أخرجه نداء الواجب من منزله، فعليْه أن يوصِّل البنين والبنات كلَّ يوم إلى المدارس والجامعات، فيجنِّبهم متاعب النَّقل ويوفِّر لهم بعض الوقت، فلو ذهبوا في الحافلة لكان عليْهم أن يمضوا ساعة كاملة في الطَّريق حتَّى يصلوا إلى مدارسهم، وعليهم أن ينتقلوا إلى حافلة أخرى، فضلاً عن الزِّحام ومشاكله.
سعد بالرَّاحة لمدَّة خمسة عشر يومًا في العطلة الانتصافيَّة، وأصبح ينام فيها بعد الفجر إلى التَّاسعة ثمَّ يتوجَّه إلى مكتبه، وما بين الفجر والتَّاسعة وقت لا بأس به للنَّوم، لكنَّها استراحة قصيرة، استراحة كاستراحة المحارب.
كانت السَّماء تصبُّ الماء صبًّا حين وصل إلى سيارته، فأدار محركها وأشار للأبناء بالصُّعود، ثمَّ انطلق دون إحماء ودون انتظار، كان المطر غزيرًا جدًّا حتَّى شعر كأنَّ السَّماء احتوت كلَّ ماء المعمورة وهي تعيده إليْها في دورة سريعة، كانت ماسحات الزُّجاج الأماميِّ تعمل باستمرار دون كلل، ومع ذلك كان يشعر أنَّ ماء المطر أسرع منها، وأنَّها قد عجزت عن إزاحته، فبدت الرُّؤية مشوَّشة ضبابيَّة.
في الطَّريق العام المؤدِّي إلى المدينة شعر أنَّ عليه أن يشعل أنوار السيَّارة، وإن كان يقود في النَّهار؛ فالرُّؤية ضعيفة جدًّا والماء غزير.
خفَّف من سرعته رغم أنَّ سيَّارته الهرمة - والَّتي تعود في صنعها إلى عقود مضت - لا تصل إلى سرعة تذكر إذا ما قورنت بسيَّارات اليوم، وبدا له الطَّريق طويلاً لأوَّل مرَّة، وعليه أن يوصل البنات إلى المدرسة قبل الثَّامنة صباحًا.
كان من عادته أن يوصِّلهم إلى باب المدرسة في الأيَّام المطيرة؛ مخافة أن يُصيبهم المطر، أعطى إشارة الانعطاف ودخل في الشَّارع مترًا واحدًا لم يتجاوزْه، أشار إليه الشُّرطيُّ بالوقوف جانبًا، التزم أوامره وذهب إليه.
• خيرًا .. ماذا تريد؟
• أوراقك وإجازتك.
• ولمَ؟
لأنّك تسير في اتِّجاه ممنوع.
• ومن قال لك ذلك؟
• تلك الإشارة تقول.
• أيَّة إشارة؟
• هذِه الَّتي وضعناها بالأمس.
• ولكنَّني أسير في الطَّريق منذ ما يزيد عن عشرة أعوام ولم تكن هناك إشارة.
• هذا صحيح ولكنَّ الإشارة وضعت ليلاً بالأمس.
[كانت المسافة الَّتي تفصل بين الطَّريق العام والمدرسة لا تتجاوز ثلاثين مترًا، ثمَّ مثلها إلى اليسار حيث باب المدرسة]
• وكم المخالفة؟
• آلاف سبعة.
• آلاف سبعة!
• نعم.. آلاف سبعة.
• إنَّه مبلغ كبير، وهو يساوي واحد على اثني عشر من ثمن السَّيَّارة.
• إنَّه القانون.
• حسنًا أوصِل البنات إلى المدرسة وأعود إليك للمخالفة.
شعر أبو خالد أنَّ عليه أن يعمل شيئًا، أوْصل البنات إلى المدرسة وعاد إلى الشُّرطيِّ بأوْراقه وإجازته.
• كم تُريد إذا تجاهلت المخالفة؟
• نصف المبلغ.
• آخر كلام.
• ثلاثة آلاف فقط.
• إنِّي إن دفعتُها كنت كمن اشترى عينًا بدين، ثمَّ إنِّي لا أملك المبلغ.
• أنظم الضَّبط.
• خُطَّ ما بدا لك إنِّي مانع مالي، ولكن هل عليَّ شيء إن أردت أن أقِف تحت هذه الإشارة؟
• لا.
ركن سيَّارته في الشَّارع القريب من مكتبه، ثمَّ عاد إلى الإشارة الشُّؤم مسرعًا، وقف تحتها والماء ينهمر وهو يشير إليها، يدٌ تلامسها ويد تمتدُّ إلى الأرض، ولسان حاله وصورته يقولان: إنَّه اتجاه ممنوع، وإذا سأله أحدُهم قال: اتِّجاه ممنوع، فلم يعهد النَّاس رجلاً يقف تحت الإشارة بهذه الطَّريقة وهذه الأجواء والماء يَسيل على جسمه وثيابه وكأنَّه دمية، أمضى يومًا كاملاً تحت تِلْك الإشارة، فكان أعجوبة المكان، كان التَّعب قد أضناه وشعر بالجوع.
توجَّه إلى باب المدرسة ينتظر بناتِه ليعود بهنَّ إلى المنزل، والعَوْد أجْدى وأحْمد، فهو لم يفتح مكتبَه في هذا اليوم.
دخلَ إلى المنزل وهو يشعُر - وقد أنقذ الكثيرينَ غيرَه من مخالفات محتَّمة كمخالفته - أنَّه أنْجز شيئًا.
• السَّلام عليْكم.
• وعليْكم السَّلام ورحمة الله وبركاته.
• أراك متعبًا اليوم يا أبا خالد، كيف كان العمل؟
• جيِّد، لا بأس به.
• جيِّد ولا بأس به!
• وهل ذهبتَ إلى المكتب؟
• ولِمَ تسألين يا امرأة؟
• لأنَّ مفاتيح المكتب لا زالت على الطَّاولة، فكيف كان العمل جيِّدًا ولا بأس به؟!
• ألَم تسْمعي بالمثل القائل: اهنئي أمَّ خالد، ربَّ ساع لقاعد! وآكل غير حامد! أما سمِعْت المثل؟
• لا، لم أسْمع بالمثل، ولا أريد الأمثال البتَّة، أريد الحقيقة.
عصبت المسكينة رأسها فقد بدا الألم أكبر من أن تتحمَّله، وقد وقفت على أمرٍ لم تعْهده ولم تألفه.
• هناك بعض الحبوب لتسكين ألم الرَّأس يا أمَّ خالد، اجلبوا لأمِّكم واحدة وكأسًا من الماء.
• لا أحتاج إلى شيء، فقط قُل: أين أمضيت يومك؟
• سبق السَّيف العذَل.
• عُدنا إلى الأمثال! قلت لك: لا أحبُّ الأمثال.
أخرج قلمًا وورقة ورسم إشارة على شكل دائرة حَمراء اللون، توسَّطها مستطيل أبيض اللون معترض، وقال: ما هذِه يا أمَّ خالد؟
• وما أدراني؟
• هذه إشارة مروريَّة وتعني: "اتجاه ممنوع".
قصَّ عليها القصَّة، ثمَّ قال: أتعلمين كم مخالفةً منعتُ من حصولها؟
• لا يا أبا خالد.
• منعتُ ما يزيد عن مائة مخالفة، فهل كان العمل جيِّدًا يا عزيزتي؟
• بالتّأكيد يا أبا خالد.
نزعت العصابة عن رأسها ورمتْها بعيدًا وهي تقول: اتجاه ممنوع، على السَّائق أن يبحث عن إشارة المرور عند كلِّ زاوية، فما يدري ما وراءَها.
• أتعلمين ما قال لي الشُّرطيُّ؟
• لا.
• قال لي: لو أعلم أنَّك ستصنعُ ما صنعت ما نظمت بحقِّك مخالفة أبدًا (باطلة ومحوّلة).
مصطفى شيخ مصطفى