محمد حسين شهريار
1904 – 1988
المجاميع الشعرية :
سلاماً يا حيدر بابا – ديوان شهريار
ويلاه … أماه !
مرّت ، ثانية ، برقة وهدوء
من جانب السلم
كانت تفكر ماذا تهيئ من طعام لمريضها ؟
لكن كانت تضمها هالة سوداء
هي ميتة ، ولكن
ما زالت ترعانا نحن الأحياء
تروح وتغدو في أرجاء حياتنا
كل زاوية من البيت مشهد من قصتها
حتى في عزائها كانت تمارس عملها
مسكينة أمي !
* * *
كل يوم كانت تمر من تحت السلالم بهدوء
كي لا تكدر على نومي الرغيد
عبر ت اليوم مرة أخرى
فتحت الباب ، وأغلقت ،
تمر هي من جانب هذا الزقاق محنية الظهر
مرتدية عباءة باهتة
حذاء متهرئ ، وجوربا مرقعا
إنها تفكر بالأطفال
ستشتري الجزر اليوم من أي مكان كان
مسكينة تلك العجوز
إن الثلج يغطي الأزقة تماما
* * *
جاءت من ديارها ، من بين خدم وحشم
متسائلة عني وعن مستقبلي
جاءت تربي أربعة أطفال آخرين
جاءت تحمل تحت عباءتها قنينة النفط
خارجة كل ليلة من بيت فقير
كي توقد مصباح حب مرهق
* * *
إنها لم تمت ، إني اسمع صوتها
لا زالت تناقش الأطفال
- إخرسي يا ناهيد !
- ابتعد يا بيجن !
أتدير ملعقتها – دون صوت -
صانعة الطعام لمريضها
* * *
ماتت ، ودخلت الثرى إلى جانب أبي
جاءوا أقاربها للتعازي
أقيم مجلس عزابر لا بأس به
قدموا لنا الكثير من التعازي
- تفضلتموا علينا كثيراً !
لكن
كان نداء قلبي ينده بي دوماً ،
لا يعيد كل هذا الكلام أمّاً !
* * *
من كان إذاً ؟
عطى جسمي البارحة بالدثار
وابعد عني كوب الماء
في منتصف الليل
داهمني حلم مريب أفزعني وأنا مصاب بالحمى
وعلى أعتاب الصباح
كانت تجلس هنا قرب قدمي
* * *
إنها لم تمت ، إذ أني لا زلت حيا
هي حية ، في همومي وقصائدي وخيالي
وكل ما ورثته من الشعر فهو منها
هل ينطفئ – حقا – موقد الشمس والقمر ؟
هل تموت تلك البطلة التي أنجبت شهريار (ملكاً)
لم يمت من أحيا قلبه بالحب
* * *
منذ عهدي بالمهد ، حيث كانت تعقد الحبل به ، وتجره
كانت ترفو أعصابي مع الأنغام والألحان
بأغانيها الشعبية ، بحكاياتها الخلّابة الجميلة
هي غرست بابتسامتها الشعر والأنغام في روحي
ثم روّت زرعها ذاك بالدموع
لقد اهتز ولوّح لي ارتعاش الروح ذاك
وأخذت إثره أهوى الدلال
حتى صنعت من الحب عالماً لنفسي
خمس سنوات داومت مداراتي
اختلط دمعها بدمها حتى أنقذت الابن
لكن . . .
ما فعل الابن لك ؟ لا شيء / لا شيء
أودعك المستشفى
أملاً ما يفعله الآخرون
وذات يوم أخبروه ،
تعال، فأمك ، قد انتهت !
* * *
في الطريق إلى ( قم )
كان كل شيء مررت به مقطبا
إلتوى الجبل ، وشتمني ، وابتعد
كانت الصحراء كلها
خطوطاً متعرجة سوداء
طوماراً للأقدار والأخبار المريبة
كانت البحيرة أيضاً
تبكي لأجلها – من بعيد
طفنا مرة واحدة حول الضريح ، وصلينا مرة
وسقطت من عيني دمعة على سورة ياسين
وذهبت أمي
تحت التراب
* * *
جاء أبي تلك الليلة إلى حلمي ، ناداها
وأجابت
تكدرت هالة مصباح القمر
علمنا حينها أن أمنا ذاهبة
لكن كان أبي جالساً بغرفة ربيعية
ربما أخذ روحها إلى العالم الأعلى
حيث لا يوجد في حياتهم
ظلم وعذاب وألم
وها هو الولد ، يودعها إلى القبر
دمعة واحدة ، ثمن كل متاعبها
لكنها تخلصت من هموم مستقبلي
أرقدي يا أماه رقاداً طيباً
هنيئاً لك مثواك !
* * *
كان المستقبل ، وكانت قصة فقداني أمي
وإذا بعويل مفاجئ يخترق صمت الموت
كنت أتراكض ما بين القبور نحو الخارج
كانت هناك
رافعة رأسها من الحفرة منتحبة
تجر بنفسها خلفي واهنة
ركضت نحو المحطة مجنوناً هارباً
دسست نفسي داخل الجماعة منكمشاً
انظر من خلف الزجاجة نظراتي الأخيرة خائفاً
رأيتها
تلك المتدثرة بالبياض بذاك الجد والجهد
تلك العينين المواربتين ،
لا تنفصل عني !
* * *
كنا نأتي وكنت حائراً
كأنما يذوّبون الزئبق في فؤادي
كانت مشاهد الأرض والزمان مختلطة
وكان الكل
يتهربون من بعضهم
صامتين خائفين
كانت السماء تدور كي تقرع رأسي
كانت الدنيا في عيني المذنبة سوداء
وصياح الريح
يأتي من شقوق ومنافذ السيارة
وكان نداء ضعيف يتراكض خلفي ، يوخز بالي ،
قد توحدت يا ولد !
* * *
عدت إلى البيت .. بحالة يرثى لها
رأيتها جالسة – كما دوماً – قرب الحوض
قد غسلت مرة أخرى قميصي المتسخ
كأنها تبسمت
لكنها كانت محزونة ملولة ،
ذهبت دفنتني وعدت ؟
لن أدعك وحيداً يا ولدي المسكين !
ضحكت ، كي أخرج من الخطأ
لكن . . . كل شيء كان وهم
ويلاه .. أماه
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المصدر: جهة الشعر