فرخ البط القبيح ـــ وليد معماري يسألني كثير من الشبان الآتين إلى عالم الإبداع في مجال القصة القصيرة: أنت تدعونا إلى الالتزام بالواقع، وقراءة هذا الواقع.. ثم استنباط الفن منه... أو بشكل أكثر دقة، عودة الكاتب إلى طفولته الأولى... ومثالي الأوضح أن غابرييل ماركيز قال بعد الانتشار العالمي لروايته "مئة عام من العزلة"، أنه استمدها من ذكريات السنوات الأربع الأولى لطفولته.... وهذا واضح في عمل "الزمن الضائع" لمارسيل بروست.. وواضح أن هيرمان ميلفل في روايته "موبي ديك"، التي تعد إنجيل الرواية في القرن العشرين، لم يكتب عن تجربة مطاردة، وصيد الحوت الأبيض، من فراغ، بل من معايشة حقيقية.. ولم يصنع من نفسه بطلاً في الملحمة، بل، ربما كان عامل تنظيف فوق سطح السفينة.. لكنه (رأى/ أبصر) كل شيء، حسب تعبير كلكامش... والأمثلة أكثر من أن تحصى... وشرط الرؤية والمعايشة لا تتطلب نقل الواقع كما هو بشكل تسجيلي و (فوتوغرافي).. فالفنان الفاشل هو الذي ينسخ الواقع كما هو.. لكن الأفشل منه من يتجاهل الواقع، ويجنح نحو الذهنية المقيتة.. ويحلق في عوالم خارج عالمنا.. ويبتدع أحداثاً وأحاديث، أبطالها عاشوا، أو يعيشون في كوكب المريخ... [size=12]رؤية الواقع لا تعني نسخه، بل إدراك جوهره، ومعالجته في تنّور الفن، ليخرج رغيفاً ناضجاً قابلاً للتذوق.. [size=12]ولدي مثال طريف، عن كاتب دانمركي، هو (هانس كريستيان أندرسون – 1805- 1875).. اشتهر بكتابة حكايات للأطفال، أشهرها حكاية: "فرخ البط القبيح".. وهي حكاية أشهر من أن يجري تلخيصها هنا.. وأشهر من ألا يعرُفها كتاب قصص الطفل في عالم المهتمين بالكتابة للصغار... بالمختصر..فقست آخر بيضة حضنتها البطّة، عن فرخ لا يشبه فراخها البيضاء.. فهو رمادي اللون، وهجيناً بين إخوته.. لكن هذا الفرخ الهجين، بعد مغامرات عسيرة وصعبة، سيكتشف أنه طائر (تمًّ جميل).. [size=12]وحين سُئل أندرسون عن سيرة حياته، أجاب: "اقرؤوا حكاية فرخ البط القبيح!".. وقد روى فيها الكاتب سيرة حياته وتشرده ونبذه، بمعادل فني رفيع... وقال: "فرخ البط القبيح هو أنا"!!.. وكرر المقولة ذاتها مبدع راوية "مدام بوفاري" غوستاف فلوبير (1821- 1880).. وقال بصريح العبارة: "مدام بوفاري هي أنا!"... [size=12]وعودة إلى حكاية "فرخ البط القبيح".. التي أكدت أنها ليست (من بنات ذهن) كاتبها.. بل هي سيرة حياته التي رواها عبر معادل فني، لكنه لم يضح بالواقع، بل تمسك به... لا بل هو بدأ حكايته بمقطع شديد الواقعية، يقول فيه: "مشهد المدينة كان جميلاً... صيف رائع... (الجودار) أصفر اللون.. و(الشوفان) أخضر.. وقد جُمع البرسيم أكداساً في المروج.. وطائر اللقلق يسير على ساقيه الطويلتين الحمراوين، ويتكلم اللغة المصرية القديمة التي تعلمها من أمه"... [size=12]إنها لوحة واقعية.. مستمدة من الواقع.. لكنها ليست الواقع ذاته.. بل الصورة المنعكسة في مرآته.. [size=12].. حين يلجأ "فرخ البط القبيح" هارباً من قومه المستهزئين به إلى كوخ هادىء ودافىء ومريح، تحتله جدة عجوز، وهر مغرور، ودجاجة.. تسأله الدجاجة: "هل تبيض؟"!.. ويجيبها: "كلا".. فتزجره: "إذن، فلتكن لديك فضيلة الصمت!".. [size=12]وقد رفض فرخ البط القبيح هذه النصيحة... ومضى ليكتشف أنه طائر (تم)، جدير بارتياد فضاءات واسعة.. [/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size] |