مصباحها القديم:قصة قصيرة بقلم زكريا عبدالغنى

مشارك المشاركات : 1 . :

عندما تعلق العجوز مصباحها فى الجامع ينطلق أذان المغرب يدعو رجال قريتى للصلاة،تبسط كفيها ككتاب مفتوح وتقرأ الفاتحة،ثم تمسح وجهها فى تبتل.
مصباحها عشقها،عصر كل يوم تأتى به من الجامع،تعبئه بالكيروسين،تقص الفتيل وتهذبه،تغسل زجاجته وتمسحها ، أبدا لم تمسحها بطرحتها المتسخة،كانت تقتنى فوطة بيضاء ناصعة كقلوب المؤمنين،برفق تمسح بها الزجاجة وتترنم.
لم تنقطع عن عادتها حتى فى أيام المرض،فقط كانت تتأخر قليلا،نشاهدها عند الغروب تمشى فى الدرب،تعصب رأسها وتتوكأ على العصا والمصباح فى يدها،تصل إلى الجامع والمصلون سجود،وعندما يرفعون جباههم يعم الضياء.
تبعث أحيانا تشترى الجاز من الدكان فلا تجد،فتجمع البقايا من مصباح البيت وموقد الكيروسين،تنقيها من الرواسب بعد أن تصبها فوق خرقة قديمة،يضرب زوجها الباب بالعصا ويصيح"ونبيت فى الظلام" فتقول بهدوء"قمرة ربنا طالعة" وفى الليالى غير المقمرة تتلألأ النجوم فوق البيت الصغير.
يوما من الأيام ماجت القرية بالحركة،وقفت عربة كبيرة فوق الجسر،نزل منها رجال غرباء يحملون فوق أكتافهم أعمدة حديدية راحوا يدقونها فى دروب القرية،زغردت النساء وهلل الأولاد ومشى العمدة بين الرجال يلملم أطراف قفطانه ويتلقى التهانى،تساءلت فألقوا فى مسامعها كلمة لم تتبينها،أصغت إليهم مرارا وهم يعيدون حتى انفجروا ضاحكين،فانصرفت عنهم وقد ظنت أن الأمر لايعنيها.
بعدما مدوا الأسلاك وقفت تتطلع إليها وقد ظللت بكفيها عينيها،كانت الأسلاك تلمع فى ضوء الشمس بينما يتنامى داخلها هاجس غامض،ظلت تتأمل طويلا،تنتقل من عمود إلى عمود،تضع راحتها على الأعمدةفتلسعها،ولأنها لم تلبس أبدا حذاء فقد تلظت أقدامها فوق التربة الساخنة،هربت،جرت،وانكفأت فى الطريق.
كان جسمها ساخنا ورغم ذلك لعلع صوتها بالغناء وهى تغسل زجاجة المصباح.
فوق الجبل الغربى كانت الشمس قرصا دمويا،بينما تحمل مصباحها مملوءا لآخره بالكيروسين،مغسولة زجاجته،شفافة تعكس داخلها قرص الشمس الغارب،سقطت الشمس خلف الجبل عندما اقتربت من الجامع،قال لها الأولاد العائدون من الحقول:
_ رايحة فين يا خالة "حجازية"؟ الكهربا دخلت الجامع.
الكلمة الشيطانية التى طالما سمعتها خلال الشهور الأخيرة،بينما هى تخطو عتبة الجامع عم داخله ضوء مبهر،رفعت عينيها إلى السقف فإذا شمس صغيرة تتدلى،سقط من يدها المصباح وتطايرت أجزاؤه شظايا،غطت عينيها بكفيها وانقلبت على عقبيها راجعة،رآها أحد الأولاد تغطى وجهها وتتخبط فى الدرب فقادها إلى البيت.
عندما رفعت كفيها لم تر إلا الظلام،وباء طبيب المركز بالفشل فاستسلمنا لقضاء الله..ولم يعد يراها أحد خارج الدار.
وطعنت فى السن حتى أنهم عندما علقوا الميكروفون فى المئذنة كان قد أصابها الصمم.
* * * * *

الإدارة المشاركات : 221

رائع صديقي

وارحب بك
واتمنى ان نشاهدك بيننا دائما
نحياتلك

[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]

الإدارة المشاركات : 3446 . :

نرحب حضورك بيننا

لك تحياتي

ومزيد من العطاء

محرر المشاركات : 173 . :

[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]مررت من هنا