رسالة صلاح الدين الأيوبي إلى أخيه الملك العادل
رسالة صلاح الدين بن أيوب إلى أخيه الملك العادل يُقطعه مُلْكَ الديار المصريَّة والشام والجزيرة عام 580هـ:
"الحمد لله الذي جعل أيامنا حسانًا، وأعلى لنا يدًا ولسانًا، وأطاب مَحْتِدَنَا[1] أوراقًا وأغصانًا، ورفع لمجدنا لواءً ولجدِّنا برهانًا، وحقَّق فينا قوله: {سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا} [القصص: 35]. نحمده على سبوغ نعمته، ونسأله أن يجعلنا من الداخلين في رحمته، ثم نُصَلِّي على رسوله محمد، الذي أيده بحكمته، وعصمه من الناس بعصمته، وأخرج به كلَّ قلب من ظلمته، وعلى آله وأصحابه الذين خلفوه فأحسنوا الخلافة في أُمَّتِه.
أَمَّا بَعْدُ؛ فإن فروع الشجرة يأوي بعضها إلى بعض لمكان قُرْبِهِ، ويُؤْثِرُ بعضها بعضًا من فضل شِرْبه، ونحن أهلُ بيتٍ عُرِفَ مِنَّا وفاق القلوب ودًّا، وإيثار الأيدي رِفْدًا، وذلك وإن كان من الحسنات التي يَكْثُر فيها إثباتُ الأقلام فإنَّه من مصالح المُلْكِ التي دلَّت عليها تجارِبُ الأيَّام، وكلا هذين الأَمْرَيْنِ مشكورةٌ مذاهبُه، محمودة عواقبه، مرفوعة على رءوس الأشهاد مناقبه، وما من أحدٍ من أَدَانِينَا إلاَّ وقد وسمناه بعوارفَ يختال في ملابسها، ويُسَرُّ في كلِّ حينٍ بزفاف عرائسها، ولم نَرْضَ في بَلِّ أرحامهم بمواصلة سلامها دون مواصلة بِرِّهَا وإدناء مجالسها، ولإخوتنا من ذلك أوفر الأقسام، كما أن لهم مِنَّا رحمًا هو أقرب الأرحام، وقد أمرنا بتجديد العارفة لأخينا الملك العادل، الأجلِّ، السيِّد، الكبير، سيف الدين، ناصر الإسلام، أبي بكر، أبقاه الله، ولو لم نفعل ذلك قضاءً لحقِّ إخائه الذي تَرِفُّ عليه حَوَانِي[2] الأضالع، لفعلناه جزاء لذائع[3] خِدَمِه التي هي نِعْم الذرائع، فهو في لزوم آداب الخدمة بعيدٌ وَقَفَ منها على قدم الاجتهاد، وفي لُحْمَةِ شوابك النسب قريب وَصَلَ حُرْمَةَ نسبه بحرمة الوِدَادِ، وعنده من الغناء ما يحُكم لآماله ببَسْطَةِ الخيار، ويرفع مكانته عن مكانة الأشباه والأنظار، ويجعله شريكًا في المُلْكِ والشريكُ مساوٍ في النقض والإمرار.
فكم من موقف وَقَفَه في خدمتنا فجعل وَعْرَهُ سَهْلاً، وفاز فيه بإرضائنا وبفضيلة التقدُّم فانقلب بالمحبَّذِينَ إرضاء وفضلاً، ويكفي من ذلك ما أبلاه في لقاء العدوِّ الكافر الذي استشرى في هِيَاجِهِ، وتمادى في لجاجه، ونزل على ساحل البحر فأطلَّ عليه بمثل أمواجه، وقال: لا براح دون استفتاحٍ. الأمرُ الذي عَسُرت معالجة رِتَاجِهِ، وتلك وقائع استضأنا فيها برأيه الذي ينوب مناب الكمين[4] في مضمره، وسيفِهِ الذي يُنْسَبُ من الاسم إلى أبيضه ومن اللون إلى أخضره، ولقد استغنينا عنهما بنضرة لقبه، الذي تولَّت يَدُ الله طَبْعَ فضله، وعُنِيَتْ يَدُ السيادة برونق صقله، فهو يفري[5] قلوب الأعداء قبل الأجساد، ويسري إليهم من غير حامِل لمَنَاط النِّجَاد، ويستقصي في استلابهم حتى يَنْتَزِعَ من عيونهم لذَّة الرُّقَاد، وليس للحديد جَوْهَر مَعْدِنِه المستخرج من زَكَاء الحسب، وإذا استُنْجِدَ قيل له: يا ذا المعالي. كما يقال لسميِّه: يا ذا الشُّطَبِ[6]. ولو أخذنا في شرح مناقبه لظلَّ القلم واقفًا على أعواد منبره، وامتدَّ شَأْوُ[7] القول فيه، فلم يَنْتَهِ مَوْرِدُه إلى مصدره، فمهما خوَّلْناه من العطايا فإنه يسير في جَنْب غَنَائِه، ومهما أثنينا عليه فإنه سطر في كتاب ثنائه.
وقد جعلنا له من البلاد ما هو مُقْتَسم من الديار المصريَّة، والشاميَّة، وبلاد الجزيرة، وديار بكر؛ ليكون له من كلٍّ منها حظٌّ تُفِيضُ يَدُه في أمواله، ويَرْكَبُ في حشد من رجاله، ويُصْبِحُ وهو في كل جانب من جوانب مُلْكِنَا كالطليعة في تَقَدُّمِ مكانها، وكالربيئة[8] في إسهارِ أجفانها.
فليتسَلَّمْ ذلك بيد مُعَظّم قَدْرًا، ولا يستكثر كُثْرًا، ويحمل منها رفدها[9] غيثًا أو بحرًا، وكذلك فليَعْدِلْ في الرعيَّة الذين هم عنده وَدَائِع، ولْيُجَاوِزْ بهم درجة العدل إلى إحسانِ الصنائع، فإذا أَسْنَد هذا الأمر إلى وُلاتِهِ فليكونوا تُقَاة لا يَجِدُ الهوى عليهم سبيلاً، ولا يَحْمَدُ الشيطانُ عندهم مقيلاً، وإذا حُمِّلُوا ثِقْلاً لا يجدون حمله ثقيلاً.
وقد فشا في هذا الزمن أخْذُ الرّشْوَة، وهي سُحْتٌ، أمَرَ رسول، اللهبنَبْذِهِ، ونَهي عن أخذه وعن الرغبة في تَدَاوُلِهِ، وهو كأخذ الرِّبَا الذي قُرِنَت اللعنةُ بمؤكِله وآكِلِهِ.
وأَمَّا القضاة الذين هم للشريعة أوتاد، ولإمضاء أحكامها أجناد، ولحفظ علومها كنوزٌ لا يتطرَّق إليها النَّفاذ، فينبغي أن يُعَوَّل فيهم على الواحد دون الاثنين، وأن يُسْتَعَانَ منهم في الفصل بذي الأيدي، وفي اليقظة بذي الْيَدَيْنِ، ومَن رام هذا المَنْصِبِ سائلاً فَلْيَلُمْهُ ولْيَغْلِظ القول في تجريع ملامه، ولْيَعْرِف أنَّه ممن رام[10] أمرًا فأخطأ الطريق في استجلاب مَرَامِه، وأمرُ الحُكَّام لا يَتَوَلاَّه من سأله، وإنما يتَوَلاَّه مَن غَفَل عنه وأَغْفَلَه.
وإذا قضينا حقَّ الله في هذه الوصايا فلْنَعْطِفْهَا على ما يكون لها تابعًا، ولقواعد المُلْكِ رافعًا، وذاك أنَّ البلاد التي أضفناها إليك فيها مدن ذات أعمال واسعة، ومعاقل ذات حصانة مانعة، وكلها يفتقر إلى استخدام الفِكْرِ في تدبيره، وتصريف الزمان في تعميره، فَوَلِّ وجهك إليها غَيْرَ وَانٍ في تكثير قليلها، وترويض مُخِيلها[11]، وبثِّ الأَمَنَةِ على أوساطها، وإهداء الغِبْطَة إلى أفئدة أهلها، حتى تسمع باغتباطها، وعند ذلك يتحدث كل منهم بلسان الشكور، ويتمثل بقوله تعالى: {بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ} [سبأ: 15]".
واعلمْ أنَّه قد يجاورك في بعضها جيرانٌ ذُو بلاد وعساكر، وأَسِرَّة ومنابر، وأوائلَ للمجد وأَوَاخِرَ، وما منهم إلاَّ مَن يتمسَّك مَنَّا بوُدٍّ سليم، وعهد قديم، وله مساعدة نَعْرِفُ له حقَّها، والحقُّ يعرفه الكريم.
فكن لهؤلاء جارًا يَوَدُّون جِوَارَه، ويحمدون آثارَه، وإن سألوك عهدًا فابذله لهم بَذْلَ وَفِيٍّ واقفٍ على السُّنَنِ، مساوٍ بين السرِّ والعلن، ولا يكن وفاؤك لخوف تتَّقي مراصده، ولا لرجاء تَرْقُبُ فوائِدَه، فالله قد أغناك أن تكون إلى المعاهدة لاجيا[12]، وجعلك بنا مَخُوفًا ومرجوًّا لا خائفًا ولا راجيا، وقد زدناك فَضْلَة في محلِّك تكون بها على غيرك مُفَضَّلا، وقد كنتَ من قبلها أغرَّ فَأَوْفَتْ بك أَغَرَّ مُحَجَّلاً[13]، وذاك أنَّا جعلناك على آية الخيل تَقُودها إلى خَوْضِ الغِمار، وتُصَرِّفها في منازل الأسفار، وتُرَتِّب قلوبها وأجنحتها على اختلاف مراتب الأطوار، فنحن لا نلقى عدوًّا ولا نَنْهَدُ[14] إلى بلد إلاَّ وأنت كوكبنا الذي نهتدي بمَطْلَعِهِ، ومِفْتَاحُنا الذي نستفتح المُغْلَقَ بيُمْنِ مَوْقِعِهِ، ونُوقِنُ بالنصر في ذهابه، وبالغنيمة في مَرْجِعه، والله يشرحُ لك صدرًا، ويُيَسِّر لك مِنَّا أمرًا، ويشدُّ أَزْرَنَا بك كما شدَّ لموسى بأخيه أَزْرا، والسلام"[15].
رسالة القاضي الفاضل إلى بردويل
رسالة القاضي الفاضل كتبها عن السلطان "صلاح الدين يوسف بن أيوب" إلى بردويل أحدِ ملوك الفرنج، وهو يومئذ مستولٍ على بيت المقدس وما معه، معزيًّا له في أبيه، ومهنِّئًا له بجلوسه في المُلْكِ بعده، ما صورته:
"أَمَّا بَعْدُ؛ خصَّ الله الملك المعظَّم حافظَ بيت المقدس بالجَدِّ الصاعد، والسَّعْد الساعد؛ والحظِّ الزائد، والتوفيق الوارد؛ وهنأه من مُلك قومه ما ورثه، وأَحْسَنَ مِن هُدَاه فيما أتى به الدهرُ وأحدثه؛ فإنَّ كتابنا صادر إليه عند ورود الخبر بما ساء قلوب الأصادق[16]، والنعي الذي وَدِدْنَا أنَّ قائله غير صادق، بالملك العادل الأعزِّ الذي لقَّاه الله خير ما لقَّي مثله، وبلَّغ الأرض سعادته كما بلَّغه محلَّه - مُعَزٍّ بما يجب فيه العزاء، ومتأسِّفٌ لِفَقْدِهِ الذي عظُمت به الأَرْزَاء[17]؛ إلاَّ أنَّ الله سبحانه قد هوَّن الحادث، بأن جعل وَلَدَهُ الوارث؛ وأنسى المُصَاب، بأن حَفِظَ به النِّصاب، ووهبه النعمتين: المُلْكَ والشباب؛ فهنيئًا له ما حاز، وَسَقْيًا لقبر والده الذي حقَّ له الفداء لو جَازَ؛ ورسولُنا الرئيسُ العميدُ مختار الدين - أدام الله سلامته - قائم عَنَّا بإقامة العزاء من لسانه، ووَصْفَ ما نَالَنَا من الوحشة لفراق ذلك الصديق وخُلُوِّ مكانه؛ وكيف لا يَسْتَوْحِشُ ربُّ الدار لفُرْقَةِ جيرانه.
وقد استفتحنا الملك بكتابنا وارتيادنا، ووُدِّنَا الذي هو ميراثه عن والده من وِدَادنا؛ فلْيَلْقَ التحيَّة بمثلها، وليأتِ الحسنةَ ليكون من أهلها؛ ولْيَعْلَمْ أنَّا له كما كُنَّا لأبيه: مودَّة صافية، وعقيدة وافية، ومحبَّة ثَبَتَ عَقْدُهَا في الحياة والوفاة، وسريرة حَكَمَتْ في الدنيا بالموافاة؛ مع ما في الدِّينِ من المخالفات، فلْيَسْتَرْسِلْ إلينا استرسال الواثق الذي لا يَخْجَلُ، ولْيَعْتَمِدَ علينا اعتماد الولد الذي لا يحمل عن والده ما تحمَّل؛ والله يُديم تعميره، ويحرس تأميره، ويقضي له بموافقة التوفيق، ويُلْهِمَهُ تصديقَ ظنِّ الصديق"[18].
--------------------------------------------------------------------------------
[1] المَحْتِدُ: الأَصل والطبع. انظر: ابن منظور: اللسان، مادة حتد 3/139.
[2] أَحْنَى الناس ضُلوعًا عليك أَي أَشْفَقُهم عليك، والحَوَاني: أَطْوَل الأَضلاع كلِّهن في كل جانب من الإِنسان ضِلَعان من الحَوَاني. انظر: ابن منظور: اللسان، مادة حنا 14/202.
[3] ذاعَ الشيءُ والخبر: فَشا وانتشَر. انظر: ابن منظور: اللسان، مادة ذيع 8/98.
[4] الكَمينُ في الحرب الذينَ يَكْمُنون، وأَمرٌ فيه كَمِينٌ أَي فيه دَغَلٌ لا يُفْطَن له. انظر: ابن منظور: اللسان، مادة كمن 13/359.
[5] فَرَيْت الشيء: قطعته ومزقته. انظر: ابن منظور: اللسان، مادة فري 15/151.
[6] شُطَب وشُطُوب السيف: طَرائقُه التي في متنه، واحدته شُطْبة وشُطَبة وشِطْبة. انظر: ابن منظور: اللسان، مادة شطب 1/496.
[7] الشَّأْوُ: الغَايةُ والأَمَدُ والمَدَى. انظر: ابن منظور: اللسان، مادة شأو 14/417.
[8] يَرْبَأُ أَهلَه: أَي يَحْفَظُهم من عَدُوِّهم، والاسم الرَّبِيئةُ، وهو العين والطَّلِيعةُ الذي ينظر للقوم لئلا يَدْهَمَهُم عدُوٌّ. انظر: ابن منظور: اللسان، مادة ربأ 1/82.
[9] الرِّفْد: العطاء والكسب. انظر: ابن منظور: اللسان، مادة رفد 3/181.
[10] رام الشيءَ يَرومُهُ رَوْمًا ومَرامًا: طلبه. انظر: ابن منظور: اللسان، مادة روم 12/258.
[11] شيءٌ مُخِيل أَي مُشْكِل. انظر: ابن منظور: اللسان، مادة خيل 11/224.
[12] لاجئ من لَجَأَ إِلى الشيء والمَكان استند إِليه واعتضد به، وخفف الهمزة ياءً للسجع. انظر: ابن منظور: اللسان، مادة لجأ 1/152.
[13] حَجَّل فلانٌ أمره تحجيلاً إِذا شَهْرَه، وفي الحديث: "غُرٌّ مُحَجَّلُونَ"؛ أَي بِيض مواضع الوضوء من الأَيدي والوجه والأَقدام. انظر: ابن منظور: اللسان، مادة حجل 11/143.
[14] نَهَدَ إلى العدوِّ يَنْهَد: نَهَض، وإذا صَمَد له، وشرع في قتاله. انظر: ابن منظور: اللسان، مادة نهد 3/429.
[15] القلقشندي: صبح الأعشى 13/151-154.
[16] أَصادِقُ: جمع صديق. انظر: ابن منظور: اللسان، مادة صدق 10/193.
[17] الأرزاء: جمع الرَّزِيئةُ وهي المُصِيبةُ. انظر: ابن منظور: اللسان، مادة رزأ 1/86.
[18] القلقشندي: صبح الأعشى 7/121-123.