كعادته كل صباح فتح "اللاب توب" ليتصفح الجديد في الصحف الالكترونية، خبر هنا وتصريح هناك، مقالات متنوعة وأعمال أدبية فيها ليكتشف ما هو مبدع يستحق القراءة وآخر ينحصر بقدرات الهواة المبتدئين، يومها لفت ناظره شيء جديد لم يألفه من قبل، كاتبة يشرق رسمها في زاوية إحدى الصحف الإلكترونية، عيناها تستدعي القراء لقراءة ما رشح عن أحاسيسها، ربما جمالها العذري اللافت للانتباه، أو نظراتها الثاقبة الممزوجة بحلم طفولي يؤنس الناظر إليها .
كانت بداية تعارفه بها، كاتبة تمتشق القلم تكتب بحسها الصادق ما يختلج به قلبها ويداعب أحاسيسها، تكتب عن متناقضات الشارع المصري البسيط، بحس البسطاء الباحثين عن أمل وسط زحام الحياة، مع كل قصة أو قصيدة شعرية لها كان يتعمق إحساسه بها، كان ينتظر بشغف نشرها، مسارعًا التعليق على ما تكتبه، شيء ما تراكم في داخله، ربما الإعجاب، أو الانجذاب إلى طيفها العذب، ربما وربما .. أشياء عديدة راودته، تساؤلات تزاحم أخرى لم يجد إجابة شافية لها، قرر في نفسه أن يراسلها للتعبير عن إعجابه بما تكتب.
عزيزتي يسعدني التعرف بك، واقبلي تقديري واحترامي لكتاباتك الرائعة، وأتمنى أن نكون أصدقاء كعادتها المتواضعة لم تتجاهل رسالته فكتبت له، يسعدني التعرف بك وأشكرك على تقديرك لكتاباتي. شعر للوهلة الأولى بأن شيء جديد قد فتح في مسرح حياته، شجعه ذلك لأن يطلب هاتفها ليتحدث إليها، كان دافعه أن يسمع صوتها، ليكتمل الصوت مع الصورة وما تحتويه القصص التي تكتبها من مشاعر وأحاسيس، استجابت لذلك ليغمره الفرح والأمل، تناول هاتفه المحمول:آلو: إزيك..أنا صاحب الرسالة الإلكترونية لطلب التعارف.
ردت قائلة: تشرفنا بمعرفتك
أجاب بصوت مرتجف: أنا سعيد بالتعرف على شخصك، ومعجب بكتاباتك، وأتمنى أن نكون أصدقاء.
قالت وقد وجدت في ذلك إطراء يُرضي ذاتها: شكرًا يافندم، يشرفني ذلك، كما أتمنى الاستماع لملاحظاتك على كتاباتي.
وعدها بذلك مستأذنا إنهاء المكالمة .
توالت الأيام ومعها تعززت العلاقة لتتواصل الاتصالات المتبادلة، شيء ما بدأ يتحرك بداخله تجاهها، كان لا يدرى أهو الإعجاب أم الحماس المندفع للعلاقة، أو هو شيء آخر، كان يغمض عينيه عندما يستشعر بأنها ومضات الحب ..وماذا يفيد الحب من طرف واحد, كان يقول في قرارة نفسه؟
كانت تتجاهل إيماءاته العاطفية، عندما كان يراسلها عبر الإنترنت أو يرسل لها رسالة عبر الهاتف المحمول، لكنها لم تخفِ إعجابها واحترامها له، ربما كان ذلك لاهتمامه بها أو لثقافته الواسعة، وربما لشيء آخر لم تقوى على مصارحة نفسها به، هو كان يرضيه ذلك، فعندما يرتبط المرء بمشاعر دافئة تجاه آخر، فإن القليل مما يُغذي ذلك يبعث الفرح في النفس، ويبقي باب الأمل مفتوحا أمام تطور العلاقة نحو حب حقيقي يجتاح مشاعر الطرفين ليُعبر عن ذاته في أدق التفاصيل، مشاعر تحلق في سماء الوجدان حب وعشق يعتمر به قلبهما، ليتدفق عطاؤهما إبداعاً لا يعرف حدود .
كان ينتظر يومًا بيوم، وساعة بساعة السفر إلى مصر ليلتقي بها، فقد كان بينهما موعدًا انتظر أن يفتح المعبر المصري الفلسطيني المغلق بسبب الحصار على غزة، وأخيرًا كان موعد السفر كانت اللهفة تشق طريقها إلى نفسه كلما اقترب موعد اللقاء. فبعد وصوله إلى القاهرة بيومين استقل الطائرة متجها إلى شرم الشيخ، حيث كانت تقيم لمدة عشرة أيام للاستجمام ، كان يود لقائها منذ الدقائق الأولى التي وطأت قدماه مصر، اتصل بها هاتفيًا مخبرًا إياها بوصوله، ومستفسرًا عن موعد ومكان اللقاء، اتفقا على ذلك ليبدأ مشوار قدر بأن يكون جديد في حياته .
الساعة الثالثة بعد الظهر في إحدى " مقاهي " شرم الشيخ، جمعتهما طاولة واحدة ونظرات متشابكة، وعبارات تزاحم بعضها البعض عن ما كتبت وما قيل وعن إحدى الموضوعات الجديدة التي تعد لنشرها، تبادلا الآراء حول ذلك، كان ينظر إليها وهي تتكلم وتبتسم، يتأمل كل شيء فيها، وجدها أجمل مما شاهدها وتخيلها عبر الصفحات الالكترونية .. ممشوقة القوام، يميزها جمال هادئ بهدوء وصفاء صفحات البحر ساعات الصباح، وفي عينيها براءة طفولية غير عادية، عذبة كنبع في واحة خضراء، قسمات وجهها تعبر عن مكنونها الإنساني الصادق، وعندما تتحرك يمنه ويسر، تتهادى كفراشة متنقلة بين زهرات في بستان، صوتها ناعم رقيق يتناغم ورقة تفاصيلها بين الفينة والأخرى كان يسترق النظرات إليها وهي تطالع صفحات "الانترنت"، يمازحها أحيانًا ليسمع ضحكتها الجذابة التي كانت ترسم ثغرها صفًا من اللؤلؤ يزيده جمالاً ورونقًا .
مرت الثلاثة ساعات وكأنها دقيقة، كان يرغب بأن لا تتركه أبدًا، فهو القادم من أقصي البلاد ليلتقي بها، ربما لأنه يفتش عن إجابات يحتاجها، أو عن مشاعر يترصدها تحمله إلى قلبها ووجدانها، افتراقا مودعين بعضهما البعض على أمل اللقاء .
استقل الطائرة عائدًا للقاهرة، لكن هذه المرة كان الأمر مختلفًا، فقد تركه اللقاء أسيرًا لتفاصيله، شريط الذكريات يفرض نفسه على تفكيره، يتخيلها، يحاول أن لا يخبو رنين صوتها في أذنيه، شعر بارتباك داخلي، لم يجد إجابة على سؤاله، إذا ما تحرك شيء بداخلها كما أحس به مع نفسه، أم أن ما جرى لم يتعدي كونه لقاء عادي بالنسبة لها؟
أما هي فرأته بعين مختلفة عين النقاء والبحث في جوهر البشر ودرجة انسانيتهم، فوجدت فيه الروعة في العطاء، سمو الروح، العلم الغزير والثقافة الواسعة التي جعلت روحهما تتلاقى في أمور أعلى بمراحل من الارتباط العاطفي الذي ربما ينقلب إلى النقيض إذا اقتربا أكثر وانغرسا في تفاصيل وتبعات الحياة.
برغم ما أحسته من مشاعر صادقة من قبله تجاهها، إلا أنها فضلت السمو بهذه العلاقة لدرجة التطهر من أي رغبات، معتبرة ذلك الأنسب والأبقى لهما...ربما لأنها محاطة بالكثير من المعجبين فلا تتأثر بسهولة، ربما لأن قلبها يأخذ إشارة من عقلها، وتريد أن تحب من سيصلح لها كزوج في المستقبل القريب، أو ربما تنتظر شخص يسلبها اختيارها وتجد نفسها منقادة إلى حبه وليس لها قرار، ما خالج نفسها أن تحافظ على هذه الصداقة النادرة الحدوث المنزهة عن أي أغراض خاصة مع الأشخاص الذين يشبهون اللآلئ والجواهر في معدنهم.
يسرية سلامة