على امتداد تاريخه، ومنذ نشأة الكيان الصهيوني واغتصابه لفلسطين لتقيم عليها صرح كيانها البائس، وجهاز المخابرات الإسرائيلي المعروف باسم "الموساد" يقوم بعمليات قذِرة، ليس فقط ضد كل من هو عدو له، ولكن في قلب دول ينقل إليها ساحة معاركه مع أعدائه.
وعلى الرغم من العمليات التي يقوم بها، إلا أن بصمة الإجرام الصهيوني تبدو واضحة عليها، فضلًا عن أنها لا يمكن بحال أن تكون دليل قوة له في السيطرة على مقاليد العالم وأموره، خاصة وأنه منذ حرب أكتوبر في عام 1973، فإن عملياته باتت مكشوفة، وبصماته الإجرامية تبدو واضحة مع كل جريمة يستهدفها، حتى أن كل جرائمه يتم كشفها على وجه السرعة.
وإذا كان قد نجح في اغتيال محمود المبحوح القيادي الحمساوي في دبي أخيرًا، فإنه قد فشل في أن يقدِّم للرأي العام العالمي دليل براءته من التهمة المنسوبة إليه، والتي وجهتْها له شرطة دبي بفضل ما لديها من بصمة وراثية لأربعة من ضباط الموساد، إضافةً إلى عملائهم، وتؤكد بما لا يدع مجالًا للشك مسئولية هذا الجهاز الإجرامي في ارتكاب جريمته.
والواقع، فإن هذا الجهاز وعلى امتداد تاريخه الدموي، يثبت جليًّا ميلَه الجامح إلى ارتكاب عمليات إجرامية، تقوم بها عصابات إجرامية، وليس أجهزة مخابرات دولية، مما يعكس حقيقة هذا الجهاز، ورحم الكيان الذي نشأ فيه، وهو الكيان الإسرائيلي، الذي لا يلبث إلا أن يترك بصماته الإرهابية على كل عملية يقوم بها.
بداية الإرهاب الأسود
العملية التي جرت وقائعها في عام 1954 تعد أشهر عمليات المخابرات الإسرائيلية التي شهدتها مصر؛ كونها كانت النواة الأولى لما يمكن تسميته بعمليات الإرهاب الأسود لجهاز المخابرات الإسرائيلي.
وتذكر الروايات التاريخية أن "بنحاس لافون" وزير الدفاع الإسرائيلي الأسبق أشرف على التخطيط للعملية، والتي كانت تستهدف قيام مجموعة من الشباب الإسرائيلي المدرَّب بتخريب منشآت أمريكية في مصر، بهدف زعزعة الأمن، وتوتير الأوضاع بين مصر والولايات المتحدة، في السنوات الأولى لثورة يوليو.
كان "بنحاس لافون" قد تولى حينذاك مسئولية وزارة الدفاع، خلفًا لبن جوريون الذي استقال، في وقت كان وضع إسرائيل الدولي يشهد هزات عنيفة، إثر محاولات الإدارة الأمريكية الجديدة حينذاك بقيادة آيزنهاور فتح قنوات اتصال جيدة مع النظام المصري الجديد، بقيادة الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، وقد كانت رغبة واشنطن في ذلك عارمةً للدرجة التي لم تكن تمانع فيها من كسب ودّ عبد الناصر ولو كان الثمن التضحية جزئيًّا بإسرائيل.
وفي سبيل تحقيق هذا الهدف أسس نحاس ما سمي بالمجموعة 131 برئاسة المقدم موردخاي بن تسور، الذي قام بدوره بتكليف الرائد إبراهام دار في جيش الحرب الإسرائيلي بالسفر إلى مصر، والبدء في تجنيد العناصر اللازمة لتنفيذ الخطة.
وفي نهايات عام 1953 نجح دار في دخول مصر بجواز سفر لرجل أعمال بريطاني تحت اسم جون دارلينج ولم تمضِ سوى أسابيع قليلة على استقراره في القاهرة، حتى تلقى دارلينج التعليمات الأولى من قيادته، والتي تطلب منه العمل على إجهاض المحاولات التي بدأها مجلس قيادة الثورة للتوصل إلى اتفاقية لجلاء القوات البريطانية عن مصر، وإحداث حالة من التوتر الدائم في العلاقات الدبلوماسية بين مصر وبريطانيا، وخلق حالة من الفوضى الأمنية، باستهداف المراكز والمؤسسات الأجنبية في القاهرة والإسكندرية، وسيارات الممثلين الدبلوماسيين البريطانيين وغيرهم من الرعايا الإنجليز إلى جانب بعض المنشآت العامة.
وفي يوليو انفجرت ثلاثة صناديق في مبنى البريد الرئيسي في الإسكندرية، لكن الانفجار لم يسفِر إلا عن أضرار طفيفة، عَثر بعدها فريق التحقيقات المصري على بعض الأدلة، وكانت عبارة عن "علبة" أسطوانية الشكل لنوع من المنظفات الصناعية كان شائعًا في هذا الوقت، إلى جانب جراب نظارة طبية يحمل اسم محل شهير في الإسكندرية كان يملكه أجنبي، وتبيَّن فيما بعد أن العلبة كانت تحتوي على مواد كيميائية، وقطع صغيرة من الفوسفور الأحمر.
لم يكد يمرُّ سوى 12 يومًا على التفجير الأول، حتى استيقظت الإسكندرية في 14 يوليو على الانفجار الثاني، إثر قنبلة وُضعت في مبنى المركز الثقافي الأمريكي، وبينما كان فريق التحقيقات يواصل عمله على مسرح الحادث، كان هناك انفجار ثانٍ يضرب المركز الثقافي الأمريكي بالقاهرة، وعثر فريق التحقيقات على نفس البقايا للمواد الكيميائية، التي عثر عليها في الانفجار الأول، إلى جانب "جراب نظارة" مماثل لذلك الذي عثر عليه في حادث مبنى البريد، وخرجت الصحف المصرية، في صباح اليوم الثاني للحادثين، لتؤكد أن الحرائق ترجع إلى ماس كهربائي.
وفي 23 من الشهر ذاته كانت مجموعة دار لينج قد أنهت استعداداتها لوضع كميات مختلفة من المتفجرات في عدد من المرافق العامة في القاهرة والإسكندرية، من بينها محطة باب الحديد، إلا أن النيران اشتعلت فجأة في جيب أحد العملاء المكلَّفين بوضع المتفجرات، وبينما كان المارَّة يهرعون إلى الرجل وقد أمسكت به النيران لإطفائه، ظنًّا منهم أنها محاولة انتحار، ساورت الشكوك رجل شرطة كان موجودًا أمام دار العرض السينمائي، فاصطحب العميل الذي أُصيب بحروق إلى المستشفى، وأبلغ مرءوسيه بالحادث الغريب.
في المستشفى صدر التقرير الطبي عن الحادث يقول: إن جسم الشاب المحترِق كان ملطخًا بمسحوق فضي غريب، طال "جراب نظارة" يحملها في يده، مرجِّحًا أن يكون الاشتعال قد نتج عن تفاعل كيميائي، وبتفتيش الشاب كانت المفاجأة عندما عثرت أجهزة الأمن معه على قنبلة أخرى عليها اسم مارون أياك صاحب محل النظارات.
وفي إفادته أمام أجهزة الأمن اعترف اليهودي فيليب ناتاسون بعضويته في منظمة إرهابية هي المسئولة عن الحرائق، وعُثر في منزله حينذاك على مصنع صغير للمفرقعات وبعض الأواني التي تضم بعض مواد كيميائية سريعة الاشتعال، وبعض القنابل الحارقة الجاهزة للاستخدام، فضلًا عن بعض الأوراق التي تشرح طريقة صنع القنابل.
وقد أدت اعترافات ناتاسون إلى القبض على اثنين آخرين هما فيكتور موين ليفي، مصري الجنسية يهودي الديانة، وكان يعمل مهندسًا زراعيًّا، وروبير نسيم داسا، وهو مصري المولد يهودي الديانة يعمل في التجارة.
وأصَرَّ الثلاثة في أثناء التحقيقات على أنهم يعملون بشكلٍ فردي، وأنهم يحبون مصر، ويرغبون في المساهمة في قضيتها الوطنية، بمحاربة الإنجليز والأمريكان حتى يخرجوا من البلاد بالقوة، لكن قبل أن تنتهي التحقيقات فجَّر تقرير المعمل الجنائي مفاجأة جديدة؛ عندما أثبت العثور على شرائح ميكروفيلم دقيقة للغاية، لصقت في ظهور بعض طوابع للبريد، كانت أجهزة الأمن قد عثرت عليها في منزل فيليب ناتاسون وكانت قد دخلت مصر قادمة من باريس بالتتابع.
وبعد تكبير الشرائح، تبين أنها تحتوى على سبع وثائق عن تركيب واستعمال القنابل الحارقة، إضافةً إلى شفرة لاسلكي، ولم تكد تمر أيام على هذا الكشف المثير حتى أوقفت أجهزة الأمن المصرية ما وصف حينها بزعيم خلية الإسكندرية، صمويل باخور عازار، وهو مهندس يهودي الديانة، تولى لفترة مسئولية الخلية قبل أن يتنازل عنها لفيكتور ليفي الذي كان يفوقه تدريبًا، واعترف عازار في أثناء التحقيقات معه على شريك آخر هو ماير موحاس، يهودي الديانة من أصول بولندية، وكان يعمل مندوبًا للمبيعات.
وأدت المعلومات التي حصلت عليها أجهزة الأمن حينذاك إلى توقيف عدد آخر من عناصر الشبكة في مصر، وفي 11 ديسمبر عام 1954 جرت محاكمة أفراد الشبكة بتُهم التجسس والتخريب في محكمة القاهرة، وشمل قرار الإحالة حينذاك 13 متهمًا.
انتهت المحاكمة إلى أحكام رادعة بحق أعضاء الشبكة الإسرائيلية، وأصدرت حكمًا بالإعدام لشخص منهم، فضلًا عن أحكام بالأشغال الشاقة المؤبدة والأشغال الشاقة لمدة 15 عامًا، فيما خلت الأحكام من اسم ماكس بينت الذي كان قد انتحر في السجن، وأعيدت جثته لإسرائيل بعد موته بسنوات.
جرائم
وفي عام 1963، اعتقلت الشرطة السويسرية إسرائيليًّا ونمساويًّا بعدما اتهمتهما ابنة عالم ألماني بتهديدها في إطار حملة ترويع قام بها الموساد لألمان يشتبه في أنهم ساعدوا برنامجًا مصريًّا للصواريخ، واستقال رئيس الموساد آنذاك إيسار هاريل، وأطلق سراح المعتقلين بعد ذلك بشهور قليلة.
وفي عام 1973، قتل أفراد تابعون للموساد بالرصاص في النرويج شخصًا مولودًا في المغرب، بعدما ظنوا أنه أحد الفلسطينيين الذين دبَّروا لهجوم قتل فيه 11 لاعبًا إسرائيليًّا خلال دورة الألعاب الأولمبية في ميونيخ عام 1972، وتمت محاكمة 5 ضباط في الموساد، لكن أفرج عنهم في نهاية المطاف، وعرضت إسرائيل دفع تعويض لأسرة هذا الشخص.
وكذلك اعتقال جوناثان بولارد المحلل في البحرية الأمريكية عام 1985 لنقله معلومات مخابرات إلى لاكام -وهي وكالة إسرائيلية متخصصة في التعاون العلمي- واعتذرت إسرائيل للولايات المتحدة وفككت لاكام، وحكم على بولارد بالسجن مدى الحياة.
وفي العام 1987، احتجَّت بريطانيا لدى إسرائيل عما وصفته لندن بأنها إساءة استخدام "سلطات إسرائيلية" لجوازات سفر بريطانية مزيَّفة، وقالت بريطانيا: إنها تلقت تأكيدات من إسرائيل بعدم تكرار هذا الأمر.
أيضًا اعتُقل أربعة إسرائيليين في 1991 خلال محاولة لوضع أجهزة تنصت في سفارة إيران بقبرص، وأُفرج عنهم لعدم كفاية الأدلة.
وفي عام 1997 تورط جهاز الموساد الدموي في جريمة فاشلة بمحاولته اغتيال خالد مشعل رئيس المكتب السياسي لحماس في الأردن بأيدي ضابطين في الموساد ارتديا زي سائحين من كندا.
كما ألقت السلطات الأردنية القبض على اثنين من أفراد الموساد بعد محاولة فاشلة لاغتيال مشعل، وتم ترحيلهما إلى إسرائيل، بعدما أفرجت عن أحمد ياسين مؤسس الحركة الذي كان مسجونًا.
كما اعتقل شخصان في ألمانيا يُشتبه في أنهما ضابطان بالموساد في عام 1997 أثناء مداهمتهما منزلًا يُعتقد أنه ملك مسئول سابق في البوليس السري الألماني.
وفي 1998، تم الكشف عن مجموعة من الإسرائيليين حاولت التنصت على هواتف شخص يشتبه بأنه من أعضاء حزب الله في سويسرا، وأصدرت جلسة مغلقة للمحكمة قرارًا بسجن إسرائيلي وصفته وسائل إعلام بأنه ضابط بالموساد مع وقف التنفيذ وإلزامه بدفع غرامة، فيما أُفرج عن ثلاثة من زملائه.
وفي قبرص اعتقل شخصان يشتبه بأنهما ضابطان في الموساد، اتهما بالتجسس على منشآت عسكرية حساسة، وأطلق سراحهما بعدما قضيا تسعة أشهر في السجن.
وفي عام 2004، أصدرت محكمة في أوكلاند بنيوزيلندا قرارًا بسجن إسرائيليين لمدة ستة أشهر بعدما اعترفا بمحاولة الحصول على جواز سفر نيوزيلندي مزيف، واشتبهت ولنجتون في أنهما من الموساد، فأوقفت علاقتها مع إسرائيل احتجاجًا على هذا الأمر، واعتذرت إسرائيل لنيوزيلندا بعد ذلك بعام وعادت العلاقات بين البلدين.
الإسلام اليوم