دمشق في العصر البيزنطي ـــ بشير زهدي
لمحة تاريخية موجزة عن عصر الإمبراطورية الرومانية الشرقية (البيزنطية):اعتبر بعض المؤرخين بداية تاريخ الإمبراطورية الرومانية الشرقية (البيزنطية) في عهد الإمبراطور (قسطنطين الكبير 274- 337) الذي أسس مدينة (روما الجديدة) في موقع (بيزنطة) في 11 مايس 330م. دون أن يكون هناك أية قطيعة بين (روما) و (القسطنطينية) اللتين اعتبرت كل منهما متممة للأخرى طوال ثلاثة قرون. وكانت أزمات القرن الثالث قد قلبت أسس الإمبراطورية الرومانية وأوضحت خطر غزوات البرابرة والجرمان. فكان لابد للإمبراطورين (ديوكليسيان) و (قسطنطين) من القيام جدياً بإصلاح عام. وكان الإمبراطور عصرئذٍ كالرب يعبد بطقوس شرقية. وكانت الإمبراطورية الرومانية تحكمها سلالة حاكمة حكماً مطلقاً. وقد ظهرت مشاكل الدفاع عن الحدود الإمبراطورية، وقضايا وراثة العرش... وضرورة الحكم الرباعي (أوغستان، وقيصران) للإمبراطورية الرومانية في الشرق والغرب. ولكن الإمبراطور (قسطنطين الكبير) استطاع أن يحتكر السلطة لمصلحته، ويصبح سيد الغرب بعد انتصاره على خصمه الإمبراطور (ماكسانس) في (بونت ميلفيوس) عند أسوار روما في عام 312، ويصبح سيد الشرق بعد انتصاره على خصمه (ليكينيوس) واستطاع أن يجعل الإمبراطورية الرومانية ذات طابع مسيحي وشرقي. وكان صهر الإمبراطور ديوكليسيان (جالير 305-311) قد حرص على إعلان التسامح Edit de tolérence عام 311. وأصدر قسطنطين إعلان ميلان I,Edit de Milan الذي تقررت به حرية العبادة. والجدير بالذكر أن المؤرخين يذكرون أن قسطنطين بينما كان متجهاً في حملته الحربية ضد خصمه (ماكسانس) ظهر له في الفضاء صليب مع عبارة (In hoc signo vinces ستنتصر بهذه العلامة) فرسم شارة (الصليب) على (رايته Labarum). وهناك من يذكر اعتناقه المسيحية في نحو عام 323م في حين أن الآخرين من المؤرخين يتحدثون عن ميله إلى المسيحية منذ عام 320م وتعميده قبيل وفاته. وعند وفاته اعتبرته الكنيسة أحد قديسيها. وفي الواقع اعترف بالمسيحية كديانة شرعية ومنحها امتيازات جعلتها قوية فقضت على الوثنية نهائياً. وهكذا استلم قسطنطين الإمبراطورية الرومانية وثنية فجعلها مسيحية. واعتبر المؤرخون تأسيس مدينة روما الجديدة (القسطنطينية) حدثاً تاريخياً بارزاً. ورغم أنه لم يحرم (روما) من مكانتها، فإنها لم تعد العاصمة الفعلية بعدما جعل معها عاصمة ثانية (روما الجديدة –القسطنطينية) تمثل الحياة والمستقبل، مقابل الانحطاط والماضي... مما أكد انتصار الشرق على الغرب، وبشّر بظهور حضارة جديدة.ويلاحظ المؤرخون بين عهد (قسطنطين الكبير) وعهد (جوستنيان الأول) ظهور عهدين هامين أيضاً هما:-عهد الإمبراطور (تيودوس الأول الكبير 379- 395) الذي اعتبر آخر إمبراطور يحكم فعلاً الإمبراطورية الرومانية في الشرق والغرب.-عهد الإمبراطور (تيودوس الثاني) الذي وسّع العاصمة القسطنطينية وجعلها عاصمة الثقافة بعدما أسس فيها جامعة تضم واحداً وثلاثين كرسياً جامعياً وتدرس اليونانية واللاتينية.ويلاحظ تزايد معارضة الشرق والغرب وبخاصة بعدما تمركزت في الشرق القوى الحقيقية المختلفة الفعالة، وغدا مركز الثقافة والفعاليات المختلفة، ويضم المقاطعات الغنية والمنتجة... الخ... وكان (أوسابيوس 265- 340) قد تثقف في أنطاكية السورية وأصبح صديق الإمبراطور قسطنطين، وعرف كأول مؤرخ كنسي، ويعود إليه وصف ظهور المسيحية وعلاقتها بالدولة. وفي عام 386 انتقل القديس (ايرونيموس) (315- 420) إلى بادية الشام ليعيش حياة العزلة، فاعتبر ذلك بمثابة إسهام في إدخال حياة (الرهبنة) إلى سورية، وتأكيد للاعتقاد بأن في جمال القيم الروحية ما يحبب المرء بالاعتزال عن هذا العالم الفاني، والاستشهاد في سبيل هذه القيم الروحية...).بعد وفاة الإمبراطور (تيودوس الأول الكبير) عام 395م. ظهر بوضوح انقسام الإمبراطورية الرومانية إلى إمبراطورية رومانية غربية يحكمها ابنه (هونوريوس) وإمبراطورية رومانية شرقية (بيزنطية) يحكمها ابنه الآخر (أركاديوس 395- 405).إذا كان (قسطنطين الكبير) أسس إمبراطورية بيزنطية ذات طابع شرقي ومسيحي، فإن على خلفائه حتى عهد الإمبراطور (جوستنيان) الدفاع عن المسيحية ضد النظريات المختلفة الدينية المتعلقة بطبيعة السيد المسيح، والجدير بالذكر أن تلك الخصومات لم تكن لأسباب دينية بحتة، لأنها كانت تتضمن في الواقع أهدافاً ومدلولات سياسية. وهكذا فقد ظهر صراع القسطنطينية والمقاطعات اليونانية من جهة، والمقاطعات التي تبنت مذهب الطبيعة الواحدة (أي سورية ومصر). وقد عقدت مجامع دينية كنسية مختلفة في (القسطنطينية) عام 381 لمواجهة الأريانية، وفي (ايفيز) عام 431 لمعالجة أفكار نسطوريوس وفي (خلقيدونيا) عام 451 للبحث في آراء القائلين بالطبيعة الواحدة (المونوفيزيين)، مما أوضح ما وصلت إليه علاقات الشرق بالغرب، وعلاقة البابا بالإمبراطورية البيزنطية، وعلاقة الإمبراطورية البيزنطية بسورية ومصر. وكان من نتائج المجمع الديني في خلقيدونيا عام 451م نمو الشعور الوطني والقومي في سورية متخذاً مظهراً دينياً وانضم إلى أتباع هذا المذهب في وقت قصير كثير من الناقمين على سياسة الإمبراطورية البيزنطية حتى غدا مذهبهم الديني يعبّر عن وعي قومي وشعور وطني واتجاه البلاد نحو الاستقلال... مما لفت أنظار البيزنطيين إلى خطر نتائج خطأ سياستهم. فحاول الإمبراطور (زينون 474- 491) كسب عطف السوريين والمصريين، ووضع حد لاستيائهم، فأصدر مرسومه Henoticon عام 482 ولكن ذلك كان بدون جدوى. واستمر الإمبراطور (انسطاس 491- 518) على ترضية أتباع مذهب القائلين بالطبيعة الواحدة ولكن بدون جدوى.وكان العرب الغساسنة الذين غادروا بلادهم اليمنية بعد خراب سد مأرب، واتجهوا شمالاً إلى سورية، فالتقوا بإخوانهم العرب من قبيلة بني سليم وغيرهم. واعتبروا أنفسهم خلفاء وورثة العرب الأنباط والتدمريين بعدما أصبحوا أكبر وأقوى قبائل بادية الشام. امتدت منازلهم من العقبة جنوباً حتى الرصافة شمالاً فعهد إليهم الروم البيزنطيون بمهمة الدفاع عن البادية ونشر الأمن فيها وتأمين الحماية لها. فحقق العرب الغساسنة كل ذلك. ووجدوا في المسيحية ما جذبهم إليها وحملهم على اعتناقها فصاروا من أقوى المؤيدين لمذهب الطبيعة الواحدة.وعندما عهد الإمبراطور (جوستينوس الأول) إلى ابن أخيه (جوستنيان) بمهمة حربية لقتال الساسانيين، مر الأمير (جوستنيان) بمدينة منبج السورية التي كان فيها رجل صالح له ابنة اسمها (تيودورا) تميزت بجمال الملامح، وكثرة الذكاء، والأخلاق الفاضلة... حتى قيل عنها... (من المستحيل أن يصف إنسان ما جمال صورتها في كلمات، أو يصوره في آية من آيات الفن)... مما يفسر ولع (جوستنيان) بها، وطلبه يدها من أبيها الذي وافق بشروط أهمها محافظتها على مذهبها... وتم هذا الزواج فعلاً في عام 526م. ووافق عليه أخيراً عمه الإمبراطور (جوستنيوس الأول) الذي منح (تيودورا) لقب (بطريق). فانطلقت ألسنة الحاقدين والحاسدين والفاسدين في اختلاق الأباطيل التي تشوه سمعتها وحقيقة بيئتها الصالحة... في حين أن التاريخ سجل لها صفحات مجيدة وخالدة تحدثت عن سمو تفكيرها ورجاحة عقلها مما جعلها في طليعة مستشاري زوجها الإمبراطور (جوستنيان) وهي التي أنقذت بشجاعتها وجرأتها الأدبية عرشه عندما اندلعت ثورة الحزبين (حزب الأخضر) الذي كان يضم أتباع الإمبراطور البيزنطي السابق (انسطاس)، و (حزب الزرق) الذي كان يتظاهر بتأييده لأسرة الإمبراطور (جوستنيان) الحاكمة. وبلغت هذه الثورة من الخطورة درجة جعلت الحاشية تنصح الإمبراطور (جوستنيان) بالفرار والنجاة بعدما نادى المتمردون بـ (هيباتيوس) إمبراطوراً. فالتفتت (تيودورا) إلى زوجها (جوستنيان) قائلة قولها المأثور: (... إن كل رجل لابد له أن يموت ميتة واحدة. والموت للملك أفضل من العزل والنفي.... أيها الإمبراطور: إذا أردت أن تنقذ حياتك، فليس هناك شيء أسهل من ذلك، فلديك سفنك ولديك البحر. أما أنا، فإني أوافق على القول القديم: الإمبراطورية أحسن كفن للموتى...) فتأثر زوجها (جوستنيان) بكلماتها وعباراتها الشجاعة، فأصدر أوامره لقائده (بليساريوس) بالصمود والهجوم على المتمردين والقضاء عليهم... وكان مهتماً بتحقيق وحدة الإمبراطورية الرومانية والشرقية، وإنقاذ مقاطعاتها من البرابرة، وقد نجح إلى حد ما في استعادة أفريقيا وقسم من إسبانيا والقضاء على عدوان (الأوسترجوتيين) في إيطاليا... مما لفت نظر كسرى الذي أخذ يعد كل ما يلزم للهجوم على الإمبراطورية البيزنطية وتأكيد سيادته على الشرق. وبعدما كان الهجوم الساساني الأول قد صدته قوات القائد (بليساريوس) فإن الساسانيين جددوا هجومهم عام 540م في عهد (كسرى الأول أنوشروان 531- 579). وكان (الحارث الثاني بن جبلة الغساني 529- 569) قد حارب (المنذر الثالث) ملك الحيرة عام 528م ببسالة لفتت أنظار الإمبراطور، وأثارت إعجابه فمنحه لقب (فيلارك) و (بطريق)... وبعدما تحمل كسرى الخسائر الكبيرة في حملته العدوانية على الرها، وافق على وضع حد للحرب عام 545م كما قبل (جوستنيان) بدفع مبلغ كبير من الذهب. وفي عام 563م لبى الحارث الثاني دعوة الإمبراطور (جوستنيان) لزيارة (القسطنطينية) التي استقبل فيها بحفاوة كبيرة. وظهر بين البيزنطيين بملابسه العربية الزاهية والجميلة والمتميزة، ومظهره العربي المهيب... مما لفت الأنظار إليه، وأثار الانتباه نحوه، وترك الأثر القوي في نفوس الجميع مدة طويلة، حتى أن موظفي البلاط كانوا يهدئون الأمير الصغير (جوستنيوس) بقولهم: (اسكت، وإلا استدعينا الحارث...).وكانت (تيودورا) من أتباع (مذهب الطبيعة الواحدة) الذي استطاع أن يجد العطف والرعاية والحماية طوال حياتها. وقد قابلها الملك الغساني الذي كانت زيارته للبلاط البيزنطي خير مناسبة لدعم هذا المذهب، وتعيين (يعقوب البرادعي) أسقفاً لكنيسة القائلين بالطبيعة الواحدة. وكان (جوستنيان) أمر بإعداد مجموعة القوانين (دايجست –الموجز) التي اعتبرت بمثابة (المعبد المقدس للعدالة).اعتبر المؤرخون عظمة الإمبراطور جوستنيان في القرن السادس مثل عظمة مبنى كنيسة القديسة صوفيا، وشبهوا الازدهار في عهده بازدهار آثينا في عهد الملك بيريكليس. تميز بحسه الإمبراطوري للعظمة، اهتم بالغرب والماضي، وحرص على وحدة الإمبراطورية الرومانية الشرقية والغربية، وبذل في سبيل ذلك الجهود والأموال مما أضعف القسم الحي القوي في إمبراطوريته. وكانت زوجته الإمبراطورة المنبجية (تيودورا) تعتبر طموحه الكبير بمثابة (سراب غربي Mirage occidental) وأن المهم هو المقاطعات الشرقية ووجوب الاهتمام بها. فتوفيت متمسكة برأيها، في حين أن زوجها (جوستنيان) اضطر إلى فرض الضرائب وبيع الموارد... وممارسة سياسة العنف والحكم المطلق في سبيل فرض المعتقد الواحد. واستطاعت الدبلوماسية البيزنطية ن تدفع خطر البرابرة عن الإمبراطورية. ولكن وفاته أظهرت أخطاء سياسته. لقد أثار تزايد نفوذ العرب الغساسنة حذر البيزنطيين وتحول إلى جفاء وعداء. وتأثر (المنذر ابن الحارث الغساني) من سوء نوايا الإمبراطور (جوستينوس الثاني) تجاه العرب الغساسنة. ولكن الأخطار الخارجية حملت الطرفين على تسوية خلافاتهما في عهد الإمبراطور الجديد (تيبريوس الثاني 578- 582). واستمر الفرس على شن غاراتهم العديدة منذ عام 572 في عهد كسرى الثاني والملوك البيزنطيين (جوستينيوس الثاني) و (تيبريوس الثاني) و (موريس 582- 602). وقد اضطر كسرى لعقد الصلح مع الإمبراطور البيزنطي (موريس) نتيجة اندلاع حرب أهلية في بلاده وعندما اعتلى العرش البيزنطي (فوكاس 602-610) بدأ عهده بسلسلة من أعمال العنف والفتك بأصدقاء أسلافه وعندما عاد (كسرى الثاني) إلى سياسة الهجوم مكتسحاً سورية مخرباً مدنها عام 608م اتجه القائد (هرقل) إلى القسطنطينية التي توج فيها امبراطوراً في 15 تشرين الأول 611 في فترة حرجة. وكان الساسانيون قد حكموا (الحيرة) بد وفاة (النعمان) فثار العرب ضدهم وضد عميلهم (إياس بن قبيصة 602- 611) فكان أعظم انتصار حققه العرب على الساسانيين في معركة (ذي قار) الشهيرة.اتجه القائد الساساني (شهربرز) إلى سورية الوسطى عام 613 فاستولى على أفاميا وهدمها كما هدم أنطاكية، واستطاع أن يستولي على دمشق ويحتلها. ثم تابع زحفه نحو مدينة (بيت المقدس) التي استولى عليها، وسلب خشبة (الصليب المقدس) التي كانت تعتبر أثمن شيء في هذه الحياة الدنيا.كانت الإمبراطورية البيزنطية قد أصيبت بالضعف منذ عام 556م وقد كثرت الضرائب وحدثت الزلازل وانتشر المرض وأصبح المواطنون في حالة يأس وبؤس. واعتبروا كارثة هذا العدوان والمعاناة المتعددة الميادين بمثابة دلالة على قرب انتهاء الحياة.وجه (كسرى) إلى الإمبراطور (هرقل) رسالة تفيض بالغرور والكبرياء بل والوقاحة، مما جعل الإمبراطور (هرقل) يقسم أن يسير إلى ميدان القتال بنفسه على رأس قواته المحاربة. فاهتم منذ عام 622م بقتال الساسانيين جدياً، وشن ست حملات حربية دامت حتى عام 627م انتهت بهزيمة الساسانيين وانسحابهم للدفاع عن عاصمتهم، في وقت استطاع فيه (هرقل) أن يحرق معابد النار في عاصمة ميديا ومدينة (زردشت).عاد (هرقل) إلى سورية وعاد إليها الحكم البيزنطي بكل مساوئه. وكانت التساؤلات تتردد: من سيكون من جديد سيد العالم ولم يكن هناك من يتوقع بأن القبائل العربية المتقاتلة فيما بينها ستوحدها دعوة محمد r إلى الإيمان بالخالق العظيم وكتبه المقدسة وأنبيائه المرسلين، في فترة بلغ فيها استياء المواطنين درجة جعلتهم يعتبرون أعمال الساسانيين والبيزنطيين بمثابة أعمال قطاع الطرق. وقد تفنّنوا في أعمال السلب والنهب، والظلم والجور، والقتل والفتك... فوجد السوريون في قوة أبناء عروبتهم خلاصاً من يأس نفسي، وتحرراً من ظلم أجنبي.لم ينتبه البيزنطيون إلى أبعاد الحملات العربية الإسلامية، وظنوها كالغزوات العابرة السابقة. واستطاع خالد بن الوليد أن يجتاز أرض فلسطين متجهاً نحو الشمال بطريق الجولان، وحاول البيزنطيون التمركز والصمود في شمال الصنمين في مرج الصفر بدون جدوى. وعندما وصلوا إلى دمشق في محرم 14هـ/ 14 آذار 635م فوجئوا بالعرب المسلمين على أبواب دمشق يحاصرون المدينة ويحولون دون وصول الإمدادات إلى أعدائهم، وقد نصب خالد بن الوليد معسكره قرب الباب الشرقي وجامع الشيخ رسلان حالياً. كان المواطنون ينفرون من الحكم البيزنطي، مما يفسر دعم المواطنين السوريين لأبناء عروبتهم العرب المسلمين، وقيام وفد من وجهاء دمشق يرأسهم الأسقف والمراقب العام للمالية (منصور بن سرجون والد القديس يوحنا الدمشقي المشهور).. وجرت المحادثات لحماية المواطنين من آلام ومعاناة... ويتحدث المؤرخون عن فتح خالد بن الوليد مدينة دمشق ودخوله الباب الشرقي ولقائه مع أبي عبيدة الجراح في منتصف الشارع المستقيم في قصر البريص الغساني في جوار كنيسة المقسلاط... في شهر رجب عام 14هـ/ أيلول 635، وانسحاب البيزنطيين إلى جهة الشمال... كما تحدث المؤرخون عن تفاني المقاتل العربي طالباً الاستشهاد، في حين أن المقاتل البيزنطي كان يحارب دون حماس، وبروح لا مبالاة... وكان المقاتلون العرب في معركة اليرموك ينقضون على خصومهم البيزنطيين بحماس لم يعرفه التاريخ الحربي... وبعد هزائم البيزنطيين المتتابعة، أدرك (هرقل) الحقيقة، وشعر باليأس مما جعله ينسحب أخيراً من سورية ويودعها بكلمات يأس ذكرها المؤرخون. وقد علَّق المرحوم أغناطيوس يعقوب الثالث على موضوع تحرير سورية من الحكم البيزنطي قائلاً: هكذا أفل نجم هرقل المضطهد من سماء سورية غير مأسوف عليه... الخ... فشهدت دمشق وسورية وأقطار الوطن العربي عهداً جديداً وحضارة جديدة تعتبر إحدى الحضارات العالمية.لم نشهد في العصر البيزنطي أي تنظيم عمراني يذكر.. وبقيت دمشق كما كانت في العصر الروماني تضم المدينة القديمة الآرامية والحي المكدوني الجديد يحيط بهما سور تبلغ أبعاده (1500×750م). وهناك أقنية مياه، وقصر –قلعة في الزاوية الشمالية الغربية، وأبواب جميلة ومنيعة، وشارعان رئيسان يجتازان المدينة من الشرق إلى الغرب (Decumanus) عرف باسم الشارع المستقيم، وشارع آخر يصل المعبد بالساحة العامة (الآجورا- الفوروم). وهناك الملعب هيبودروم) مكان المرج، والسيرك (مكان شارع بغداد). ظهر في العصر البيزنطي عنصر معماري جديد هو (الكنيسة). وإذا كانت دمشق –مثل أنطاكية ودوراً أوروبوس- شهدت الكنيسة السكنية عندما كان عدد المسيحيين من مواطنيها قليلاً، مما جعلهم يستخدمون أحد مساكنهم ككنيسة سكنية، فإن المرحلة التالية تطلبت تحويل المعابد الوثنية (مثل معبد جوبيتر الدمشقي) إلى كنيسة عرفت باسم (كنيسة يوحنا المعمدان). وخلدوا السيدة مريم العذراء بتشييد مبنى الكنيسة المريمية التي تعتبر من أقدم وأهم الكنائس الدمشقية وهناك (كنيسة المصلبة)... وغيرها...كما شيد الدمشقيون في العصر البيزنطي الأديرة الضخمة والجميلة التي من أهمها (دير مران) في سفح جبل قاسيون، في موقع يطل على (الربوة). وقد تميز هذا الدير بحجارته الكلسية البيضاء التي تبدو دائماً كالضاحكة لأشعة الشمس. وكان يغطي أرضه البلاط الجميل الألوان. وكان هيكله يضم صورة دينية ذات أهمية فنية وقيمة جمالية، مما جعلها توصف بالصورة العجائبية، تثير في نفوس مشاهديها مشاعر وجدانية وإيحاءات روحية مختلفة، وقد تغنى به أحد الشعراء قائلاً:
يا صباحاً بدير مران راقا
|
|
هجت منا القلوب والأحداقا
|
ومشت نسمة تؤمك حتى
|
|
رفعت بالعبير فيك رواقا
|
ونظرنا من ربوة الشام مرأى
|
|
قلبنا لم يزل له مشتاقا...
|
كما كان هناك دير قرب الباب الشرقي عرف فيما بعد باسم (دير خالد). وشيد في ضواحي دمشق أجمل الأديرة والكنائس في صيدنايا، ومعلولا، ويبرود والنبك، و... غيرها. ويعتبر (دير مار موسى الحبشي) قرب النبك و (دير مار يعقوب) في ضاحية (قارا) من أجمل الأديرة المتميزة برسومها الجدارية الجميلة بألوانها وصورها والهامة بمواضيعها الدينية الوثائقية.وهناك مباني القصور الجميلة الدمشقية التي تعود إلى العصر البيزنطي وأخص بالذكر منها (قصر هرقل) في سفح جبل قاسيون، في موقع يعرف باسم (النيربين). وقد عرف هذا القصر في العصر السلجوقي باسم (قصر شمس الملوك). وهناك قصر اكتشف في (حي الحريقة)، تميز بجمال لوحة الفسيفساء فيه.وكان للعرب الغساسنة في دمشق قصورهم الجميلة من أهمها (قصر البرص) الذي ورد ذكره في شعر الشاعر العربي (حسان بن ثابت) مادحاً أمراء العرب الغساسنة قائلاً:
لله در عصابة نادمتهم
|
|
يوماً بجلق في الزمان الأول
|
يسقون من ورد البريص عليهم
|
|
بردى يصفق بالرحيق السلسل
|
وقد حدّد بعض الباحثين والمؤرخين موقع هذا القصر عند (المقسلاط) وسط الشارع المستقيم، قرب الكنيسة المريمية.وتميزت دمشق بفعالياتها المختلفة السياسية والحربية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية وغيرها.. تركت ذكرياتها وآثارها المختلفة.فهناك قصة (شاؤل/ بولس) ومطران دمشق (حنانيا) وموضوع (الرؤيا) على طريق دمشق) وقصة الفتاة القديسة (تقلا) التي التجأت إلى أحد كهوف معلولا، وقصة السيدة الدمشقية التي هجرت مظاهر البذخ والترف في دمشق لتعيش منعزلة في صيدنايا... الخ..وهناك روائع فنون النحت (مثل منحوتة جذع فتاة من حجر الجير، اكتشفت في حي الحريقة بدمشق) وروائع فن الفسيفساء (مثل لوحة الفسيفساء المكتشفة في أحد القصور في حي الحريقة، ولوحات فسيفساء اكتشفت في دير العدس تمثل قافلة مؤلفة من رجل يقود عدة جمال... الخ...) وروائع فن الرسم الجداري المكتشفة في (دير مار يعقوب) قرب قارا، و (دير مار موسى الحبشي) قرب النبك.وهناك روائع الفنون التطبيقية من العصر البيزنطي وأخص بالذكر منها الآثار الفخارية والزجاجية والحلي الذهبية التي تدل على تقاليد فن الصياغة الذهبية في دمشق، وهناك بقايا خيوط ذهبية لثوب أميرة من البروكار "اكتشفت في منطقة بانياس... وهناك الأحجار الثمينة (مثل الياقوت واللّعل والزمرد واللؤلؤ... الخ...) المكتشفة في بانياس وغيرها... وهناك صناعة الأسلحة الدمشقية منذ عصر (ديوكليسيان) وصناعة النسيج الدمشقي. وهناك مجموعات النقود البرونزية الدمشقية من العصر البيزنطي. على الوجه: صورة نصفية أمامية للإمبراطور البيزنطي، وعلى الظهر: حرف M بحجم كبير.وفي الأسفل الحروف الأولى من اسم دمشق DAM أضف إلى ذلك أحياناً تاريخ سك النقود وذلك بالحروف. وفي المتحف الوطني بدمشق مجموعة من هذه النقود البرونزية الدمشقية. وقد تابعت دور السك الدمشقية عملها فسكت نقوداً معدنية للدولة العربية الجديدة، محتفظة بتقاليدها القديمة المتعلقة بسك النقود، بل وبإدارتها. ويعتقد أن (سرجيوس/ سركيس) الذي كان مدير المالية الدمشقي في عهد الإمبراطور البيزنطي (هرقل) قد تابع قيامه بوظيفته نفسها في العهد العربي الإسلامي الجديد في دمشق وقد تميزت هذه النقود البرونزية الجديدة بما يلي: على وجه النقد البرونزي: صورة أمامية للخليفة بمظهر قيصر وفي يده سيف طويل مستقيم وعبارة (أمير المؤمنين) بالحروف العربية، وعلى خلف هذا النقد البرونزي: حرف M بحجم كبير مع كلمة (دمشق) بالحروف العربية، تؤكد سلامة هذا النقد قانونياً.وهناك فعاليات ثقافية أنجبت أعلاماً عالميين مثل (يوحنا الدمشقي) الذي تحدث عن الصور المقدسة قائلاً إن أيدينا عاجزة عن تغيير الحدود التي رسمها آباؤنا: إنما نحن نحافظ على تقاليدنا الموروثة. ومن أجل هذا، نسأل عباد الله المؤمنين أن يحافظوا على التقاليد الروحية. فإن فقداننا ما أعطينا بالتدريج من شأنه أن يقوض الدعائم الأساسية، وهو آت على البناء بأكمله في وقت ليس بالقصير...وكان من أقوال (القديس باسيل 329- 379): ينبغي علينا أن نعاشر الشعراء والمؤرخين والخطباء وكل الرجال الذين نظفر منهم بأي عون لتثقيف أرواحنا...)... وكان هناك من يحدد المطالب التعليمية بما يلي: نحن في حاجة إلى نوعين من التعليم: 1-مسيحي. 2-وثني. فنكسب من الأول فائدة للروح، ونتعلم من الثاني سحر الكلمات... وهناك من وجد في الصور إيحاءً يبعث في الذهن ذكرى أشياء سماوية..ولابد أن يكون في كنائس دمشق وأديرتها وقصورها مخطوطات مختلفة عثر على بعضها في (قبة الخزنة) في الجامع الأموي بدمشق وحفظت في المتحف الوطني بدمشق تتضمن نصوصاً دينية وليتورجية باللغة السريانية وبخط جميل يدل على مدى الاهتمام بفن الخط.والخلاصة:مما تقدم تبدو أهمية دراسة تاريخ (دمشق في العصر البيزنطي) لأن هذه الدراسة جزء من تاريخ دمشق عبر العصور، ولأن بلادنا أسهمت عصرئذٍ في مختلف ميادين الحياة الثقافية والاقتصادية والاجتماعية والدولية.وإن مبانينا التي تعود إلى ذلك العصر تدل على مدى اهتمام شعبنا بالمحافظة على تراثه الحضاري من مختلف العصور. كما أن آثارنا المختلفة التي تعود إلى ذلك العصر مازالت محفوظة في متاحفنا التي تبدو بمثابة منبر للحضارة ومعهد للبحوث العلمية وجامعة شعبية للجميع.*المراجع العربية:-د.سليم عبد الحق: محاضرات في التاريخ البيزنطي (أملية العام الجامعي 1953- 1954).-د.نبيه عاقل: الإمبراطورية البيزنطية –دمشق 1969.-بشير زهدي: دمشق وأهميتها العمرانية والمعمارية عبر العصور (سلسلة محاضرات جمعية أصدقاء دمشق 1982).-نورمان بيز: الإمبراطورية البيزنطية. تعريب: د.حسين مؤنس ومحمود يوسف زايد –القاهرة 1957.-أومآن: الإمبراطورية البيزنطية –تعريب: د.مصطفى طه بدر- دار الفكر العربي- مطبعة الاعتماد بمصر.-ستيفن رنسيمان: الحضارة البيزنطية: ترجمة: عبد العزيز توفيق جاويد –سلسلة 1000 كتاب القاهرة 1961.-فيليب حتي: تاريخ سورية ولبنان وفلسطين –ترجمة: حداد ورافق- دار الثقافة- بيروت 1958.*المراجع الأجنبية:-BACHIR ZOUHDI: La contribution de la Syrie a la Creation de I’art chretien 1974.
-P. LEMERLE: Le Style Byzantin, Paris 1946.
-P. LEMERLE: Histoire de Byzance, P.U.F. 1948.
-LOUIS BREHIER: La Civilisation Byzantine Ed. A. Michel 1970.
-S.RUNCIMAN: La Civilisation Byzantine, Payot. 1.
-A.DUCELLIER: Les Byzantins (Le Temps qui court) 1963.
-DAVID TALBOT RICE: Byzantin (Art A. Pelican Book) 1962.
awu-dam.org/trath/55-56/turath55-56-010.htm