فِيما كَانَ فؤاد جَالسًا في القِطار خَائفًا يترقَّبُ، تتلاعب به أمواجُ الهموم، وتنشبُ الأحزان مخالبَها في فؤاده، وقد اعترتْه الدهشةُ، وغشيتْه الحيرة، لاحظَ أنَّ الرَّجلَ الجالسَ أمامَه يضعُ على عينيهِ نظارةً سوداءَ؛ ليخفي اتجاههما وحركاتهما، ومع ذلك كان في مقدورهِ أن يراهُ وهو يركز النظرَ عليه.
طَفِقَ يفكِّر في المأزِقِ الذي وقع فيه، وفي طريقةٍ للخروج منه، أوقعَ ذلك الرجلُ الرهبةَ في قلبه، فاعتدلَ في جِلْسته، متظاهرًا بالنظر إلى المزارع والوديان من خلال النافذة، وكأنه يتمتعُ بسحر الطبيعة الخضراء التي كان القطارُ يخترقها، وراحَ يَسترِقُ النظر خلسةً من طرفِ عينه إلى الرجل، مُتحاشِيًا أن تلتقي نظراتهما، ومُتظاهرًا بالانشغالِ عنه وعدم الاكتراثِ به.
بَيْدَ أن صاحبَ النظارةِ السوداء لم يكن يهتمُّ بالمناظرِ الخلاَّبةِ وجمال الطبيعة الأخَّاذ التي كانوا يمرُّون بها، ولم يكن يحرفُ ذلك الرجلُ نظرَه لحظة واحدةً عنه، لكأنه كان يخشى فقدانَ أي تطوُّر قد يطرأ على وجه فؤاد فيما لو أشاحَ بوجهه عنه ثانيةً واحدةً، أو لكأنه كان يُلمحُ إلى أنَّ أمرَه قد انفضحَ ولم تعدْ ثَمة حاجةٌ إلى أي تمويهٍ أو مناورةٍ.
قالَ في دخيلةِ نفسهِ: "لقد افتضحَ أمرِي، وسيُلقون القبضَ عليَّ لا محالةَ"، أخذ يردد في قرارة نفسه والألم يعتصرُ قلبه: "لا حولَ ولا قوةَ إلا باللهِ"، ثم أغلقَ عينيهِ مُتظاهرًا بالنعاسِ، وانقدحتْ في نفسه صورةُ زوجتهِ وهي تصرخ في وجهه وتتهمه بارْتكابِ جَريمةٍ قذرةٍ، بعدما فتحتِ الحقيبة التي أحْضرَها معه، ولم تتوقفْ عن الصياح وبأعْلى صوتها، وحينَ حاول أن يسكتها أو يهدئَ من روْعِها ليشرحَ لها الأمرَ، ازدادَ صياحُها حدَّةً وارْتفاعًا.
كانت المفاجأةُ والصدمة قد أربكتْه، ولم يعد يدري ما يفعل! بيدَ أنه لم يجد بُدًّا في نهاية المطافِ من الهروبِ مِنَ البيتِ، والتواري عن الأنظار؛ علَّهُ يتوصل إلى وسيلةٍ يشرحُ فيها تفاصيل ما حَدَثَ، أو عسى أن يتوصلَ إلى دليلٍ ليدافع به عن نفسه، ويثبتَ به براءتَه قبلَ أن يتم القبض عليه من قبل رجالِ الأمن الجنائي، الذين لنْ يصدِّقُوا كلمةً واحدةً مِما سيقولُه لهم، وسيلقونَ بهِ في غياهِبِ السجنِ؛ فقط ليظهرُوا أنهم بمهارةٍ وذكاءِ تمكنوا منَ القبض على القاتل، وفي فترةٍ قياسيةٍ.
ثم جعل يتساءَلَ في قرارة نفسه: "ولكنْ ماذا حدثَ لفوزية؟ ماذا دهَاهَا؟ وَلماذا أثارتْ كلَّ ذلك الهرج والمرجِ دُونما مُبرِّر؟ ألم يكن يحتم عليها واجبُها كزوجة أن تقفَ إلى جانبِي في هذه المحنة، وفي هذه المصيبة التي وقعتْ على رأسي، وتعطيني فرصةً لأشرحَ لها ما حدث بالتفصيلِ؟! وعلى الرغمِ من أنني لا ألومها، فالأمر كانَ صدمةً لنا جميعا! ولكنها بالغتْ في الصراخ؛ إذ استولي عليها الشيطانُ، وذَهبتْ بها الظنون كلَّ مذهبٍ؛ فهي تعرفُ أنني لا يمكنُ أن أقترفَ جريمةً كهذه".
فتح فؤاد عينيه ببطء شديد، فوجد صاحب النظارة على حاله مستمرًّا في النظر إليه، أحس بخوف شديد يَسري في فؤاده، إلا أنه لم يلبث أنْ عاد ليكمل تفكيره:
"... إن الله وحده يعلم أنني كنتُ أنوي أنْ أساعدَ تلك المرأة التي ناولتْني الحقيبة في محطة القطار بلهفَة؛ لأمسكها لها، ولم تمهلني لحظةً لأفكر في الأمْر رَيثما تبحثُ عن ابنتها التي تخلفتْ عنها وضاعت بين الزحام، لم أكنْ أتصور أنها مُجرمة، وأنها تُخفي فيها جثة طفل، وأنها لن تعود لتأخذها مني؛ مما اضطررت بعد انتظار طويل في المحطة أن آخذ تلك الحقيبةَ معي إلى البيت!
أيقظهُ من انهماكه في التفكيرِ رَنينُ هاتف نقال قريب، رفع بصره إلى الرجل ذي النظارةِ السوداءِ، فرآه يمدُّ يَدَه إلى جيبه ويُخرج مِنه هاتفه النقالَ، دونَ أن يرفعَ عينيهِ عنْ فؤاد، ويتحدثُ فيه قائلاً بصوتٍ أقرب إلى الهمس:
نعم، في القطار، لا تخشوا شَيئًا؛ فأنا مُتيقظٌ تمامًا، سأقابلكم حينَ نصل.
قال فؤاد في نفسه: "لقدِ اتضحَ الأمرُ الآن وزالَ كلُّ لبس، سألوه عني، فأكَّد لهم أنني ما زلت في القطار، وحذَّروه مِنْ أنْ يسهوَ عني لحظة، فأكَّد لهم أنه مُتيقظٌ تمامًا، وهم الآن ينتظرون وصُولي إلى المحطةِ ليقبضُوا عليَّ، ماذا أفعلُ الآن يا ترى؟ هل أتظاهرُ بأنني لم أدركْ شيئًا، وأنتقل إلى مقطورةٍ أخرى؛ لأرى إن كانَ رجلُ التحرِّي هذا سيتبعني أم لا؟ وإذا لم يفعل أعمدُ إلى مغادرة القطار في أقرب محطة قادمة، أم هل يا ترى أبقى في مكاني متظاهرًا بالهدوء وبرباطة الجأش، إلى أن يتوقف القطار في المَحطة القادمةِ، ثم أغافله وأسلم ساقيَّ للريح؟ لا بدَّ أن أتصرف بكلِّ رويَّة وحكمة؛ لأنجو بنفسي من هذا المأزق".
طفق القطار يخفِّف من سرعته، مما يعني أنه على وشك الوصول إلى المحطة القادمة، وهذا ما كان فعلاً، ولكن يا للهول! بدأت معالم المحطة التي يقصدها فؤاد تظهر رويدًا رويدًا مع اقتراب القطار منها، إنها المحطة الأخيرة إذًا، ولا مجال للهروب الآن؛ فقد فات الأوان، سلَّم أمره لله واستسلم لقدره، وهو يلهج بالدعاء في قرارة نفسه: أن يجعل الله له مخرجًا.
رَنا بنظره إلى الرجل الذي لم يبرح مكانه، وتساءل في نفسه: "ماذا جرى؟ لِمَ لمْ يكتشف إذًا أنها المحطة الأخيرة؟ لعلَّ السبب في ذلك انهماكُه في التفكير وقلقُه وتوترُه، ازداد خفقان قلبه، وأحس فؤاد بألمٍ في بطنه من شدة الخوف، لم يكن لديه أدنى شك في أنه سيُقبضُ عليه حالَ نزوله في المحطة.
استعدَّ الركاب جميعًا للنزول، ولم يتحرك صاحب النظارة السوداء من مكانه، ازداد ارتباك فؤاد وتوجُّسه، واحتار في أمره، وأخيرًا وقفَ صاحب النظارة فجأةً وقال له:
• لقد وصلنا، أليس كذلك؟
ردَّ مرتبكًا:
• بلى قد وصلنا!
• هل تستطيع مرافقتي، لو سمحت؟
• أرافقك؟! إلى أين؟
• إلى خارج المحطة.
• لماذا؟
• أريدك أن تساعدني في الخروج منها.
• أساعدك؟! ولماذا؟
• أنا رجل كفيف، وابني ينتظرني عند بوابة الوصول.
تنفَّس فؤاد الصعداء وانفرجَ عنه غمُّه، أغمض عينيه قليلاً؛ ليريح أعصابه قليلاً، ثم قال:
• بكل رحابة صدر يا أخي.
أمسك الرجلَ من يده واتَّجها معًا نحو بوابة الوصول في المحطة، وهنالك أسرع إليهما رجلٌ لم يلبث أن شكر فؤادًا على لطفه وشهامته، واستقبلَ الكفيفَ بالقبلات وأخذه إلى سيارته.
وقف فؤاد مشدوهًا يلتفت حوله والحيرة تكاد تفضحه، وبينما هو في حيرته لا يدري إلى أين يذهب، تبادر إلى ذهنه الاتصالُ بابن عمه الذي يقطن قريبًا من المحطة، فتح هاتفه النقال فطفق يرن مباشرة، نظر إلى الشاشة فإذا برقم هاتف بيته، مما يعني أن زوجته هي المتصلة، تردد قبل أن يرد:
• ماذا تريدين أيتها الحمقاء؟
• أنا آسفة جدًّا يا فؤاد، لقد ظلمتُك، لقد اتصلت بك عشرات المرات، ولكن هاتفك كان مغلقًا.
• ماذا تريدين مني؟
• أرجوك، ارجع إلى البيت يا فؤاد؛ فالذي كان في الحقيبة دُمية، وليس جثة طفل كما ظننت.
• ماذا؟ دمية؟
• نعم، إنها دمية يا فؤاد، أرجوك عُدْ إلى البيت؛ فأنا ندمت على ما فعلت.
أغلق السماعة، وخرَّ فؤاد لله ساجدًا شكرًا لله أمام دهشة الجميع، وطفق يردد بصوت مسموع: "الحمد لله، الحمد لله".
جمال أبو زيد