ولد وحيد وبالله المستعان..
هكذا كانت أمي تردد أمام الجيران، بعد تنهيدة طويلة، لم؟؟ لا أدري!
وأنا لا أذكر عنها إلا هذا القول، حيث أنها ماتت بعد ذلك.
أستميحكم عذراً..
فلست متفائلاً بما فيه الكفاية، اعذروني، فهذا هو طبعي، لذلك فأنا دائم الرصد لكل ما يلفت انتباهي بشكل مزعج منفر، ويأخذ من تفكيري كل ما هو سلبي وقاتم.
ومع هذا فأنا أبادر الآخرين بأن أقول لهم: صباح الخير!
هكذا بدون مقدمات: صباح الخير..
أعرف أنه من غير اللائق العبث بالزمان والمكان، فهذا جرم كبير، إلا أنني مع ذلك، سأبادر بالقول: صباح الخير!!
لذلك كنت ما إن دخلت على تلاميذي لإعطاء الدرس المقرر لهم، أبادرهم بوجه باش بعد أن أكون قد غسلت وجهي جيداً ورتبت شعري، فهو مجعد جداً، إلا أنني أرتبه جداً، لأني أعرف كم هم مجرمون...
أدخل عليهم مع ابتسامتي الطيبة، وأقول لهم مع انحناءة خفيفة: صباح الخير!!
وبما أن حس الإجرام يعيث في داخلهم جميعاً وبنسبة واحدة فإنهم في كل يوم يردون علي بطريقة تختلف عن سابقتها، مرة يقولون: صباح الورد.. أو صباح السعادة –متفقون جميعاً- ومرة صباح الإشراق يا أستاذ!!
كنت أغتاظ بيني وبين نفسي جداً، وخصوصاً من طريقة نطق آخر حرفين من كل جواب، فقد كان الجميع يمطون التحية بنفس واحد وإيقاع واحد –أعلم أنهم متفقون عليّ جميعاً.. أعلم- لذلك كنت تجدني مضطراً لأن أرتفع بأحاسيسي إلى أعلى مستويات عملها.. وأن أترك لعيني حرية الاتساع أقصى ما يمكن.. ولأذني حرية السمع أرهف ما يمكن.. ولأنفي حرية الشم أقوى ما يمكن..
مع هذا لم أستطع حتى الآن أن أعرف من أين كانت تهب عليّ في كل درس روائح مألوفة.. مثل رائحة الزعتر والزيت، أو رائحة البرتقال والليمون، أو رائحة البذر الأسود...
والله كان لعابي يسيل أحياناً رغبة مني بتذوق بعضها.
ومرات عديدة كنت أشتم رائحة.. لا.. لا أريد أن أصفها!!
لا أذكر أني كنت أكتب على السبورة، كيف أكتب وأتركهم خلفي؟ هل جننت لأفعل مثل هذا؟
أي أحمق يدير ظهره لحفنة من الطغاة المجرمين؟ لا.. أبدا.. بل أحدق في عيونهم المريبة, ومع ذلك تفلت ضحكة من هنا وتعليق من هناك.. حتى أنني اكتسبت عادة لا أدري ان كانت سيئة.. فقد أصبحت أثناء سيري وبعد كل عشر خطوات أستدير الى الوراء بسرعة البرق لأرلى ما يحدث خلفي..
لا أظن أنها عادة سيئة , فالعالم مليء بالغبار والضباب والاهانات.
أذكر أن الله قد غضب علي مرة حينما فكرت بأن أكتب على السبورة عنوان الدرس, والله عنوان الدرس فقط.
أدرت ظهري لهم , وكنت مصرا على أن أكتب العنوان كاملا, مهما كانت النتيجة.. أدركت أن حركات خفيفة رشيقة كانت تصير خلف ظهري كحركات السارقين وقطاع الطرق في الليل.
استدرت اليهم ببطء.. ببطء شديد .. كان كل شيء يخطر ببالي, الا أن ينتقل كل من كان يجلس بالمقاعد الأمامية الى الخلف وأن يأتي كل من كان بالمقاعد الخلفية ةيجلس بالأمام. لا أدري كيف تمت هذه العملية المعقدة بهذه السرعة وهذه الخفة اللصوصية.
تركتهم كما هم وعدت أكمل كتابة العنوان , وليتني لم أفعل... فقد سقط وابل من حبات الحمص على خشب السبورة, كفرقعات قوية مفاجئة مزعجة..
للحق، ارتعدت فرائصي واستدرت بسرعة البرق لأرى الفاعل المجرم.. إلا أن الوجوه كانت ساكنة، دافئة، وكأن شيئاً ما لم يحدث. ولكني اكتشفت أفواهاً تبتلع ابتسامات خبيثة ملعونة.
رحمة الله عليك يا أمي.. كثيراً ما قرأتْ الأدعية عند مزارات الأولياء والقديسين، ليصير ولدها الوحيد معلماً.. لم تكن تدري إلى أي حال ساصير بعد أن يستجاب دعاؤها... والغريب في الأمر أمها المرة الوحيدة –كما أعلم- التي يستجاب فيها دعاء لها، وسقط فوق رأسي نتاجه!!!
لو كنت خياطاً، أو حذّاء، أو حداداً لكان في الأمر بعض الأمل.. إلا أنني ويا فرح الأجيال.. معلّم!!
لذا لن أتزوج، فإن فعلت، فسأكون قد ارتكبت إثماً بحق نفسي والمجتمع.. هاأنذا، وياللفظاعة، سأنجب أولاداً.. سيكبرون، وسأصرف وأنفق عليهم كل ما يمكن أن أملكه وأجمعه، وهم بدورهم سيصبحون تلاميذاً.. سيصبحون مجرمين فارين من أيدي العدالة؟! لا .. لن أتزوج...
حتى أنها عندما كانت تراني في كل صباح أخرج من باب البيت، كانت تطل من خلف نافذتها الواطئة هي وأختها الصغرى، تتغامزان وتتهامسان وتمضغان ضحكات صغيرة.. حتى أبتعد.. للحق كنت أحبذ هذا بادئ الأمر، ويجعلني أفتخر بنفسي بعض الشيء..
لا.. لن أتزوج مطلقاً..
فقد أطلت من النافذة يوماً، وندهت لأختها بصوت ما حسبت أني سأسمعه بوضوح:
- تعالي بسرعة، لقد ظهر المسمار المرعوب..
مسمار مرعوب؟؟!!؟ مسمار!!! حثثت الخطى سريعاً حتى غبت عن النظر.
لم أدرك إلا لحظتها بأن شكلي يشبه المسمار فعلاً، لإنني نحيل وطويل، وشعري المجعد يشكل دغلاً كثيفاً أسود اللون، وأسير بشكل مستقيم، ولا تهتز يداي إلا بطريقة غير ملحوظة..
مع ذلك يا آنسة فأنا لست مسماراً مرعوباً.. لست مرعوباً على الأقل.. لذا لن أتزوج حتى لو قتلت نفسها تلك.. تلك المطرقة..
أنا معلم مدرسة يا آنسة... معلّم..
بعد دراسة طويلة لمعطيات مهنته وما آلت إليه حاله.. قرر في ليلة شتوية موحشة...
بعد أن قفز من فوق سريره المهترئ كملدوغ، ووقف وسط الغرفة كمصعوق، قرر أن يقوم في الصباح بموقف عملي.
هل عليّ أن أصؤف حياتي في تدريس هؤلاء المجرمين الفالتين من أيدي العدالة؟؟؟
لا.. لذلك.... بم.. بم.. بم..
وأطل من نافذة صغيرة من الباب الكبيرـ وجه مدور، كرغيف منفخ متورد خرج من الفرن تواً، كان هذا وجه الشرطي.
-نعم؟ سأل الشرطس.
-أريد الدخول! أجاب.
-إلى أين؟ سئل.
-أليس هنا سجن؟
-نعم.
-إذاً، أريد الدخول!
سأله الشرطي مستغرباً: ومن ستزور؟
أجاب: مدير السجن، أنا معلم.. مدرس.
وبعد أخذ وعطاء، وشد ومد، دخل ليقابل معاون مدير السجن، الذي استقبله باستغراب.
-سيدي، أريد أن أدرس في سجنكم وهذا هو التكليف.
-ولم؟ سأله
أجاب بصوت جاد ونبرة واثقة مقتنعة: سيدي، أن أدرّس مجرمين مقبوضاً عليهم، أسلم وآمن من أدرّس طغاة فالتين من أيدي العدالة، لا يضبطهم قانون أو نظام أو خلق..
بدأ عمله في السجن، لكن اطمئنانه سرعان ما فقد من الوهلة الثانية.. حيث أن شوارب أمامه قد فتلت، وجمل عنترية وهرقلية ألقيت بين عينيه.. وعضلات مفتولة شهرت أمامه.. احتار المعلم ولم يعد يستطيع النوم، فأحس نفسه وحيداً وغريباً، وما من أحد حوله.
مرض المعلم كثيراً.. ومات.
وانطوت آخر صفحة في حياته.
لم يكن له أقارب كثر –كان وحيداً وبالله المستعان- معارفه ليسوا أكثر من ثلاثة أشخاص خال أمه، وابن الخال، والمرأة العجوز التي كان يسكن عندها... هؤلاء خرجوا لوداعه الأخير.
لكن الجنازة كانت حاشدة، مليئة بالعيون الصغيرة البراقة... كل تلاميذ مدرسته كانوا يسيرون خلف النعش بخشوع صادق، وحب حزين..
ووري المعلم التراب، اقترب تلميذ صغير، كانت قد جمدت في عينيه دمعة صغيرة كلؤلؤة ضائعة حائرة..
جثا على ركبتيه الناعمتين، وضع على تراب القبر قطعة من ورق مقوى، كتب عليها بخط عريض غير منسق:
صباح الخير يا أستاذ...
بسام كوسا