الموتُ في بِلادي يُشبِهُ الحياة
مي محمد اسامة
قاصة سورية
ثَمّةَ أُناسٍ يقولون عنّي أنني مجنون. بعضهم ينظرُ لي بعين السخرية، والآخر بطرفِ الشفقةِ الخجولة. حسناً، أنا لستُ مجنوناً، ولا حتّى مختلفاً، أنا أفكّر وأعمل، بطريقة لا تعجبهم .
فقد كنتُ أقضي مُعظم نهاريَ في المسجد، أتحدّثُ وأخطبُ في الناسِ، عن ضرورةِ الجهادِ في هذا الزمنِ السيّئ. الجهادُ ضِدَّ النفسِ، وضِدَّ اليهودِ وأمريكا الخائنة. وأحثّهم على التفكّرِ في سوادِ أنفاقِ حياتنا التي لا بَصيصَ نورٍ يلوحُ منها. عنِ السوءِ الذي تردّينا فيهِ حتّى أدْرَكَنا العجزُ وأصبحنا بهائمَ اللهِ في برسيمهِ، بعدَ أنْ كُنّا خيرَ أمّةٍ أُخرجت للناسِ. وفي المساءِ أتنقّلُ بينَ محطّاتِ الأخبارِ، لأرى القهرَ بعيني، وأسمعَ الذُلّ بأذنـي؛ أوبينَ الكُتبِ فأنبشُ أكاذيبَ إسرائيل الحاقدةِ على البشريّة، وليسَ فقط على العربِ أوالمُسلمين.
في المسجدِ، تلتفُّ بعضُ الشبيبةِ حولي، أُناقشهم ويناقشوني. يصدّقونَ على كلامي وبعضهم يرفضه. ثُمّ، وغالباً بعدَ يومٍ واحدٍ فقط، يأتي إليّ أبوأحدهم أوأخوه فيشتمني، ويطلبُ منّي الاهتمامَ بأموريَ الخاصّةِ، وعدمِ تعبئةِ أدمغةَِ الصغارِ بالغثِّ من الكلام. أحياناً، يُنهي أحدُهم حَديثَهُ بالبصقِ عليّ، إذ أسأله: هلّا قُلتَ لي ما هوالكلامُ السمين، الذي يُعجبكم فِعلاً؟
جارُنا أبوممدوحٍ، صديقُ والدي منذُ القديمِ، يتلبّسُ أحياناً روحهُ- رحِمَهُ الله- ويخاطبني:أنتَ غريبٌ يا عِمران، لمَ لا تهتمّ بدروسك أوالبحثِ عن عَمل، أليسَ أفضلُ لكَ مِن جعلِ نفسكَ أُضحوكةً للناسِ بكلامكَ الفارغ؟ أخبرْتُهُ بقسوةٍ لا تُشبهني، أنّ كلاميَ ليسَ فارغاً، وأنَّنا نتّجهُ كعربٍ مُسلمين للجحيم، بكاملِ التأهّبِ وأعلى درجاتِ الاستعداد.
أخْبرتُه أنّ أمريكا تَعملُ كمربية أطفال لنا، فتُعطينا المخدّرَ والمُهدّئَ كي تَضمَنَ بكمنا، ثمّ تمتصُّ دماءنا ونحن نيام؛ وترعى ابنتها الشرعيّة بحقوقنا نحن، وتغذّيها بمستقبلِ شبابنا لا شبابها هي. حديثنا يومها كان طويلاً، طويلاً جدّاً لم أعدْ أذكُره كلّه. لكنني قُلت فيهِ أنّ شعوبنا مُستغلّةٌ في سَبيلِ قَوتِها، وأنّ شبابنا يأخذونَ دروساً إعلاميّة مركّزة في الانحِلالِ ليبتعدوا عمّا يجمعهم بحقٍّ ألا وهوَ الدّين ومن ثمّ العروبة. وأنَّ العصبيّةَ بعدَ أن ألغاها نَبيُّ الإسلامِ عادتْ كما كانت بل وأسوأ. وأننا نتبجّحُ ونفتخرُ بمحمّدٍ، ونحنُ أشدّ الناسِ بُعداً عنهُ وعن مِنهاجه. وأنّنا أكثرُ أنانيّة من عَلقةٍ تَمتصُّ دماءَ مُضيفها.
طلبَ يومَها منّي أبوممدوح إتمامَ دِراسَتي إن كنتُ أريد إفادةَ وطني فعلاً، فصرختُ كم منَ العلمِ مهدورٌ في بِلادي، وكم مِن تعيسٍ بشهادةٍ عاليةٍ يتعلّمُ حديثاً صُنعة اِصطيادِ الذُباب. هزَّ رأسَهُ وكأنّهُ يئسَ منّي ورحلَ دونَ أن يَنِبس.
الشيخُ أبوبكري كانَ حالهُ معي أسوأ، إذ كانَ يخطبُ الجُمعة في الناس. كانتِ خِطبتهُ عن المهرِ والزواجِ ومؤخّرِ الصَّداق والنفقة. ضَحكتُ مِنهُ حتّى كِدتُ أقعُ على ظهري. رفعتُ صوتي وسألته: هل تتحدّثُ عن الزواجِ وقد صيّرتهُ عقولكم وأفعالكم شيئاً مقرفاً؟ هلْ تتحدّثُ عن أشياءٍ نحنُ نجهلها، أم نتعمّد الجهلَ بها؟
أرجوكَ تحدّثْ عن شيءٍ لهُ قيمةٌ أكثر. فالشباب، وخلالَ السنواتِ القادمةِ سيتوقّفُ في ظِلِّ هذه الأحوالِ عن طَلبِ الزّواج، سيلجأ للعرفيّ والمِسيار وكلّ ما خفّ حِملهُ ورخُصَ ثمنهُ لأننا تلقّينا الذلّ تلقيناً فاستطعمناه . ما رأيك إذاً يا شيخ، أن تتحدّثَ عن الجُرأةِ في الحقّ؟ عن عدمِ السّكوتِ عن الظُلم؟ عن حاجتنا لخشية الله؟ عن حاجَتنا للكرامةِ فعلاً.
أما كان أجدادُنا أعزّ البشر؟ أليسَ لنا من ميراثهم أيّ نصيب؟؟ صرخَ الشيخ يومها: اخرسْ أيّها المعتوه. ما أنتَ إلّا أحمق جاهل. ثمّ، من قالَ لك أنّك عربيّ؟ أوأجدادك عرب؟ أنت مجرّد تركيّ هجين ودخيل!
ألم تنظر لنفسك أولأبيك؟ لجميع أفراد عائلتك ؟ أنتم لستم عربا ، لذا لا تنتسب لهم غصباً وابتعد عن مسجدي الآن. ضحكتُ ملءَ أشداقي من ثورته، سألتُهُ هل أنتَ شيخٌ حقّاً ؟ ما الذي لا يجعلني عربيّاً ؟ لونُ بَشَرَتي أم لونُ شعري؟ ما الذي يُميّزُ العربَ قُل لي؟ سَمَارَهُم أم شُعورهم السّوداء؟ ما رأيكَ بالأفارقةِ يا شيخي أواللاتينيين؟كلّهم سُمرٌ وعيونهم سوداء، هل هم عربٌ على هذا؟ً قل لي؟ ماتَ جَدّي شهيداً في حربِ العربِ ضدّ المُستعمرِ، وجدُّ جدّي مدفونٌ هُنا. ثُمَّ إنّه لا يعنيكَ أكثرُ من كوني أَشهَدُ أن لا إلهَ إلّا الله وأنَّ مُحمّداً عبدهُ ورسوله، هذا وحده كافٍ ليحْرُم عليك طردي من المسجد.. أدرتُ ظهري وذهبتُ ولم أعُد أذهبُ لذاكَ المسجِدِ أبداً.
اعتكفتُ في البيتِ والهمُّ يأكلُ في طبقي، عليَّ أن أفعلَ شيئاً ما. لذا قررتُ التطوّعَ في الجيش، وممارسةُ ما أعظُ بِهِ دونَ انتظارٍ لأحد. عِندما قدّمتُ أوراقيَ للالتحاقِ بالجيش، رفضوني؛ الحُجّة أنني ولدٌ وحيدٌ لأمّه. أقسمتُ لهم أنّني وحيدٌ ليس فقط لأمّي، بلْ وحيدٌ جِدّا في هذه الحياة. كلّهم ماتوا حتّى جدّتي التي ربّتني، لبّت نداءَ ربّها مُنذُ عامين. سِخروا مِنّي كأنّني مجنونٌ فعلاً، وعِندما ألحَحتُ في الطلب، شدّني أحدُهم مِن كتفي وألقاني خارجـاً. عُدتُ أجرجرُ قدميّ إلى البيت يتآكلني العذاب.
حتّى أنّك ترفضُ من يُريد خدمتكَ أيّها الوطن، فقط قل لي لماذا.؟ أيّامٌ أخرى مرّتْ، وأنا لا أعي ماذا سأفعل، تحوّلتُ إلى كائنٍ يستهجن كلّ ما حوله، ونفسه أيضاً.. إلى أن شاهدتُ ذلك القذر يوماً وهويضربها.
نعم، شاهدتُ بأمّ عيني على شاشة التلفاز أمس، جنديّ يهوديٌّ مُعفّن، يضرِبُ عجوزاً كجدّتي بعقب بندقيّته. طاشَ منّي العقلُ وما عادَ ثاوياً، وألفُ هاجسٍ بدأ يعتمرني.. أخيراً عَرفتُ ماذا سأفعل. لملمتُ أشيائي وأغلقتُ مسكني، وسافرتُ على أوّلِ حافلة. ذاهبٌ أنا لغزّة، حيثُ أعرفُ شخصاً ما كان جارا لنا هنا، ثمّ عاد إلى بلاده. قلتُ لنفسي سأعيشُ كما يعيشون، سأقاتلُ معهم، وسأموتُ إن ماتوا، لا فرق. عِند الحدودِ، صادفتُ الكثيرَ من القذرين، كنت أودّ لوأنّني أحملُ رشّاشاً فأبيدهم، أوأقلّهُ، تمنّيت لوأبْصِق في وجوههم وألعنهم.
الجوّ كانَ شديدُ الحرارةِ، لكنني كنتُ أرتعشُ كمن يهذي من الحمّى. سألني كَبيرُهم الأقذر: لمَ أنتَ ذاهبٌ هناك؟ قلتُ له أنّ خالةَ والدتي مريضةٌ، وأنني في طريقي لعيادتها. -ألم تجد سوى الآن؟ أخبرته أنّها إجازاتي الصيفيّة، وكما هوظاهر على جوازي، فأنا أعشقُ السفر. رانَ لي قليلاً بعد أن قلّب وثائقي في يده، ختمَ الجواز، ثمّ أدار ظهره وبصق هو..غير مهمّ، المهمّ أن أدخل غزّة. في كلّ شبرٍ، وعند كلّ تقاطع هنالك حاجز. وجوهُ الناسِ قد تؤلم ناظريها، لكنّها بالفعل غيرُ حزينة، منقوشٌ عليها التجلّد والصبر الجميل، الأنفة والشموخ، والتسليم المطلق بنذالتنا – نحن إخوانهم.
استبدّ بي الحرّ أكثر وأضناني العطش، وأنا أتنقّلُ مِن مكانٍ لآخر، اسْتدلُّ على عُنوانِ مُنذر، ولمّا أجده. وعندما عثرتُ فجأة، عمّن يقودني إليه، وقبلَ حاجزٍ ما بخطواتٍ قليلة..تمثّلَ لي ذاتُ المشهدِ وذاتُ المشاعِرِ المنكوبة.. جُنديّ قَذرٌ أحمق، ينكأُ فتاة في ميعة الصبا، بعقب بندقيّته طالباً منها نَزعَ عباءتِها، مُتذرّعاً بإخفائها شيء ما. لا أدري أهوالحرّ أم العطش، أوحتّى القهر ما أفقدني وعيي..
إلّا أنّ ما أذكره تماما هوالآتي : أذكرُ أنني توحّشت فجأة ،تركتُ أغراضي كالملسوعِ على الإسفلتِ وانقضضتُ على ذلك المتوحّش، أعملتُ فيه ركلاً وسبّاً لتخليصها، وطبعاً، ما كان لوحده. شيءٌ ما من خلفي هبطَ على رأسي، آلةٌ حادّة. فارَ الدمُ حارّاً مِن رأسي على إثرها.وكأنّ الدم كان وقوداً فأشعلني. تابعتُ الصُّراخَ والركلَ بقوّةٍ أكبرْ، وكيفما طالت يدايَ وحيثما وصلت.
يا وحوش يا سفلة ، يا قتلة يا مخادعين..أنتم سببُ انهيارنا، أنتم كفّار خرّبتم بلادنـا،لوّثتم عِرضنا يا أقذار البشر، يا شرذمة الخلق.. تحوّلت نافورةُ الدمِ في رأسي لشلّالٍ أغرقني..أيادٍ كثيرة تتنازعني وبعضها يدفعني. كنتُ متألّماً جدّا، ولا زلت أتخبّطُ في الصياح، وأتلقّى الضرب، ورأسي يؤلمني بشدّة.. من وسط الألم والدم، شاهدتُ فجأةً وجهَ جدّتي.. فنسيت الألم أو،غادرني هو. أردتُ أن أقوم فأركض وأحضنها، فقد اشتقتها كثيراً..
لكنّ وجهها ما كان باسماً كعادته، بل متألّماًً. كنتُ سعيداً جدّا برؤيتها، فما عُدت أشعرُ بِشيء،لا أسمع شيء، ولا أرى إلّاها وسطَ مرجٍ أخضرَ واسعٌ جميل.. أخذت أجري بسرعة لألحقها، خِفتُ أن تختفي. سمعتُ صوتَ بُكائِها ..سألتها أتبكين عليّ، هزّت رأسها بأن نعم..
ابتسمتُ وقلتُ لها: لا تحزني أبداً عليّ فأنا بخير، أنا لم أعُدْ متألّماً. رجوتُها أن لا تبكي، حتّى وإن كُنتُ سأموت. سألتُها ما هوَ الموت؟ ما هي الحياة؟
أنا أحيا يا جدّتي ولكنّ في أعماقيَ يقبعُ إنسانٌ ميْت، إنسانٌ حياتُه تُشبه اللاشيء، فارغةٌ حتّى من أيّ شيء، كلّنا هكذا يا جدّتي، كُلّنا..
لذا، لا تبتئسي بموتي أبداً يا جدّتي، فالموتُ في بلادي، يُشبه الحياة كثيراً.