطرٍ منهم نحوه وأصوله وقواعده!! إننا نرى أنه ينبغي لبلوغ غايتنا أن نبادر إلى ما يلي: 1ـ النظر إلى مقررات اللغة العربية نظرة كلية تقوم على أنها علوم متكاملة يساعد بعضها بعضًا ويتمّه، وأن لها - إضافة إلى الهدف الخاص لكل منها- هدفًا مشتركًا تسعى إلى تحقيقه؛ وهو إتقان اللغة؛ فهمًا إذا قرأ الطالب أو سمع، وإفهامًا إذا تحدث أو كتب. ويكون درس النصوص معيارًا يكشف مدى ما بلغناه من تحقيق هذا الهدف العام؛ لأنه يظهر ما أتقنه الطالب من اللغة قراءة وفهمًا وشرحًا وتذوقًا. 2ـ وضع مناهج اللغة العربية بحيث يكون كل منها مناسبًا لمرحلة من المراحل، وجعلها على ثلاثة أقسام: المنهج الأول لمرحلة التعليم الأساسي، والثاني للثانوي، والثالث للجامعي. وهي كلها غير المناهج الخاصّة بالدارسين والمختصّين في الجامعات. 3ـ يراعى في هذه المناهج: أ) التفريق بين ما نطلبه ثقافة لغوية عامة لكل مثقف أيًا كان اختصاصه، وما نطلبه من الدارس المتخصّص في اللغة العربية وآدابها. ب) التخفيف من مناهج النحو في المستويين الابتدائي والإعدادي: 1ـ بحذف كل ما لا يفيد في صحة النطق من موضوعات النحو، وعدم تتبع الجزئيات والدقائق النحوية والإعرابية؛ كإعراب صيغتي التعجب، والإعراب التقديري، ولنأخذ بمذهب الجاحظ الذي أوصى بألا نشغل قلب الصبيّ إلا بما يؤديه إلى السلامة من فاحش اللحن. وإذا هذَّبنا أو اختصرنا فلسنا بدعًا في التهذيب والاختصار وترك ما لا تدعو الحاجة إليه، فقد سبق إلى ذلك القدماء من علماء العربية، وكان منهم من وضع الكتب المبسَّطة كالزبيدي (379هـ) صاحب "الواضح"، وكالفارسي (377هـ) صاحب "الإيضاح"، وكالمطرّزي (610هـ) صاحب "المصباح"، وكابن هشام (761هـ) صاحب "الإعراب عن قواعد الإعراب". وقد صرّحوا بما أرادوه من تيسير على المبتدئين. قال ابن هشام: إنه يتحدث عن كلمات يكثر استعمالها ووضّح أساسيات في الإعراب تفيد المبتدئين. وأما صاحب "المصباح" فلم يكن ليطيل كما نطيل نحن في بيان مصير حركات الإعراب وتعليل كونها مقدّرة لا ظاهرة بالتعذر أو الثقل في أواخر الاسم، إنه اكتفى بالقول: "ما في آخره ألف لا يظهر فيه الإعراب كالعصا والرحى. وما في آخره ياء مكسور ما قبلها يسكّن في الرفع والجرّ ويحرّك في النصب مثل: جاء القاضي ومررت بالقاضي ورأيت القاضي"، وما أظن النطق السّليم يحتاج إلى أكثر من ذلك في المرحلة الأولى، وقد استغنى عن كل ما نعلّمه نحن اليوم من حدود وتعريفات ومصطلحات تتصّل بالثقل والتعذّر والمقصور والمنقوص! 2 ـ أن نتوخّى في اختيار الأمثلة أن يكون بينها الكثير مما يعبر عن حياتنا اليومية؛ لإزالة الجفاء بين الطالب وقواعد لغته، وليقوم في نفسه بأن ما يدرسه أمر متصل بحياته وبسلوكه اليومي. وأنه في حاجة إليه للتعبير عن حاجاته الحياتية اليوميّة. 3ـ بتعليم بعض الموضوعات على أنها أساليب تقدم للطلاب نماذج منها ليحفظوها ويقيسوا عليها متجنّبين إعرابها وتعليلاتها، كأساليب التعجب (ما أفعل الشيء، وأفعل به) وتوابع النداء من استغاثة وندبة.. وهي أساليب ثابتة في حركاتها قليلة في عددها، على حين أن تعليلها وإعرابها فوق المستوى العقلي للطلاب في تلك المرحلة. جـ) ضبط الكتب الدراسية في هذه المرحلة بالشكل ما أمكن، ولا سيما كتب اللغة العربية، ليعتاد الطلبة القراءة الصحيحة. د) أن نلاحظ في وضع المناهج ألاّ تكون الموضوعات المتكاملة من علمين مختلفين متباعدة أو موزّعة على سنوات مختلفة، وذلك يعني أن نضع ما يتصل من موضوعات النحو بموضوعات علم المعاني في البلاغة في سنة واحدة، فالمعارف في النحو ترافقها في السنة نفسها دراسة دواعي التعريف والتنكير من علم المعاني، ومواضع ذكر المبتدأ والخبر وحذفهما أو تقديمهما وتأخيرهما ترافقها دواعي الذكر والحذف ودواعي التقديم والتأخير، حرصًا على وحدة الموضوعات التي فرّقتها مناهجنا وأساليب تعليمنا تأليفًا وتوزيعًا للموضوع الواحد بين المدرّسين والامتحانات حتى تمزّقت في عقول الطلبة ولم يقم في عقولهم أنها مادّة واحدة، وأن لها جميعًا هدفًا واحدًا يحسن أن تبلغه ونبلغه. وكذلك ينبغي أن ننظر إلى التكامل بين الموضوعات في تتابعها في السنوات الدراسية المتعاقبة. هـ) تخصيص ساعتين أسبوعيًا لدرس نُسمّيه مقرّر "اللغة العربية" وهو درس جامع لكل علوم اللغة العربية يتدرب الطلاب فيه على كل ما ثقفوه من قراءة ونحو وصرف وبلاغة وإملاء وأساليب تعبير من خلال نصوص شائقة مختارة. و) أن يلاحظ في التدريس أن سلامة اللغة ليست في صحة الإعراب فحسب، ولكنها في الكلمة المفردة إعرابها وصيغتها ومعناها، والتركيب وصياغته، وكل ما يجنّب اللغة اللحن والخطأ والضعف والركّة والانحراف. وبعد، ففي تراثنا اللغوي القديم ما لم يعد ملائمًا لأذواق عصرنا؛ سواء أكان كلمة مفردة أم صورة، وفيه ما لا يزال يسدّ حاجة ويُقبل ذوقًا، وليس لدينا ما يمنع من إهمال بعض القديم ولا ما يمنع من الأخذ منه، وأما هجره فقطع للصلة بالتراث, وليس لدينا أيضًا ما يمنع من الأخذ بالجديد ففيه ما يروق ذوقًا ويعجب صورة وتعبيرًا.. والمعيار في ذلك أن يكون كل ما نأخذه لا يخالف قاعدة ولا يخرج عن أصل. إنه المنهج الذي يبقي اللغة خالدة متصلا قديمها بحديثها، فلا يجمّد قديمها فتموت، ولا يرفض جديدها الذي يطوّرها وتستمرّ به حياتها. وإن علينا أخيرًا أن نعلّم طلابنا الكلام أعني اللغة المحكيّة التي تنطلق ألسنتهم بها منذ الصغر، وأن نعلّمها مقروءة ومكتوبة بالتدرّج، فالنشء كالنبات يمكننا تعديله صغيرًا إذ يكون كالأغصان الليّنة، ويتأبى ويستعصي كبيرًا إذا استحصد وغلظ واستوى في خلقه. قد يعلم الأدبَ الأطفالُ في صغرٍ وليس ينفعهم من بعده أدبُ إن الغصون إذا قوّمتَها اعتدلتْ ولا يلينُ إذا قوَّمته الخشبُ بحث مقدم للمؤتمر السابع لمجمع اللغة العربية بدمشق |