سأحاولكِ مرّة أخرى” جديد ريتا عودة عن بيت الشعر الفلسطيني
صَدرتْ مؤخرًا مجموعةٌ شعريةٌ جديدةٌ للشّاعرةِ والقاصّةِ الفلسطينيّة ريتا عودة بعُنوان: “سَأُحاولكِ مرّةً أُخرى” عن بيتِ الشّعر الفلسطينيّ في رام الله. وقَعتْ المجموعةُ في (108) صفحاتٍ من القطعِ المتوّسطِ الجديدِ، وأَهدتها: “إلى اللّغةِ التي كلّما حاولتُها باغَتتني باحتمَالاتِها”، وتَميّزت بوجودِ (14) نصًّا تحتَ عنوان “ومضات”، إضافةً للنّصوصِ الأخرى.
نقرأُ في بدايةِ المجموعةِ ما لم يَعتبرهُ الشّاعر محمّد حلمي الرّيشة تقديمًا أو عتبةً، تحتَ عنوان: “قبلَ ارتكابِ الشّهدِ بقليلٍ”، وتتركّزُ كتابتهُ على محورينِ مُتماهيّين: الأوّل يتعلّق بطريقتهِ في قراءةِ الشّعر، والثّاني يتعلّق باللّغةِ الشّعريةِ، ويُجري تَطبيقًا لهذينِ المحورينِ على إحدى قصائدِ المجموعةِ. يقول:
“عَلَّمَنِي السَّيِّدُ الشِّعْرُ، حِينَ أَذْهَبُ إِلَيْهِ قَارِئًا، أَنْ أَكُونَ قَدْ تَرَكْتُ، قَبْلَ الْوُصُولِ إِلَى عَتَبَتِهِ الأُولَى، كُلَّ مَا أَسْتَطِيعُ مِنْ مَوْرُوثَاتِي الثَّقَافِيَّةِ، أَيًّا كَانَتْ فِي مُحْتَوَيَاتِهَا الرُّؤْيَوِيِّةِ، أَوِ الاسْتِشْرَافِيِّةِ، بِاعْتِبَارِي مُقْبِلٌ نَحْوَ بَرَاءَةٍ شِعْرِيَّةٍ جَدِيدَةٍ، وَأَنْ أَكُونَ قَدْ أَخْفَيْتُ ذَاكِرَتِي تَحْتَ رِدَاءٍ حَرِيرِيٍّ أَبْيَضَ، فِيمَا يُشْبِهُ المَحْوَ، وَذلِكَ لأَنَّ أَقْسَى قِرَاءَةٍ لِلشِّعْرِ، هِيَ الْقِرَاءَةُ الَّتِي تُمَرِّرُ النَّصَّ بَيْنَ حَوَافِّ أَسْنَانِ فَكَّيِّ الْفِكْرِ المُتَجَلِّطِ، أَوِ الْقَوَالِبِ الصَّامِتَةِ فِيمَا يُشْبِهُ الزُّورَ، فَيَتَفَتَّتُ الشِّعْرُ قَبْلَ إِنَائِهِ، وَهُوَ لَمْ يَزَلْ عَلَى شَفَا شَفَتَيِّ الْقَارِئِ أَوِ النَّاقِدِ أَوْ…، لِهَذا أَجِدُنِي، كَمَا عَلَّمَنِي صَاحِبُ الْحُدُوسِ، وَالاسْتِشْرَافِ وَالرُّؤَى، مَأْخُوذًا بِحَنَانٍ أُنْثَوِيٍّ نَحْوَهُ، أَقْرَؤُهُ مِنْ خَارِجِهِ وَمِنْ بَاطِنِهِ فِي آنٍ؛ بِبُطْءِ سُلَحْفَاةٍ نَشِيطَةٍ، لاَ بِسُرْعَةِ أَرْنَبٍ يُرِيدُ أَنْ يُدْرِكَ الْفَهْمَ كَغَايَةٍ ابْتِدَائِيَّةٍ نِهَائِيَّةٍ، بِقَفَزَاتٍ (سِيرْكِيَّةٍ)، وَدُونَ أَنْ يُدْرِكَ، قَبْلَ أَيَّةِ غَايَةٍ، تِلْكَ الطَّاقَةَ المُذْهِلَةَ السَّاحِرَةَ الَّتِي تَرْفَعُهُ مِنْ إِبْطَيْهِ، لِتُحَلِّقَ بِهِ فِي فَضَاءَاتٍ تُحَرِّكُ كِيمْيَاءَ المَخْيَلَةِ نَحْوَ اسْتِعَادَةِ حَالَةِ النُّشُوءِ/ النَّشْوَةِ الأُولَى لَدَى شَاعِرِهِ. مِنْ هذَا رَأَيْتُ وَأَرَى، أَنَّ الشِّعْرَ يَكُونُ شِعْرًا، إِنْ نَبَتَ وَأَيْنَعَ فَآتَى أُكُلَهُ فِي حَدِيقَةِ حَوَاسِّ الشَّاعِرِ كُلِّهَا، المَرْئِيَّةِ وَغَيْرِ المَرْئِيَّةِ، وَدَخَلَهَا قَارِئُهُ مُضَاءً بِحَوَاسِّهِ نَفْسِهَا، أَيْضًا.”
وحولَ اللُّغةِ الشّعريةِ يقولُ الشّاعرُ الرّيشة: “بِمَا أَنَّ الإِنْسَانَ لُغَةٌ، فِي إِحْدَى مُكَوِّنَاتِهِ، فَإِنَّ أَوَّلَ جَاذِبِيَّةٍ إِلَى النَّصِّ الشِّعْرِيِّ، فِيمَا تَيَقَّنْتُ مِنْهُ، هِيَ لُغَتُهُ؛ هُوِيَّتُهُ الْجَمَالِيَّةُ الأُولَى، إِذْ فِي هذِهِ دَافِعٌ/ مُحَفِّزٌ/ مُثِيرٌ/ إِغْوَاءٌ… نَحْوَ وُلُوجِ أَبَدِ اللَّحْظَةِ الشِّعْرِيَّةِ؛ هذِهِ اللَّحْظَةِ الْمَنْشُودَةِ، وَالْحَيَوِيَّةِ، وَالْمُمْتَدَّةِ بَيْنَ رَعْشَةِ الْقَلْبِ وَفَضَاءِ الْمَخْيَلَةِ الْعَارِمِ، لِذَا لاَ شِعْرَ دُونَ خُرُوجِ لُغَتِهِ مِنْ مُعْجَمِ الْمَعْنَى إِلَى التَّشْكِيلِ الصُّوَرِيِّ الْبَاعِثِ عَلَى رَجْفَةِ الدَّهْشَةِ، وَالَّذِي يَهْتِكُ غِشَاءَ الْمَخْيَلَةِ مُحَرِّكًا فَوَاعِيلَهَا مِنْ آنِيَّةٍ زَمَنِيَّةٍ شِبْهَ مُدْرَكَةٍ، إِلَى آنِيَّةٍ هُلاَمِيَّةٍ مُسْتَقْبَلِيَّةٍ فِي آنٍ. هُنَا يَتَجَلَّى الْمَعْنَى اللاَّوَاعِي لَدَى الشَّاعِرِ فِي قَارِئٍ خَلاَّقٍ لَهُ عَيْنٌ لُغَوِيَّةٌ ثَالِثَةٌ، تَمَامًا مِثْلَمَا لِلشَّاعِرِ تِلْكَ الْعَيْنُ الثَّاقِبَةُ لأَبْعَدَ مِنْ عَيْنِهَا الـ (زَّرْقَاءِ).”
“ثَمَّةَ هُنَا، أَيْضًا، مَا يُحِيلُ الْبَرَاءَةَ مُسْتَبِدَّةَ الْمَعْنِى إِلَى جَمَالٍ وَحْشِيٍّ، يُطِيلُ الإِصْغَاءَ الرُّؤْيَوِيَّ لِلصَّوْتِ الْمَهْمُوسِ مِنْ دَاخِلِ الشَّاعِرِ إِلَى دَاخِلِ قَارِئِهِ الْخَاصِّ، وَالَّذِي يُعْنَى بِبُلُوغِ مَا بَعْدَ حَافَّةِ طَمَأْنِينَةِ الْمَعْنَى الظَّاهِرِيِّ الْمَجْدُولِ بِالصَّوَابِ الْمُفْتَرَضِ، آمِلاً وُصُولاً إِلَى جَوْهَرِيَّةِ مِعْرَاجِهِ الْجَمَالِيِّ، بَعْدَ أَنْ هَزَّتْهُ، لِحِينٍ مَا، الصَّدْمَةُ الأُولَى الْقَابِضَةُ عَلَى شُتُولِ مَشَاعِرِهِ، لِتَسْتَقِرَّ بِهِ دَاخِلَ غَيْبُوبَةِ دَهْشَةٍ فِي لاَ مُنْتَهَاهَا.”
ويُضِيفُ: “لاَ أَعْتَقِدُ بِوُجُودِ لُغَةٍ بَسِيطَةٍ وَأُخْرَى مُعَقَّدَةٍ، كَمَا اصْطَلَحَ الدَّارِسُونَ، وَالنُّقَّادُ، وَ…، عَلَى هَاتَيْنِ التَّسْمِيَتَيْنِ. ثَمَّةَ، فِيمَا أَرَى، لُغَاتٌ عِدَّةٌ لاَ يُمْكِنُ وَصْفُهَا بَسِيطَةً أَوْ مُعَقَّدَةً، وَكَثِيرًا مَا أَصْطَدِمُ بِهذَا التَّصْنِيفِ، وَكُنْتُ أُحَاوِلُ أَنْ أَفْهَمَ هَاتَيْنِ اللُّغَتَيْنِ، لكِنِّي لاَ أَذْكُرُ أَنَّنِي وَجَدْتُ هَاتَيْنِ اللُّغَتَيْنِ الْمُحَدِّدَتَينِ فِي أَيَّةِ قَصِيدَةٍ، أَوْ أَيِّ نَصٍّ إِبْدَاعِيٍّ، بَلْ أَذْكُرُ أَنَّنِي وَجَدْتُ، وَلَمْ أَزَلْ، أَنَّ اللُّغَةَ لَيْسَتْ وَاحِدَةً أَوِ اثْنَتَينِ فِي مُعْظَمِ النُّصُوصِ؛ ثَمَّةَ لُغَةٌ لَوْنِيَّةٌ، وَتَرْكِيبِيَّةٌ، وَكَمَائِنِيَّةٌ، وَانْشِطَارِيَّةٌ، وَبَارِدَةٌ، وَدَافِئَةٌ، وَدَاكِنَةٌ، وَوَرْدِيَّةٌ… وَهكَذَا، وَالشَّاعِرُ الَّذِي يَعْمَلُ عَلَى إِتْقَانِ شِعْرِهِ، يَجْمَعُ، بِشَكْلٍ لاَ إِرَادِيٍّ، كُلَّ مَا أَتَاهُ مِنْ لُغَاتٍ أَثْنَاءَ النَّصِّ عَلَى الْبَيَاضِ. لِهذَا، فَلاَ يُمْكِنُ قِرَاءَتُهُ قِرَاءَةً وَاحِدَةً، أَوْ حَتَّى ثُنَائِيَّةً فَقَطْ، بَلْ عِدَّةَ قِرَاءَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ فِي مَكَانِهَا وَزَمَانِهَا، وَحَالاَتِ قَارِئِهَا الْعَامِلِ عَلَيْهَا، لأَنَّهُ فِي كُلِّ قِرَاءَةٍ ثَمَّةَ تَوَالُدُ لُغَاتٍ مِنْ لُغَاتٍ طِوَالَ فِعْلِ الْقِرَاءَةِ الْمُبْدَعِ.”
وعنْ قراءتهِ اللُّغوية للمجموعةِ يقول: “وَحَيْثُ أَنَّ الشَّاعِرَةَ تُقَدِّمُ إِهْدَاءً مَجْمُوعَتَهَا الشِّعْرِيَّةَ (إِلَى اللُّغَةِ…)، فَإِنَّنِي وَجَدْتُ أَنْ أُشِيرَ إِلَى تَعَدُّدِ/ تَنَامِي لُغَتِهَا الأُحَادِيَّةِ/ الظَّاهِرِيَّةِ إِلَى لُغَاتٍ عِدَّةٍ، وَضِمْنَ نَصٍّ شِعْرِيٍّ وَاحِدٍ، فَكَانَتْ ثَمَّةَ لُغَةٌ اسْتِدْرَاجِيَّةٌ: عَلَى مَهْلٍ/ أَرْتَشِفُ الشَّايَ الْبَارِدَ/ بِالنَّعْنَاعِ الأَخْضَرِ../ عَلَى مَهْلٍ/ أُرَاقِبُ الطُّيُورَ فِي الأُفُقِ../ فِي الْوَقْتِ مُتَّسَعٌ/ لانْفِجَارِ وَمْضَةٍ شِعْرِيَّةٍ.
وَلُغَةٌ نَرْسِيسِيَّةٌ: السُّنُونُوَّةُ الْمَجْبُولَةُ مِنْ طِينِ الْحَنِينِ/ الْمَنْسُوجُ حُلُمُهَا مِنْ حَرِيرِ الْحُبِّ/ الْمَنْذُورَةُ لِلسَّحَرِ، وَالزَّهْرِ، وَالْحِبْرِ/ .. أَنَا…
وَلُغَةٌ تَشْيِيئِيَّةٌ: فَوْقَ رُقْعَةِ الشَّوْقِ/ أَلْقَى حَجَرَ النَّرْدِ/ فَاسْتَقَرَّ بِالْقُرْبِ مِنْ قَلْبِي.
وَلُغَةٌ مُسْتَحِيلَةٌ: أَبْحَثُ عَنْكَ/ كَمَا تَبْحَثُ إِبْرَةٌ فِي كَوْمَةِ قَشٍّ عَنْ خَلاَصِهَا.
وَلُغَةٌ تَحَايُلِيَّةٌ: قَدْ يَحْدُثُ؛/ أَنْ تُجِيدَ الْغَزَالَةُ السَّيْرَ/ إِلَى الصَّيَّادِ الْمُحْتَرِفْ/ وَإِرْبَاكَهُ تَقْتَرِفْ/ بِسَهْمِ الدَّلاَلِ.
وَحِينَ اجْتَهَدْتُ فِي قِرَاءَةٍ لُغَوِيَّةٍ أُخْرَى، فَإِنَّنِي وَجَدْتُنِي بَيْنَ لُغَةٍ تَنَاثَرَتْ فُسَيْفِسَائِيًّا بَيْنَ تَعَابُقِ الْكَلاَمِ الْمَشْهُودِ، وَالصُّرَاخِ الصَّامِتِ، وَالْوَحْشَةِ الْحَمِيمَةِ، وَالشَّتَاتِ الْمُغْوِي، وَالْحُرْقَةِ الْمُرَمَّدَةِ وَ…، كُلُّ هذِهِ وَتِلْكَ يَفْضَحُهَا بِحَنَانٍ (سِينُ) سَوْفَ، وَيُعَرِّيهَا تَوَحُّدُ الذَّاتِ الشَّاعِرَةِ مَعَ الذَّاتِ الْمَكْلُومَةِ بِكِبْرَيَاءٍ، حِينَ الآخَرُ قَدْ تَحَوَّلَ عَابِرًا خَبَرَهُ الْعِشْقِيَّ نَحْوَ نَدَّاهَةٍ تُخْفِيهِ بَاطِنَ غُمُوضِهَا الشَّهِيِّ، وَلاَ مَفَرَّ أَمَامَ الشَّاعِرَةِ مِنْ طَلَلٍ مُرَطِّبٍ بِدُمُوعٍ مِلْحِيَّةٍ، وَنُزُلِ حَشْرَجَةٍ مُرَبَّعَةِ الْوَقْتِ تَتَرَجْرَجُ مِنْ زَاوِيَةٍ لِتَوَائِمِهَا، فَتَهْرَعُ نَحْوَ إِعَادَةِِ صِيَاغَةِ مَا نَفَضَتْهُ ذَاكِرَتُهَا مِن مَوْرُوثَاتٍ بِطَرِيقَتِهَا الْخَاصَّةِ، وَابْتِدَاعِ أَفْكَارٍ بِرُؤًى فَلْسَفِيَّةٍ، كَأَنَّهَا تُحَاوِلُ تَحْقِيقَ فُرُوسِيَّةٍ، وَلَوْ شَمْعِيَّةٍ، عَلَى عَابِرِهَا الْمُتَجَاهِلِ، كَانْتِصَارٍ لِلأَنَا الْمَشْرُوخَةِ مِثْلَ صَدَى مِرْآةٍ، وَبِأُسْلُوبٍ لُغَوِيٍّ كَثِيفِ الأُلْفَةِ، يُعِيدُكَ لِقِرَاءَةِ كِبْرِيَائِهَا الْمُشَبَّهِ لَهَا.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
يُذكرُ أنّه كانَ صدرَ للشّاعرةِ والكاتبةِ:
ثورةٌ على الصّمتِ (1994).
مَرايا الوهمِ (1998).
يوميّاتُ غجريّةٍ عاشقةٍ (2001).
ومَنْ لا يعرفُ ريتا (2003).
قبلَ الاختناقِ بدمعةٍ (2004).
وكذلكَ لها إصداراتٌ إلكترونيّة: طُوبى للغرباءِ/ رواية.
بنفسجُ الغربةِ/ رواية. أبعدُ مِن أنْ تطالَني يدٌ/ مجموعةٌ قصصيّةٌ