ترجمة / هل يستطيع الشعر أن يغيّرنا... ويغيّر العالم؟ (2)
|بقلم مارغريت راندال|
ترجمة وتعليق حمد العيسى
كل الشعراء وقراء الشعر يطرحون السؤال التالي باستمرار: «هل يستطيع الشعر أن يغيرنا ويغير العالم؟» وقد يُطرح السؤال نفسه بطرق أخرى، ولكن هدف ذلك التساؤل لا يتغير!
بالطبع، يحق لنا أن نسأل: هل يستطع الشعر أن يكون مهما على نطاق عالمي شامل، وهل لديه القدرة على تغيير أو حتى التأثير على طريقة تفكيرنا أو إحساسنا، أو ما نعتقده، أو كيف نتصرف، أو حتى ما نريده لأنفسنا والآخرين؟ وهل يمكنه أن يكسب قلب الحبيب؟ وأن يحفظ أطفالنا بسلام؟ وأخيراً: هل يمكنه عكس «تغير المناخ»؟ أو إطعام الجائعين؟ أو يساند بفعالية العدالة أو يرفع الظلم؟، أو ينهي الحروب؟ والأهم للغاية: هل يستطيع الشعر أن يحقق السلام الدائم بين الشعوب؟
السؤال ليس سطحيا كما قد يبدو للوهلة الأولى ليكون حول ما إذا كانت قصيدة مفردة أو مجموعة من القصائد كانت بالفعل مهمة للناس على مر التاريخ. بالطبع، لقد كانت القصيدة وكان الشعر مهمين ومؤثرين بقوة.
هناك أمثلة متنوعة وأكثر من قدرتنا على الإحصاء لهؤلاء الشعراء المهمين المؤثرين: سافو، باشو، نجوين دو، مولانا جلال الدين الرومي، سيزار فاييخو، بابلو نيرودا، ناظم حكمت، ريلكه، «هو شي منه»، والت ويتمان، ألن غينسبرغ، أدريان ريتش، جون جوردان، والشاعرة جوي هارجو! هؤلاء فقط نماذج من هؤلاء الشعراء المؤثرين الذين لا تزال أعمالهم قادرة على التأثير وتغيير الحياة لمن يقرأهم بوعي وتدبر.
ولكن السؤال الذي يراودنا نحن محبي الشعر يبقى دائما هو: هل لايزال الشعر مهما ومؤثرا؟ ونقصد تحديدا: العملية، والمنتج، والنوع الأدبي Genre؟ وإذا كان الجواب نعم، فكيف؟
قد نطرح أسئلة أكثر حميمية عن الشعر، ربما أقل طموحا، ولكنها ذات مغزى واضح ومفيد لمجتمعنا البشري. على سبيل المثال: هل يمكن للشعر أن يغذي الأمل وينعش الحلم؟ وهل يمكنه أن يجعلنا ندرك ما يدور حولنا؟ وأن نُعلم الغير؟ وأن يريحنا في أوقات الحزن والنقاهة ويساعدنا على النسيان؟ والأهم أن يعمل كمصدر إلهام للقراء والمستمعين الأميين؟ ثم ما مسؤولية الشعر بخصوص اللغة؟ هل يمكنه كشف أسرارها؟ ويحل المشاكل؟ هل يمكنه أن يصدمنا لنصحو من غيبوبتنا ونحس بواقعنا ونبدأ العمل الإيجابي، ويساعدنا على التفاوض أو الإقناع؟ ثم ماذا عن «التقاليد الشفوية» (الفولكلور أو التراث والأدب الشعبي/ النبطي)، والمحادثة اليومية، واللكنة، النبرة، واللون؟ وكيف يمكنها إثراء الثقافة؟ والمساعدة في كتابة التاريخ، واسترداد أو المحافظة على الذاكرة، والأهم تقديم رسالة تصدر منها رؤية ومنظور لنتقدم إلى الأمام؟ وبأي طرق يستطيع الشعر كشف وتغيير الأكاذيب التي توارثناها عمن سبقنا في كتب التاريخ التي يسطرها دائما المنتصرون، وفي كتب «السير الذاتية»، وفي المقالات، وحتى في الصحافة الجادة والرصينة؟
الشعر كان مهما لصديقتي العزيزة كاري هيرز لدرجة ربما كانت غير معقولة بشريا. فقبل بضعة أيام من وفاتها بسبب «سرطان المبيض»، تعالت وتسامت كاري على آلامها، وأرسلت إلينا نحن أصدقائها وصديقاتها رسالة إلكترونية «وداعية»، وختمت رسالتها بقصيدة للشاعرة ماري أوليفر قائلة إنها «هدية وداعها» قبل الموت المحتم. لقد كانت قصيدة مؤثرة بعنوان «غابة المياه السوداء»، وقرأت أنا يومها بعض الأبيات التي لا تزال تهزني حتى اللحظة:
انظروا، الأشجار
تتحول
أجسادهن نفسها
إلى أعمدة
للنور،
كل شيء...
تعلمته في حياتي على الاطلاق...
يقودني مجددا إلى هذا:
الحرائق...
ونهر الخسارة الأسود...
الذين يقع في جانبهم الاخر:
«الخلاص»...
والذي لن يعرف أحد...
على الاطلاق معناه!
تلك الهدية سمحت لنا نحن أصدقائها وصديقاتها بالتنفس العميق عندما تسلمناها وقرأناها، ورفعت قدرنا كشعراء عندما قرأها الكاهن ونحن أمام قبر كاري بعد دفنها. تلك القصيدة لا تزال تذكرنا بصديقتنا الحبيبة، وحساسيتها الرقيقة، وحبها للتصوير الفوتوغرافي الجاد، والمقاومة الشرسة والشجاعة للمرض الخبيث، والوداع الكريم/ اللائق لها بعد موتها.
ولكن تلك «القصيدة الوداعية» تفعل أكثر من ذلك بكثير، لأن الدروس التي تحتويها تتحرك على مستويات عديدة. أستطيع أن أتذكر حالات كثيرة مماثلة عندما تقوم قصيدة معينة أو مجموعة من القصائد بـ «تخفيف حزني»، و«غمري بالشجاعة»، وإرسال «وميض» بصورة غير متوقعة لشخص ما، أو ببساطة تطرح فكرة أو تهيج مشاعر كما لا يمكن مطلقا لأي شيء آخر في الكون فعله.
القصائد المؤثرة يتم تهريبها من السجون، ويتشارك الجنود في قراءتها في ساحات القتال تحت قصف النيران، وتنتقل من يد إلى يد، ومن جيل الى جيل، وتخدش على الجدران، وتكتب في دفاتر اليوميات، وتخربش حتى في دفاتر «وصفات تحضير الطبخات» recipe في مطابخ ربات البيوت، وتوزع على زوايا الشوارع، وتحمل من شاطئ إلى شاطئ عبر البلدان بواسطة المتشردين كما حدث في أميركا في قطارات الشحن البخارية خلال الثلاثينات، وتسكن أيضا الأماكن العامة، ويُهمس بها في الأذنين، لتتمكن بذلك من وصف أحداث بدقة غير قابلة للوصف بطرق أخرى، وجمع أناس متفرقين في الحياة نحو هدف واحد بطريقة مذهلة. نكتها تضحكنا. صدقها ورؤيتها الواضحة للحقيقة تلقط أنفاسنا. تعقيدها الموجز يوصل الكثير، وبقوة أكبر من أي قطعة من النثر. قدرتها على إثارة المشاعر غالبا ما يجعل منها مصدرا للخبرة والوعي بطرق أكثر تفسيرية لا تملكها الكتابة.
ومن الواضح أن الشعر يغير اللغة. وهذا التغيير الثقافي يؤثر «بسرعة» على ما هو مسموح، وما يعتبر زائدا أو مقبولا لغويا. أما ما يحتاج «دهورا» لكي يجدد أو يحسن اللغة فيستقر ويعشعش بأمان وكسل في «المعجم اللغوي».
ومن الواضح أيضا أن كل أداة تواصلية جديدة - البرق والهاتف والحاسوب، والهاتف الخليوي، و«آي بود»، و«بلاك بيري»، وأخيراً «كيندل» (جهاز قراءة الكتب إلكترونيا)، وغيرها من الأجهزة الإلكترونية التي يتم تطويرها باستمرار يمكنها تجديد الشعر. وهناك كذلك الشات (الدردشة) عبر النت، و«التويتر» عبر النت كذلك، وهناك أيضا الرسائل النصية عبر الجوال، فجميع تلك التقنيات تدفع اللغة نحو الإيجاز، وتحثنا ان نقول ما نعنيه مباشرة، وفورا. ولكنها أيضا تفعل المزيد في اللغة. تصميم صفحات الجرائد وإيقاعها غير المحسوس ينبثق ببطء من إيقاع الحياة المعاشة. ولهذا صرنا أخيراً نتعجب من سحر المخطوطات القديمة وفتنة الخط اليدوي الذي انقرض حاليا، ولكن هذه التقنيات التواصلية التي تتطور بسرعة تواصل تطوير نفسها باستمرار وتغيير طريقة الحديث مع بعضنا بعضا. طريقة قراءة الشاعر جهرا لجمهور قد يكون بعضه أميا، وطريقة تجاوب الجمهور معه يمكنهما أيضا أن يغيرا القصيدة إلى الأبد. والمقصد هو التالي:
ربما كان سر عظمة الشعر هو في قدرته على اختزال فكرة أو مشاعر إلى الحد الأدنى من التعبير، مما يعطيه مثل هذا البقاء السرمدي في السلطة الأدبية.
* كاتب ومترجم سعودي