تضاعفتْ هتافات الأعماق حينما امتزجتْ بأصدائها، فتبلورت في ورقة استقالة مقدَّمة لجهة العمل، وبدأ (غريب) يحدث نفسه: هأنذا ألملم أشيائي، وأودع أصدقائي، حالمًا بغد وارف الظلال دافئًا في ربوع بلادي، وبين أهلي وأحبابي، سأتزوج أجمل الجميلات، وأعيش معها في بيتي الجديد الذي كان ثمرة غربتي، ومد يده على رأسه، فأحس أن المساحات الصحراوية قد ازدادت، فطاش بذهنه سؤال: مَن سترضى بك أيها العجوز؟! فصرفه قائلاً: على عتبة البيت الجميل، والمال الوفير، ستتساقط مقاومة الصغيرات الجميلات، أحلامه وآماله العذبة تناثرت ورودًا على طريق عودته، سبقته أشواقه، ففرش بساطًا أخضر يانعًا أمام عينيه، سيأتي الغد وتتحقق الأحلام.
كان في أعماقه شيء ما، أحاسيس غامضة متصارعة مبهمة، كانت تكبر في أعماقه كلما اقترب من بلدته، لعل مصدرها انقطاع أخبار الأهل منذ مدة بسب الحرب الأخيرة، آه! قاتل الله الحروب، الحمد لله، إن شعوبنا المناضلة لم تجنِ من الحروب سوى الويلات والتشرد، منذ زمن بعيد لم نذق للنصر طعمًا، قال ذلك لنفسه، ثم زفر زفرة عميقة، امتزج صوتها مع صوت آيات الله، لتستقر في قلبه؛ ﴿ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ ﴾ [الحشر: 18].
ها أنا مقبل على غدي الدنيوي، وقد حشدت له كل إمكانياتي، عشرون عامًا قضيتُها في ديار الغربة، وأنا أستعدُّ لغدي القريب، وطار بأفكاره عائدًا لدنيا أمسه.
لَم أبتهل في مِحراب وحدتي السابق، لَم أجتهد تمامًا لأداء شيء من حُقُوق العبادة في الحرمين الشريفين، رغم أنه كان بإمكاني فعل ذلك، حرمتُ نفسي من التطوُّر الفكري والإيماني، كنت بخيلاً شحيحًا مقترًا على نفسي؛ من أجل توفير دراهم معدودة وادخارها، أعمل صباحًا ومساءً، صيفًا وشتاءً، أما في الإجازات فالرواتبُ مضاعَفة، وحدِّث عن العمل في القرى النائية؛ حيث الدخْل المضاعف، والمصروفات القليلة جدًّا.
تراه يطير بأفكاره، محلقًا بين أمسه ويومه، لكن انقباض قلبه وتوتره يزداد مع اقترابه من بلدته أكثر، صورة والدته تشرق أمام عينيه، بعد ساعات قليلة سيقبِّل يدها، ويطرب سمعه بدعواتها وابتهالاتها، وحديثها عن بنات العشرين، ولملم ابتسامة ظهرت على وجهه عندما تخيل صورة أمه وهي تصف بنت الحلال وصفًا دقيقًا، إنه يطمئن نفسه بأنواع من الصور المظللة التي تختزنها ذاكرته، ويحاول أن يتناسى أمر انقطاع أخبار الأهل، فإن كثيرًا من معارفه الذين عملوا معه في القرى لا يعرفون عن أهاليهم شيئًا، وتكون العاقبة دائمًا خيرًا، إنه يحاول طمأنة إحساسه المتمرد اليوم، فتتراءى أمام عينيه صورة والده، ذاك الرجل الممتلئ طيبة، الذي لا يخلع ثوب الحياء عنه، ترى ما هي أخبارك يا والدي الكريم؟ بعد ساعات - إن شاء الله - سأنعم بجوارك.
كان مؤشر التوجسات يرتفع دون هوادة، وكاد قلبه يخرج من بين أضلعه عندما بدأت عجلات السيارة تلامس الأرض التي درج عليها طفلاً، وخرجته مهندسًا متفوِّقًا، السيارة تسير بسرعة، وكأنها تحفظ الدروب عن ظهْر قلْبٍ، إنه يحدق بالناس السائرين بالزقاق القديم المتجدِّد، فلا يتعَرَّف على أحد منهم، ثم يشير للسائق، لو سمحت: العمارة الشاهقة الثالثة على اليمين، خرج من السيارة والتقط حقائبه، وبسرعة اتَّجه نحو باب العمارة، إنه يرى وجوهًا صغيرة غريبة متلاحقة تخرج من باب العمارة وتحملق به، وربما لمح وجه امرأة نظرت نظرة خاطفة عبر النافذة، نظر إلى الساعة، إنها العاشرة صباحًا، لا غرو سيطرق الباب الجديد لمنزل الوالد، فخرجت امرأة متوسطة العمر، غريبة الملامح واللهجة أيضًا، تفحصته بنظراتها، وقالت ببرود: تفضل.
فسألها باستغراب: أهذا منزل درويش الأحمد؟
أجابتْ وابتسامة باهتة تعلو قسمات وجهها:
هذا هو عنوانه، أما هو فإنه في العمل، فقدم نفسه لها، فامتقع لونُها، وحاولت الخروج من الموقف، فقالتْ مرة أخرى: تفضل.
فسأل: هل الوالدة هنا؟ أقصد الحاجة (أم غريب).
فردت السيدة عليه: عفوًا، أنا لا أعرف عنهما الكثير؛ لكني سأعطيك عنوانهما، وتوارتْ في الداخل.
غابت لحظات، حسبها قرونًا، ثم ناولتْه ورقة، وهي تقول: المعذرة، لا أستطيع أن أقدم لك أكثر من ذلك، وقبل أن تسمع أية كلمة أو استفسار، أغلقت الباب بعنْفٍ.
أمسك الورقة وقرأ مرارًا:
عنوان أم غريب، وادي الصقور رقم (222).
عنوان أبي غريب، مركز الأمير سعد.
"أكاد لا أصدق!"، لكن شعور الغربة القاتل أخذ يتصاعد ويتنامى بسرعة، وأخذ يكبح جماح هواجسه "تصبر يا غريب؛ ربما يكون وراء هذا الأمر سرٌّ جميل، وخير كثير"، وسار بين الشوارع والأزقَّة عازمًا البحث عن صاحبة الصدر الحنون، والدعوات الحارة له بكل خير، صاحبة اليد الرقيقة، والكلمة الحلوة، والأنشودة العذبة، أمه، أم غريب، "أين أنتِ يا ست الكل؟ إن لحظة بجوارك ستمحو قسوة سنوات الغربة".
ظن أن وادي الصقور اسم لحيٍّ من أحياء المدينة قد افتتح حديثًا، وربما يكون اسمًا لشارع جديد.
ولما طلب من أحد سائقي التاكسي إيصاله إلى هناك، أجابه باستغراب ودهشة: وماذا تريد من تلك المنطقة، ونحن نستقبل الشفق؟ فرد بلهجة حازمة:
أرجوك، أريد أن أصل وكفى.
ولكن يا أخي هذا المكان لا يُفتح ليلاً، إلا لضرورة قصوى، فأجابه بحدة:
لم أطلب منك إيصالي إلى ثكنة عسكرية، كان السائق لبقًا فطنًا، استطاع أن يميز شخصية غريب، فخرج من سيارته ووقف بجواره، وقال له مصافحًا:
هل تعرف المكان الذي تريد بالضبط؟
لا، ولكني أعرف الإنسان الذي أريد بالضبط، فرد السائق برفق:
يا أخي، هذا المكان هو اسم المقبرة، التي افتتحت منذ اندلاع الحرب، والذين فيها هم فقط أصحاب القبور.
ـــــــــــــــــــ
أ أم حسان الحلو