د. راغب السرجاني
أدلَّة وبراهين وبشارات كثيرة، تلك التي تَضَمَّنَتْهَا كُتب التوراة الموجودة الآن بين يدي أتباعها؛ بما يُؤَكِّد صدق النبي محمدفي دعواه ورسالته، وأنه خاتم المرسلين والمبعوثُ رحمةً للعالمين؛ ممَّا يُقِيم الحُجَّة على أهل هذه الكُتب، ويُثْبِتُ إيمان المؤمنين.
اليهود ونكران بشارة رسول الله
لقد أراد اليهود بكل عزمهم وقُوَّتِهم وجهدهم أن يطمسوا النور الذي بين أيديهم، فحرَّفوا وبدَّلوا في كتاب الله التوراة، وكان من جملة ما طمسوا حقيقته وشَوَّهُوا صورته، البشاراتُ الإلهية بقدوم خاتم الأنبياء محمد رسول الله؛ وذلك لعدم إيمانهم بقُدْرَة أَيَّة أُمَّة غيرهم على النهضة العالمية المرجُوَّة لطريق الله القويم، ولَمَّا كان النبي الخاتم من وَلَدِ إسماعيل، وليس من ولد إسحاق كما اعتادوا دومًا؛ فقد زادهم ذلك حقدًا فوق حقدهم، فعملوا بكل ما أُوتُوا من قُوَّة على تشويه حقيقة النبي الخاتم محمد، والدين الحقّ الإسلام.
البشارات في التوراة
قوله في الفصل التاسع من السفر الأول من التوراة: "إن هاجر لما فارقت سارة وخاطبها الملك فقال: يا هاجر، من أين أقبلت؟ وإلى أين تريدين؟ فلما شرحتْ له الحال، قال: ارجعي، فإني سأكثِّر ذريتك وزرعك حتى لا يُحصون، وها أنت تحبلين وتلدين ابنًا اسمه إسماعيل؛ لأن الله قد سمع ذُلَّك وخضوعك، وولدك يكون وحش الناس، يده فوق يد الجميع، ويد الكل به، ويكون مسكنه على تخوم جميع إخوته"[1]. يقول ابن القيم: "... ومعلوم أن يد بني إسماعيل قبل مبعث محمدلم تكن فوق أيدي بني إسحاق؛ بل كان في أيدي بني إسحاق النبوة والكتاب، وقد دخلوا مصر زمن يوسف مع يعقوب، فلم يكن لبني إسماعيل فوقهم يد، ثم خرجوا منها لَمَّا بُعِثَ موسى، وكانوا مع موسى من أعزِّ أهل الأرض، ولم يكن لأحد عليهم يد؛ ولذلك كانوا مع يوشع إلى زمن داود ومُلْكِ سليمان، المُلْك الذي لم يُؤْتَ أحدٌ مثله فلم تكن يد بني إسماعيل عليهم، ثم بعث الله المسيح فكفروا به وكذبوه، فدمَّر عليهم تكذيبُهم إيَّاه، وزَالَ ملكهم، ولم تَقُمْ لهم بعده قائمة، وقَطَّعَهُم الله في الأرض أُممًا، وكانوا تحت حُكْمِ الروم والفرس، وغيرهم، ولم تكن يَدُ وَلَدِ إسماعيل عليهم في هذا الحال، ولا كانت فوق يَدِ الجميع إلى أن بعث الله محمدًابرسالته، وأكرمه الله بنُبُوَّته، فصارت بمبعثه يَدُ بني إسماعيل فوق الجميع، فلم يَبْقَ في الأرض سلطان أعزَّ من سلطانهم؛ بحيث قهروا سلطان فارس والروم والترك والدَّيْلَم، وقهروا اليهود والنصارى والمجوس والصابئة وعُبَّاد الأصنام؛ فظهر بذلك تأويل قوله في التوراة: "ويكون يده فوق يد الجميع، ويد الكل". وهذا أمر مستمرٌّ إلى آخر الدهر. قالت اليهود: نحن لا نُنْكِر هذا؛ ولكنْ إنَّ هذه بشارة بملكه وظهوره وقهره لا برسالته ونُبُوَّتِه. قال المسلمون: المُلك ملكان؛ ملك ليس معه نُبُوَّة بل ملك جبار مُتَسَلِّط، وملك نفسه نبوة؛ والبشارة لم تقع بالملك الأول، ولا سيَّمَا إن ادَّعَى صاحبه النُّبُوَّة والرسالة وهو كاذب مفترٍ على الله؛ فهو من شَرِّ الخَلْقِ وأفجرهم وأكفرهم، فهذا لا تقع البشارة بمُلْكِه، وإنما يقع التحذير من فتنته، كما وقع التحذير من فتنة الدجال، بل هذا شرٌّ من سنحاريب وبُخْتُنَصَّر[2]، والملوك الظلمة الفجرة الذين يَكْذِبون على الله، فالأخبار لا تكون بشارة، ولا تفرح به هاجر وإبراهيم، ولا بَشَّرَ أَحَدٌ بذلك، ولا يكون ذلك إثابة لها من خضوعها وذُلِّها، وأن الله قد سمع ذلك ويعظِّم هذا المولود ويجعله لأُمَّة عظيمة، وهذا عند الجاحدين بمنزلة أن يقال: إنكِ ستلدين جبارًا ظالمًا طاغيًا يقهر الناس بالباطل، ويقتل أولياء الله، ويسبي حريمهم، ويأخذ أموالهم بالباطل، ويُبَدِّل أديان الأنبياء، ويكذب على الله، ونحو ذلك، فمَنْ حَمَل هذه البشارة على هذا، فهو مِنْ أعظم الخَلْقِ بهتانًا وفرية على الله؛ وليس هذا بمُسْتَنْكَر لأُمَّة الغضب، وَقَتَلَة الأنبياء، وقوم البهت"[3].
ورغم هذه التشويهات المتعاقبة عبر العصور المتلاحقة في التوراة، فقد بَقِيَتْ هناك بعض النصوص التي تُدَلِّل بوضوح على وجود النبي الخاتم الذي بَشَّرَ به موسى، بل وأراد أن يكون من أُمَّتِه!
يقول ابن تيمية: "قد رأيتُ أنا من نسخ الزبور ما فيه تصريح بنُبُوَّة محمدباسمه، ورأيتُ نسخة أخرى بالزبور فلم أَرَ ذلك فيها، وحينئذٍ فلا يمتنع أن يكون في بعض النسخ من صفات النبيما ليس في أخرى"[4].
وإذا أردنا بعضًا من هذه التصريحات أو البشارات، فإنه عندما سقطت بابل في يَدِ مَلِكِ الفرس عام (538 ق. م)، سُمح لليهود بالعودة إلى فلسطين -بعد أن أسرهم الزعيم الكلداني الشهير بُخْتُنَصَّر- كما سُمِحَ لهم بإعادة بناء القدس والهيكل، وعندما وُضعت الأساسات لبناء المعبد الجديد، ارتفعت صيحات الفرح بين اليهود، وفي أثناء هذه المناسبة بعث الله النبي (حجّي)، الذي قال لهم في هذه المناسبة: "وسوف أُزلزل كل الأمم، وسوف يأتي (حِمْده) لكل الأمم، وسوف أملأ هذا البيت بالمجد، كذلك قال رب الجنود، لي الفضة ولي الذهب، هكذا قال رب الجنود، وإن مجد ذلك البيت الأخير يكون أعظم من مجد الأول، هكذا قال رب الجنود، وفي هذا المكان أُعْطِي (شالوم)، هكذا قال رب الجنود"[5].
لقد أعطى المعلِّقُون اليهود والنصارى أهمية قصوى للوعد المزدوج الذي احتوته النبوءة المذكورة آنفًا، وكلاهما يفهمان كلمة (حِمْده) على أنها نبوءة يهودية مسيحية، فلو فُسِّرَت هذه النبوءة بالمعنى المجرَّد لكلمتي (حِمْده) و(شالوم) على أنهما (الأمنية) و(السلام)؛ لأصبحت النبوءة لا شيء سوى أمنيات مبهمة غير ذات مغزى، ولكن لو فهمنا من كلمة (حِمْده) أنها شخصية حقيقية، ومن كلمة (شالوم) أنها ديانة مُنزَّلة، وقوَّة فَعَّالة، عندئذٍ تُصبح هذه النبوءة صادقة ومتحقَّقَة في شخصية أحمد ودين الإسلام؛ ذلك لأن كلمتي (حِمْده) و(شالوم) تؤديان بدقَّة معنى كلمتي (أحمد) و(الإسلام)[6].
وقد أكَّد عبد الأحد داود[7] على أن أصول كلمة (حِمْده) و(شالوم) تُدَلِّلان بوضوح على بشارة التوراة بمحمدوبدين الإسلام؛ فكلمة (حِمْده) تُقرأ في النصِّ الأصلي: "في يافو حِمْده كُول هاجوييم". وهي تعني حرفيًّا: "وسوف يأتي حِمْده لكل الأمم". والكلمة مأخوذة من اللغة العبرية القديمة أو الآرمية، وأصلها (حِمْدْ) وتُلفظ بدون التسكين (حِمِد). ممَّا يعني في العبرية (الأمنية الكبيرة)، أو (المشتهى)، أو ما يتوق إليه المرء، ونجد في اللغة العربية أن الفعل (حَمِدَ) من جذر الكلمة نفسها (ح م د) بمعنى الإطراء والمديح.
ومن البشارات أيضًا التي جاءت في التوراة، ما جاء في سفر (أشعيا) في الإصحاح الثاني والأربعين ما نصُّه: "لترفع البرية ومدنها صوتها، الديار التي سكنها قيدار[8]؛ لتترنَّم سكان سالع، من رءوس الجبال ليهتفوا؛ ليعطوا الرب مجدًا، ويُخبروا بتسبيحه في الجزائر"[9].
وهذا النصُّ واضح في التبشير بمحمد؛ فقد أشار إلى بلاد العرب وهي الديار التي سكنها قيدار بن إسماعيل، وطلب منها أن تبتهج. والغريب أن النصَّ لم يَكْتَفِ بالإشارة إلى قيدار بن إسماعيل الذي هو جدُّ النبي محمد[10]، بل إن النصَّ جاء بذِكْرِ دار هجرة رسول اللهوهي المدينة المنورة، فقال: "لتترنم سكان سالع". وسالع هو (سَلْع) وهو جبل في باب المدينة، كما هو اسمه إلى الآن، وهو سالع بالعبرانية[11].
والنصُّ السابق يُلمح لنا عن طريق التأمُّل والاستقصاء لماذا استقرَّ اليهود في المدينة المنورة وما حولها؟ لقد كانوا على يقين بأن خاتم الأنبياء سيقطن المدينة، التي من أماراتها جبل (سالع) المذكور عندهم في التوراة كالبشارة السابقة، فتَمَنَّوْا أن يكون منهم وفيهم، ومن المعلوم أنهم طالما خَوَّفُوا الأوس والخزرج من النبي الخاتم الذي سيخرج من بين ظهرانيهم فيتخلص منهم، ومَنْ على شاكلتهم!
لقد كان اليهود في المدينة وما حولها يعلمون صفة النبي، وقُرْبَ ظهوره، وهو ما يُؤَكِّدُه ابن سعد في طبقاته بسند مُتَّصِلٍ عن ابن عباسما نصُّه: "قال: كانت يهود قريظة والنضير وفدك وخيبر يجدون صفة النبيقبل أن يُبْعَث، وأن دار هجرته المدينة"[12]. وهذا الأمر دليل واضح من التوراة ومن الواقع التاريخي على البشارة بالرسول الخاتم محمد.
هذه بعض البشارات التي وردت في التوراة عن النبي محمد، ولا يَتَّسِعُ المجال لعرض المزيد منها، والتي تدلُّ دلالةً واضحةً على صدق رسول الله فيما بَلَّغَ عن ربِّ العِزَّة I.
د. راغب السرجاني
-------------------------------------
[1] الإصحاح السادس عشر من سفر التكوين، نقلاً عن ابن قيم الجوزية: هداية الحيارى ص147.
[2] بُخْتُنَصَّر: هو الذي كان خَرَّب بيت المقدس، وقيل: إنما هو بُوخَتُنَصَّر، فأُعرب؛ وبُوخَتُ ابنُ، ونَصَّرُ صنم، وكان وُجد عند الصَّنَم، ولم يُعرف له أَب، فقيل: هو ابن الصنم. انظر: ابن منظور: لسان العرب، مادة نصر 5/210.
[3] ابن قيم الجوزية: هداية الحيارى في أجوبة اليهود والنصارى ص148، 149.
[4] ابن تيمية: الجواب الصحيح 3/50، 51.
[5] (سفر حجي 9/7-9).
[6] عبد الأحد داود: محمدكما ورد في كتاب اليهود والنصارى ص36، 37.
[7] عبد الأحد داود: هو القس دافيد بنجامين الكلداني، وُلِدَ عام (1867م)، وكان قسيسًا للروم من طائفة الكلدان، وبعد إسلامه تسمى بعبد الأحد داود، وألف كتاب (الإنجيل والصليب)، و(محمد في الكتاب المقدس). انظر نبذة من حياته في مقدمة كتابه: محمدكما ورد في كتاب اليهود والنصارى ص5-8.
[8] قيدار هو ابن نبي الله إسماعيل.
[9] (أشعيا 42/11).
[10] انظر: ابن قيم الجوزية: هداية الحيارى ص158.
[11] فاضل صالح السامرائي: نبوة محمد من الشك إلى اليقين ص253.
[12] محمد بن سعد: الطبقات الكبرى 1/104.