السياسيون أيضا لهم إسهامهم فى مسلسلات اللهو والعبث التى يحفل بها شهر رمضان. الدليل على ذلك أننا مقبلون على جولة جديدة من المفاوضات المباشرة بين الفلسطينيين والإسرائيليين.
(١)
مسلسل المفاوضات أسوأ، إذ إنه عابر للأشهر ومفتوح بغير نهاية، والأحداث فيه مكررة ومملة. ناهيك عن أن الفكرة الأساسية فيها معروفة سلفا وشاهدناها عدة مرات. محورها هو التفنن فى تخدير الفلسطينيين لمواصلة سرقة فلسطين، بحيث يأكل الفلسطينيون الهواء ويأكل الإسرائيليون الأرض.
منذ عام 1978، الذى طرح فيه الرئيس السادات فكرة الحكم الذاتى للفلسطينيين فى اتفاقية كامب ديفيد الأولى «وجزرة» التسوية النهائية تلوح فى الأفق، دون أن تطولها يد الفلسطينيين إذ بمقتضى تلك الاتفاقية كان يفترض أن تتم التسوية بعد خمس سنوات، أى فى عام 1983.
وهو ما تكرر فى اتفاقية أوسلو عام 1993 التى علقت بمقتضاها جزرة التسوية على جدران عام 1999. لكن الأعوام الستة مرت دون أن يحصل الفلسطينيون على الجزرة الموعودة. ولم يتوقف «الحاوى» عن ألاعيبه، فاستخرج من كيسه خارطة الطريق فى عام 2003 التى لوحت بفكرة إقامة الدولة الفلسطينية فى عام 2005. وحين لم يتحقق الوعد، وجد العرب أنفسهم مدعوين إلى مائدة «أنابوليس» فى خريف عام 2007، وقيل لهم إن موعدهم المرتقب مع «الجزرة» سيكون فى آخر عام 2008، مع نهاية ولاية الرئيس بوش.
وانتهت الولاية وتبدد الوعد، إلى أن جاء الرئيس أوباما حاملا معه الجزرة، ومبشرا العرب بكلام دغدغ مشاعرهم عن وقف الاستيطان وحل الدولتين. لكنه لم يلبث أن نكث بعهده، وغطى موقفه بلعبة المفاوضات، التى أرادها غير مباشرة لأربعة أشهر، ثم قرر أن يقطعها ويحولها إلى مباشرة قبل الموعد الذى حدد لها، وفى هذه المرة الأخيرة فإنه أظهر العصا ولم يلوح بالجزرة، حيث وجه 12 تهديدا إلى الرئيس الفلسطينى فى رسالته الشهيرة التى بعث بها فى 17 يوليو الماضى، وتسرب مضمونها مؤخرا.
وقد أنذره فيها بالعزلة وقطع الموارد المالية إذا لم يذهب صاغرا إلى المفاوضات المباشرة. صحيح أن الجزرة لم تظهر فى هذه الدعوة الأخيرة، لكنه طمأن الفلسطينيين والعرب إلى أنها موجودة، وأن الجلوس حول مائدة المفاوضات هو خطوة على طريق الفوز بها يوما ما.
لم يكف الفلسطينيون والعرب معهم عن الركض وراء جزرة الدولة الموعودة طيلة الثلاثين عاما الماضية. لم يملوا خلالها من الدخول إلى قاعات المؤتمرات والجلوس حول موائد المفاوضات ثم الخروج بوعود إسرائيلية لا تنفذ، ولم يترددوا فى تكرار التجربة ذاتها عدة مرات بعد عدة سنوات، والخلوص إلى النتيجة ذاتها لم يقنعوا طوال تلك المدة بأن الطريق الذى يسلكونه لا يوصلهم إلى مرادهم.
ولم ينتبهوا إلى أنهم رغم الركض الذى لم يتوقفوا عنه طيلة تلك السنوات، لم يتقدموا خطوة واحدة إلى الأمام. من ثم لم يكتشفوا أنهم فى حقيقة الأمر لم يكونوا يدعون إلى مفاوضات أو مباحثات، ولكنهم كانوا يستدرجون إلى جلسات للثرثرة لابتزازهم وإلهائهم عما يجرى على الأرض، ولإيهام العالم بأنهم يسعون إلى الحل.
(2)
طوال الثلاثين عاما التى مضت ظلت الدول العربية والقيادات الفلسطينية قابعة فى مستنقع الانتظار. حتى حينما صدرت مبادرة القمة العربية فى عام 2002، فإنها أطلقت فى الفضاء. وبقيت الحكومات العربية مستسلمة لحالة الانتظار، رغم أن إسرائيل تجاهلتها وتعاملت معها بازدراء حتى هذه اللحظة.
المدهش فى الأمر أن الدنيا تغيرت خلال تلك العقود الثلاثة. وجاءت بعض المتغيرات لصالح الطرف العربى والقضية الفلسطينية، ولكن الانتظار تحول فيما بعد إلى قعود وعجز عن الحركة. فرغم انهيار الاتحاد السوفييتى وتفرد الولايات المتحدة بصدارة النظام الدولى الجديد، إلا أن الولايات المتحدة لم تعد كما كانت. إذ أصبحت أسيرة مشكلاتها سواء تمثلت أزمتها الاقتصادية فى الداخل أو ورطتها العسكرية فى الخارج (فى أفغانستان والعراق).
أما إسرائيل فقد فقدت هيبتها بعد هزيمتها أمام حزب الله فى عام 2006، وبعد فشلها فى العدوان على غزة عام 2008، واهتزت صورتها أمام العالم الخارجى بسبب جرائمها فى غزة التى فضحها تقرير القاضى الدولى جولدستون. وهى تواجه الآن عزلة دولية بسبب استمرار حصارها للقطاع وجريمتها التى ارتكبتها فى المياه الدولية بحق أسطول الحرية. ومن ثم أصبحت فى موقف الدفاع وليس الهجوم.
وفى حين ازدادت الثقة فى قدرة وثبات المقاومة العربية والإسلامية، واتسع نطاق التضامن الشعبى العالمى مع الشعب الفلسطينى بفضل ثورة الاتصال التى فتحت أعين الجميع على الوجه الحقيقى لإسرائيل، فإن ضعف الأنظمة العربية فوت فرصة استثمار تلك الأجواء للوصول إلى حل عادل للقضية الفلسطينية.
وفى ظل ذلك الضعف فإن مسار القضية ومصيرها أصبحت تتحكم فيه السياسة الأمريكية، التى يديرها «كونجرس» شديد الانحياز والتطرف لصالح إسرائيل، وقد أثار ذلك الانصياع دهشة أحد الكتاب الإسرائيليين (تسفى برئيل) فكتب ذات مرة قائلا: إنه لشدة حرص الدول العربية على استرضاء الولايات المتحدة، فإن كثرة استخدامها لكلمة نعم أسقطت من قاموس العرب كلمة «لا» (هاآرتس 30/7/2010).
(3)
سواء نسينا تجارب المفاوضات السابقة ونتائجها المحبطة أو تناسيناها، فالثابت أننا لم نتعلم منها شيئا. أو تعلمنا ولكننا لم نملك شجاعة الإعلان والجهر بالدرس الذى تعلمناه. الدليل على ذلك أننا بصدد الدخول فى حلقة جديدة من المسلسل العبثى. ذلك أنه منذ قرر الرئيس أوباما بالاتفاق مع السيد نتنياهو أن الانتقال إلى المفاوضات المباشرة قد وجب، وكتب الرئيس الأمريكى بذلك إلى السيد محمود عباس، فإن عجلة التحضير للمفاوضات دارت بسرعة، وتولت مصر بالاتفاق مع السعودية والأردن ترتيب أمر الغطاء العربى للجولة الجديدة. وبدا بعض الكتاب يتحدثون عن المستقبل، وكأنه ليس هناك ماض، وكأننا نبدأ من نقطة الصفر.
فى هذه الأجواء تحدثت الأنباء عن معالم الفخ الجديد الذى أعده نتنياهو للمفاوض الفلسطينى، وهو يتمثل فى عرض يستهدف التوصل إلى إعلان مبادئ وليس اتفاق سلام نهائى. شبيه باتفاق أوسلو عام 1993، بمقتضاه تنسحب إسرائيل من مساحة 90٪ من الضفة لا تدخل فيها القدس الشرقية، كما يتم إخلاء 50 ألف مستوطن من قلب الضفة إلى الكتل الاستيطانية، ونقلت الصحف عن مصادر نتنياهو قوله إن العرض «واسع ومغر» للفلسطينيين، لأنه يمنحهم مساحة واسعة من الضفة مع إخلاء عدد كبير من المستوطنات، دون أن يلزمهم بالتوقيع على إنهاء الصراع، أو بوقف مطالبتهم بالجزء المتبقى من الضفة الغربية والقدس. وفى حالة القبول بذلك العرض فإن إسرائيل سوف تقدم بعض التسهيلات المتعلقة بالإعمار والنهوض الاقتصادى للسلطة الفلسطينية فى الضفة.
الفكرة الأساسية لمشروع نتنياهو تنطلق من ارتهان الضفة والمساومة عليها، بعد اقتطاع أجزاء منها بحجة الحفاظ على أمن إسرائيل. وفى وقت سابق فعلها نتنياهو حين عرض إقامة دولة فلسطينية مؤقتة على مساحة 60٪ من الضفة. وكان أرييل شارون قد عرض على الفلسطينيين إقامة دولتهم على 42٪ من الضفة، وفعلها باراك حين كان رئيسا للوزراء ومن بعده إيهود أولمرت.
لا يشك أحد فى أن عرض نتنياهو خالٍ من البراءة، وأنه لجأ إلى الخداع والاحتيال فى المشروع الذى قدمه. ذلك أنه يتلاعب فيه بالأرقام بحيث يضلل قارئها دون أن يكون محيطا بدلالاتها. فهو حين يتحدث عن 90٪ من الضفة فإنه يحذف منها القدس الكبرى ومنطقة اللطرون الواقعة بين خطى الهدنة والبحر الميت وغور الأردن. وهذه المساحات المحذوفة تشكل 40٪ من مساحة الضفة التى تبلغ 5800 كيلو متر مربع. وحين يتحدث عن إخلاء 50 ألف مستوطن، فإنه يتحدث عن 13٪ فقط من المستوطنين، بما يعنى أن 87٪ من أولئك المستوطنين سيبقون فى أماكنهم، 40٪ منهم فى القدس و47٪ فى قلب الضفة.
وحين رجعت إلى الدكتور سلمان أبوستة، رئيس هيئة أرض فلسطين، والدكتور خليل تفكجى، مسئول الإحصاء فى الأرض المحتلة، فإنهما قالا لى إن المساحة الحقيقية التى يعرضها نتنياهو على الفلسطينيين لإقامة دولتهم الممزقة والمجردة من السلاح لا تتجاوز فى حقيقة الأمر 12٪ من مساحة الضفة الغربية.
أخطر ما فى هذا العرض أنه يعرض حلا للاتفاق على مبادئ جديدة فى علاقة الطرفين، فى حين يرحل إلى المستقبل ملف القدس وبقية القضايا المختلف عليها، وهذا الحل يخفى فى طياته سعيا لجعل الحل الانتقالى المقترح بمثابة حل طويل الأجل ونهائى. يقام بقوة الأمر الواقع فى نهاية المطاف. وثمة تقارير صحفية تعتبر أن سعى نتنياهو إلى فكرة الحل الانتقالى يخفى شعورا بالقلق فى أوساط اليمين الإسرائيلى من عودة فكرة الدولة الواحدة على جدول الأعمال، بعد فشل الجهود الرامية للتوصل إلى حل الدولتين.
(4)
ثمة ثلاث مشكلات أساسية تواجه المفاوض الفلسطينى والأطراف العربية التى تسانده فى تكرار تجربة المفاوضات المباشرة، هى:
ــ أن الطرف الفلسطينى وقع فى فخ تفكيك القضية، وتحويلها إلى مجموعة ملفات تتعلق بالحدود والمياه والمستوطنات وغير ذلك. وهى ورطة تتعامل مع الضفة الغربية باعتبارها أرضا متنازعا عليها فيما وصف بأنه صراع بين حقين، أحدهما للفلسطينيين والآخر للإسرائيليين.
وذلك وضع مخالف تماما للحقيقة ولقرارات الأمم المتحدة ومجلس الأمن. ذلك أن القضية فى جوهرها لها ملف واحد وتختزلها كلمة واحدة هى «الاحتلال»، أما الدخول فى متاهة التفاصيل والاستدراج إلى مناقشتها، فإنه يعد استسلاما للفخ ووقوعا فى براثنه.
ــ المشكلة الثانية أن الطرف الفلسطينى يخوض المفاوضات دون أن تكون لديه خيارات أخرى. بمعنى أنه مضطر للاستمرار فى المفاوضات حتى وإن لاحقها الفشل فى كل مرة. ذلك أن من أهم مصادر قوة أى طرف مفاوض أن تتوافر له خيارات أخرى غير التفاوض مثل حل السلطة أو إعلان الدولة الفلسطينية من طرف واحد. أو قطع المفاوضات والانضمام إلى معسكر المقاومة، وأن يعى الطرف المقابل ذلك.
لأن معادلة ميزان القوى بين الأطراف المتقابلة فى عملية التفاوض تتأثر إيجابا وسلبا بمدى توافر هذه الخيارات من عدمها.. وإذا انحصرت الخيارات بمسار التفاوض فقط، وأصبح ذلك هو المسار الوحيد المتاح، فإن الطرف المفاوض يخسر جل وضعيته التفاوضية أمام الطرف المقابل، الذى سيوظف انعدام الخيارات هذا كأداة ضغط فعالة.
للحصول على تنازلات قيمة. وهذا الكلام ليس من عندى، لكننى اقتبسته من ورقة حول المأزق الفلسطينى العربى فى المفاوضات، قدمها قبل ثلاث سنوات إلى ندوة مركز الخليج للدراسات بالشارقة الدكتور على الجرباوى، حين كان أستاذا للعلوم السياسية بجامعة بيرزيت، وقبل أن يصبح وزيرا فى حكومة رام الله.
ــ المشكلة الثالثة أن الطرف الفلسطينى يخوض المفاوضات بلا ظهير عربى يؤمنه ويشد من أزره. أعنى بذلك حالة الوهن المخيمة على الأنظمة العربية، التى أفقدتها القدرة على تبنى موقف مستقل يرعى المصالح العليا للأمة. وهى التى حولت العواصم العربية الكبرى (نسبيا) إلى وسيط يضع استرضاء الولايات المتحدة ضمن أولوياته. ومن ثم فإنها تحولت إلى عبء على القضية بدلا من أن تكون داعمة ورافعة لها، وبالتالى أصبحت الحالة العربية الرسمية نقطة الضعف الأساسية التى تحسب على القضية وليس مصالحها.