بينما كان سلطان ينتظر صديقَيْه سميرًا ونديمًا عند باب بيْته، إذ تذكَّر حديثَ أمِّه، حين بثَّ لها خوفَه من الموت، وخشْيته أن يفارق الحياة قبل أن يحقِّق طموحاته وينجز أعمالَه، فقد تملَّكه شعور غريب منذ مدَّة بأنَّ أجله قد اقترب، وبأنَّه لَم يبْقَ لديْهِ وقت ليُكمل المشاريع المتزاحِمة في رأْسِه، وأخذتْ كلِماتُها تتردَّد في فِكْره: "اطرد هذه الهواجسَ من ذهنك يا حبيبي، فالأجل حتمٌ محتوم، لا يعلم أوانَه إلاَّ الله - جلَّ شأنه - وعليْك أن تستثْمِر وقتَك يا بُني في طاعة الله ومرضاته، ثمَّ اعلم أنَّه لا أحد يرْحَل عن الدُّنيا ويفارق الحياة وقد أنْجَز كلَّ أعْماله وحقَّق جميع آماله، وإن شِئْتَ أن تتأكَّد من قوْلي فاذهب إلى المقابر، واسأل أهلَها عمَّنْ أنجز عمله منهم، وحقَّق طموحاته في حياته قبل أن يدفن"!
وفي هذه الأثناء، كان واقفًا يرْتدي أجمل ما عندَه من ثياب، وكان عبير العِطْر وشذى رائحته الزَّكيَّة تنتشر بين يديْه، وأريجه الفوَّاح يتطاير حواليْه، غير أنَّه كان كئيبًا حزينًا بعدما أفلحت أمُّه في إثارة شفقتِه بدموعِها، الَّتي كانت تسيل على خدَّيها وهي تودِّعُه؛ حيثُ لم تكُن راضيةً عن ذَهابه للسَّهر مع أصدقائِه "الشّلَّة"، في أحد المقاهي التي اشتهرت بالشّيشة والسَّهرات التي اعتاد التردُّد عليها، ولطالما كانت تكرِّر على مسامعِه النصْح وتستجْديه بالكفِّ عن تضْييع الوقت في السَّهر واللَّهو، والتَّوقُّف عن شرب الشيشة التي تُهلك الصِّحَّة، وتتلف المال، وكانت رائحة الكير الكريهة التي كانت تسْبِقه إليها حال دخولِه من الباب تُضايقُها، كما دأبت على تذْكيره بأنَّ عُمر الإنسان قصير مهْما عاش؛ فدقَّات قلبه محسوبة، وأنفاسه معْدودة.
وقبل أن يودِّعها تلك الليلة، وعدَها بأنَّها ستكون آخِر ليلة يَخرج فيها مع رفاقه ويتركها وحيدة تحدِّث نفسَها.
لعلَّ شفقتَها عليه زادت عن الحدِّ، أو لعلَّ حبَّها طغى على فؤادِها، فجعلها تَخشى عليه من النَّسيم العليل، ومن أشعَّة الشَّمس، وظلام اللَّيل؛ فقلبها ينبض بحبِّه، ولسانُها يلهج باسمه؛ فهو وحيدها.
هذا ما انقدح في ذهنِه، وهو غارق في بَحر أفكارِه، ثمَّ التفت إلى نفسِه يُحدِّثها: وفي جَميع الأحوال عليَّ أن أُرضيَها؛ فالجنَّة تَحت قدميها، والله أمَر بالإحسان إليها.
انفرجت أساريرُه عند رؤيته سيَّارة صديقه نديم، تدنو منه بسرعة.
بادِرْه نديم قائلاً: هيَّا اركب بسرعةٍ يا سلْطان، فقد تأخَّرنا عن الشّلَّة، والطَّريق مزْدحم جدًّا.
وما أن ركب سلْطان وجلس في الكرسي الخلْفي من السَّيَّارة، حتَّى طلب منه أن يستلقي ويغطّي وجهه، متظاهِرًا بالمرض؛ كي يتفادى الازدِحام، ثمَّ أنار أضواءَ الطَّوارئ في الحال، وضغطَ على منبِّه السَّيَّارة، وانطلق يخترق الزِّحام مسرعًا يُسابق الرّيح، أخْلَتِ السيَّارات الَّتي أمامه له الطَّريق ليتمكَّن من إسعاف المريض الذي يُقلّه.
فجأةً صرخَ نديم بأعْلى صوتِه وقد اعتراه الخوف: ابقَ على حالتِك يا سلطان، فهناك شرطيّ يتبعُنا بدرَّاجته النَّاريَّة.
سرْعان ما لحِق بهم الشّرطيّ، الَّذي لفت نظرَه سيَّارة مسرعة لا تلتزِم بقوانين السَّير وقواعِد المرور، ألْقى نظرةً على السَّيَّارة بعدما أوْقفهم، وسأل نديمًا عن سبب سُرعتِه وتهوُّره، فأخبره في ارتباك: إنَّ صديقي الَّذي يرقد في الكرسيّ الخلفي في حالة حرِجة، وأنا أُحاول إسعافه.
فكَّر الشّرطيّ برهة ثمَّ قال له: اتبعني، سأفتح لك الطَّريق.
انطلق الشّرطيّ يسابق الرّيح ونديم خلفه بسيَّارته، وكان قلبه يكادُ يَخرج من صدرِه من شدَّة الخوف وتسارع الخفقان، وكانت تحدِّثه نفسه بالهروب.
التفتَ إلى سمير ثمَّ قال له بارتباك: أشِر عليَّ، كيف أخرج من هذه المصيبة؟ وماذا أفعل؟
• لا أدري! لقد توقَّف ذهني عن التَّفكير.
حاول نديم التَّظاهُر برباطة الجأش حين وجد نفسَه في المستشفى، فشكر الشّرطي عند البوَّابة قائلاً: جزاك الله خيرًا على المساعدة، نحنُ الآن نستطيع أن نتدبَّر الأمر.
• هذا واجبي، ولن أغادر المستشفى حتَّى أطمئنَّ عليه!
بلع نديم لسانه وهو يسترِقُ النَّظر إلى سمير الَّذي كان واجمًا، ويكاد الخوف والارتِباك يفضحه، وقد عقدت الصَّدمة لسانه، وشلَّت المفاجأة أركانه، وغرِق في بحر أفكاره: كيف سيكون حالُنا يا ترى إذا اكتشف أنَّنا نخدعه؟!
بيْدَ أنَّ براعة سلطان في التَّمثيل خففت من حدَّة خوفِهِما؛ إذ قام بالدَّور بمهارة فائقة.
تنفَّس نديم وسمير الصُّعَداء حين ودَّعهما الشُّرطيّ بعدما أدْخِلَ سلْطان إلى غرفة الطَّوارئ، فقال نديم وهو يتبع الشّرطيّ ببَصرِه ويُحدّث صديقه: الحمد لله، أخيرًا نجوْنا. لوْلا براعةُ سلْطان في التَّمثيل لهلكنا!
ابتسم نديم وقال: حقيقة كان سلطان ممثِّلاً بارعًا، ولا عجب في ذلك فقد كان يهْوَى التَّمثيل منذ صِغَره، وكان غالبًا ما يُختار ليؤدّي الأدوار الصَّعبة على خشبة المسرح في احتِفالات نهاية السَّنة الدّراسيَّة.
ما العمل الآن يا نديم، فعلى ما يبدو أنَّنا لم نَخرج من المأزق بعدُ؟ يَجب أن ننتظِر قليلاً حتَّى ينتهي الطَّبيب من فحصِه.
سكتَ سمير قليلاً ثمَّ قال: لقد صدق مَن قال: "في العجلة النَّدامة"، هذه نتيجة مغامراتِك الفاشلة يا نديم، ليْتني أصْغيتُ لنصيحة أبي.
قاطعه نديم غاضبًا: كفَّ عن العِتاب، ودعْنا نُفكِّر كيف نتصرَّف لنخرج بسلْطان من المستَشْفى؟
وفي غضون ذلك أقْبل الطَّبيب نحوَهُما مُمتقِع اللَّون، تبدو على ملامحِه علامات الحزن، وما لبث أن اقترب منهما وأخبرَهُما بصوتٍ حزين بأنَّ سلطان قد فارق الحياة.
نزل عليْهِما الخبر كالصَّاعقة، ولم يصدِّقا ما سمعا، فقام نديم من مكانِه وصرخ في وجْهِ الطَّبيب غاضبًا: لا بدَّ أنَّك مخطئ يا دكتور! لعلَّك تقصد شخصًا آخر غير سلطان.
• إنَّها الحقيقة، فقد أُصيب بسكتة قلبيَّة حال وصوله إلى المستشفى.
أخذتِ الطَّبيبَ الحيرة حين قصَّ عليه سمير القصَّة، ثمَّ قال له وقد فاضت عَبرتُه: ولكنَّه كان سليمًا معافى يا دكتور، ولم يكن يشكو من أيّ مرَض، وما فعلنا ذلك إلاَّ لنخدَعَ الآخرين، ولكي نلحق بأصدقائنا في المقهى.
• إنَّه الأجل يا بني، ولكلّ أجل كتاب.
انفجر صديقاه بالبكاء وهما يُلْقِيان عليه نظرة الوداع، وهو مُسجّى جثَّة هامدة لا حراكَ فيها ولا روح، وقد غادر الدُّنيا تاركًا وراءه طموحاته وآماله دون تحقيق.
نظر سمير إلى نديم وقال له وقد اغْرورقتْ عيْناه بالدَّمع: ما أقصر العمر! وما أشدَّ غفلتَنا!
هزَّ نديم رأسَه وردَّ بلوعة وأسى: صدقت يا أخي، فملَك الموت زائر يأتِي بلا موعد!
جمال أبو زيد