الممثل بين مدرستين
قراءه في أداء الممثل المسرحي الروماني والهولندي
أحمد شرجي
(الممثل هو الوحدة الدينامية لمجموعة كاملة من العلامات)1. هناك طريقتان للعمل التمثيلي هما (النفسية والفيزيائية) والطريقة النفسية وهي التي تنطلق من الباطن، من العمل على العواطف، من العلاقات الخاصة مع الشخصية، المخيلة، المشاعر. الطريقة الفيزيائية يكون العمل فيها على الدور الذي يمثله أي على الشكل الخارجي للشخصية. ولعل أول من قنن عمل الممثل هو الروسي ستانسلافسكي وهو الذي وضع النهج الأول للمثل كي يسير عليه وأصبحت طريقته التي طرحها في كتابه (إعداد الممثل) وكتب اخرى، اشبه بالكتاب المقدس بالنسبة للممثل المسرحي. واتخذت كل المدارس المسرحية في العالم تقريبا نظرية ستانسلافسكي منهجا دراسيا لطلابها في مادة التمثيل. ومن ثم جاء دور كروتووفسكي ليقول كلمته في التنظير من اجل الممثل، ولعل ما فعله البولوني كروتووفسكي طوال سنوات البحث في عمل الممثل يضاهي ما عمله ستانسلافسكي، بل نجد أن كروتووفسكي هو اكثر المنظرين أهمية بعد ستانسلافسكي ممن عملوا على البحث في تطوير فن الممثل من خلال مختبره وإخضاع الممثل للتجربة التي طرحها في فن التمثيل والتي دعمها بمجموعة من البحوث والبيانات والمقالات النظرية المهمة من اجل دعم آرائه في الاهتمام بتقنية الممثل والعمل على تطوير أدواته الأدائية من خلال نظريته والتي سماها (المسرح الفقير)، والتي أراد من خلالها تأكيد أهمية الممثل بالعرض المسرحي وهو العنصر (أي الممثل) الوحيد من العناصر المسرحية التي لا يمكن الاستغناء عنها أبدا وهو القائل: "أساس المسرح الممثل وما يقوم به وما يمكن أن نحققه"2 لأننا يمكن أن نستغني عن المخرج، النص، الموسيقى، المكياج،الخ من العناصر الأخرى للعرض المسرحي. الممثل هذا الساحر الجميل حتى بصمته لا يمكننا الاستغناء عنها أبدا لأنه أهم شيء في العرض المسرحي وهو الذي يقوم بإيصال خطابنا إلى الآخر إذا كان هذا الخطاب مرئياً عبر الجسد أو سمعياً عبر الكلام.
وما يدعم رأينا في المخرج البولوني كروتوفسكي هو ما قاله المخرج الإنكليزي بيتر بروك بقوله "كروتووفسكي فريد في بابه.. لماذا؟ لأنه حسب معرفتي، لا أحد غيره في العالم منذ ستانسلافسكي بحث طبيعة التمثيل ومظاهره، ومعناه، وطبيعة وعلم عملياته الفكرية –البدنية- العاطفية على النحو العميق الكامل الذي قام به كروتوفسكي"3. ولعل الباعث الأول لتحفيز مشاعر الممثل على الخشبة هو استدعاء الذاكرة العاطفية المليئة بالمشاعر والعواطف وبالتالي يسهل على الممثل استحضار مشاعر سابقة من مخزونه العاطفي في اللحظة التي يريد أن يمتلكها أثناء العرض المسرحي كما يقول ستانسلافسكي لكنه اكتشف أن الذاكرة العاطفية هي لحظة آنية، أحياناً تأتي وأحياناً تغيب عند استثارة الحس العاطفي للممثل ولذلك لجا إلى الأفعال المساعدة، الرغبات ومن ثم المشاعر. ونرى أن أهم ما أوجدته نظرية ستانسلافسكي هي (لو السحرية) وتعمل هذه ألـ (لو) من خلال توجيه الممثل سؤالاً إلى نفسه: ماذا سأفعل لو كنت أنا مكان هذه الشخصية؟ ماذا سيكون رد فعلي إزاء هذا الحدث؟ ماذا لو كنت طبيبا؟ ماذا سأفعل في هذه الحالة؟ وماذا سأفعل لو كنت كذا وكذا وهكذا يستمر سؤال الممثل لنفسه من خلال لو السحرية، وينتمي ستانسلافسكي لأهم مدرسة مسرحية في العالم بل كان أحد المؤسسين المهمين للمدرسة المسرحية الروسية والتي أرست قواعدها بعد ذلك على معظم المدارس المسرحية في العالم بل أن تأثيرها مازال يعمل به للان، هذا مدخل لقراءتنا في أداء الممثل المسرحي في مدرستين وهما: مدرسة أوربا الشرقية والتي حملت موسكو راية التجديد فيها والتنظير والأخرى وهي مدرسة أوربا الغربية والتي لم تمتلك ذلك السحر الذي تمتلكه شقيقتها الشرقية. الممثل الروماني والممثل الهولندي هما عينة قراءتنا هذه، هدفنا هو التميز بين أداء الممثل في المدرسة الشرقية المتمثلة برومانيا والغربية المتمثلة بهولندا وان لم تكن هولندا لها باع طويل في الفن المسرحي مثل فرنسا أو إيطاليا أو إنكلترا. من خلال مشاهدتي لمجموعة من العروض المسرحية في بوخارست عاصمة رومانيا الاشتراكية سابقا ولعروض مسرحية هولندية في مدن هولندية عدة وجدت أن هناك فرق كبير بين العرضين (أعني الروماني والهولندي) ولا يخفي على المتابع للحركة المسرحية، الفارق الفني بين المدرستين باعتبار أن بوخارست تمثل إحدى الساحات المسرحية المهمة في أوربا وهي تلميذة رائعة لعاصمة الفن الأولى بالعالم وهي موسكو وكذلك تشكل بوخارست ثقلا مهما في الحياة الفنية لمنظومة الدول الاشتراكية سابقا والتي كانت موسكو قبلتها المقدسة، ولا نغالي إذا قلنا بأن معظم الثورات المهمة بالفن قد خرجت من المعطف الروسي. وجدنا العرض المسرحي الروماني في بحث دائم في كافة الفنون المسرحية امتد ذلك إلى الإضاءة والديكور وكأنهم يعيدون بذلك ما فعله مايرخولد حين أستخدم لأول مرة البقع الضوئية العازلة للممثل الواحد في العرض المسرحي وهذه الطريقة لم تكن معروفة وقتها، والاهم من كل هذا هو شغلهم الدائم على الممثل باعتباره أهم عنصر في عناصر اللعبة المسرحية. الممثل في العرض الروماني (رومانيا) ممثل خالق، باحث، يبحث عن شكل آخر يوميا وكأنه يدخل في لعبة مع المتفرج هل ستتعرف علًي هذه الليلة؟ وهذه اللعبة هي التي جعلته في بحث دائم ولا تهدأ سريرته عند شكل ثابت في ليالي العرض.
هذا ما لمسته في العرض المسرحي (الغجر لبوشكين) وكان هذا العرض لمخرج شاب وقدم هذا الشاب عرضه الساحر داخل إسطبل للخيول أو حضيرة خنازير كان المخرج باحثا عن شكل آخر لغجر بوشكين، تجد مخرج اقلقوه غجر بوشكين فرسم لوحته بعيداً عما أراده بوشكين لغجره، ومجموعة ممثلين سحره أدخلونا معهم عنوةً إلى لعبتهم المسرحية بل إلى عالمهم (عالم الغجر) حياة مليئة بالعبث وعدم المسئولية، حياة من اجل العيش ليوم واحد فقط وغدا عندما تشرق الشمس حتما سيأتي يوم أخر حاملا معه أشيائه الجديدة. المغزى من استشهادنا هذا هو أن المخرج وجد الإطار العام أو الشكل العام للعرض المسرحي من خلال رؤيته أو قراءته التي كونها لنص بوشكين ومن ثم جاء دور الممثل الخالق، الباحث، الممثل صاحب القراءة الثانية للنص الأدبي بعد المخرج، جاء دوره ليعيد تشكيل رؤية أخرى لأدائه في العرض ليضيف تصوره أو رؤيته الأخرى التي كونها على النص الأدبي الأصلي للمؤلف والنص (نص العرض) للمخرج وهذه القراءة تحمل الكثير من السحر الذي يسحرنا به الممثل على الخشبة لكن هذا السحر يبقى مرهون في إمكانية الممثل، بمعنى آخر هذا السحر يتوقف على الجهد البحثي الذي عمله الممثل على الدور، إيجاد تاريخ مفترض للشخصية، إيجاد مسببات الشبكة العلائقية مع الشخصيات الأخرى.
هذا البحث الدائم في جوانيات الشخصية أي أنه يعمل بالعقل الباطن للشخصية، لا يمثل ما يمليه عليه المؤلف أولا ومن ثم المخرج ونسمعه يقول (آه) على الخشبة لكن هذه الـ (آه) لم نسمعها بالحياة من الناس العاديين في يومياتهم، في يومياتنا نسمع (آه) ينطقها الجميع بشكل واحد، طريقة واحدة لكن عندما ننتقل مع هذه (آه) إلى المسرح يجب علينا البحث عن مسببات الـ (آه) أي الغوص في المعنى الباطني للكلمة، هذا الجهد العلمي على الشخصية هو الذي يميز الممثل في العرض المسرحي الأوربي الشرقي إذا جاز لنا أن نسميه هكذا. من المؤكد لم تخلو مشاهداتنا لعروض المسرح الهولندي (وبالتأكيد رأينا هذا على مجموعة من عروض) من المتعة والاستفادة وهذا أيضا لا يصادر جهد الممثل الهولندي ولا إبداعه، هناك ممثلين جيدين ورائعين لكننا نتحدث عن طريقة بحث الممثل على الدور أو الشخصية التي يمثلها وما مدى الجهد العلمي الذي يبذله على الشخصية. من خلال البحث نرى أن الجهد البحثي في العرض الهولندي كان بحثا شكليا أي في الشكل المسرحي فقط نعني أن البحث لم يدخل في جوانيات النص وهذا ما لمسناه في اغلب العروض التي تسنى لنا مشاهدتها والتي كانت اغلبها لأهم فرقة مسرحية في هولندا وهي فرقة مسرح أمستردام والتي هي صاحبة اكبر الإمكانيات المادية والبشرية. الممثل الهولندي لم يكن ممثلا باحثا حاله حال نظيره الروماني بل كان ممثلا تقليديا كلائشيا، تلميذا قديما للدروس الأولى لفن التمثيل للمعلم الأول ستانسلافسكي لكن السؤال هو: هل كان ستانسلافسكي ممثلا عبقريا؟.. هل كان من أهم الممثلين الروس في تلك الفترة وهي فترة الثورة الفنية في موسكو؟.. وبالتالي يتحتم على كل الممثلين في بقاع العالم تقليده والسير وفق نظريته في فن التمثيل ونسأل أيضا لماذا لا يأخذ طلاب فن التمثيل، الممثل الإغريقي ثسبس الايكاري والذي به بدأت بوادر التعريف في الممثل من خلال ترحاله على عربته في سبيل تقديم عروضه المسرحية ومن ثم أضاف ممثلا آخر لعروضه وأضاف أسخيلوس ممثلا ثان وسوفوكلس ممثلا ثالثا كي يتحاور مع الجوقة والتي بعد هذه الإضافات بدأ حجمها يتقلص.
لنذهب إلى ما قاله المخرج والمنظر البولوني صاحب نظرية المسرح الفقير (كروتوفسكي) بحق المنظر الأول لفن التمثيل (ستانسلافسكي)( ولم يكن ستانسلافسكي ممثلا موهوبا وجسده كان جميلا في شبابه لكنه متخشب، وكل شيء حتى ابسط الأشياء التي يستطيع كثير من الممثلين القيام بها تلقائيا كانت جحيما من التقنية له، فهو كان إنسان غير موهوب أو أن موهبته محدودة جدا، في حدها الأدنى ولهذا السبب بالتحديد استنبط الطريقة، فكل طريقة ستانسلافسكي وكل بحوثه في هذا المجال كانت صراعا يائسا مع غياب الموهبة)4 نستنتج من كل هذا هو أن البحث الدائم له في وضع نظرية لفن الممثل هي التي صنعت منه ممثلا عبقريا. القصد من كلامنا هذا إن الممثل الهولندي ليس ممثلا خلاقا أو باحثا عن شكل تمثيلي خاص به لا يشبه الممثل التقليدي الذي نراه في حياتنا اليومية باعتبار أن الإنسان أيضا ممثل في حياته، بل نجد الكثير من الأشخاص ممثلين رائعين في طريقة حديثهم أو في ممارساتهم اليومية وهنا قد نختلف مع بيتر بروك في مقولته (الممثل محاكاة لشخص قد تقابله بصورة عادية خارج المسرح) قد نتفق مع بيتر بروك لمقابلتنا لذلك الشخص الذي نراه يبهرنا في طريقة كلامه وطريقة مشيه أيضا، هذا الشخص هو خالق لأسلوبه الخاص به قد لا يشبه أحدا أو قد يشبه شخص آخر وهنا يكمن سحر الممثل الخالق الذي التقط لنا شخصية هذا الشخص, وعمل عليها بحثه والذي افترض لها تاريخ وكذلك خلق لها مجموعة مشاكل اجتماعية ونفسية وأيضا أوجد حلول لهذه المشاكل وبالتالي سببا لبقائها أو قد تكون هذه الشخصية تعاني من عاهة جسدية مفترضة كما افترض ذلك الممثل الباحث، هذا الممثل لم نجده في معظم العروض التي حضينا في مشاهدتها للمسرح الهولندي، نعم هنالك ممثلين جيدين لكنهم لا يمتلكون السحر الذي رأيناه في الممثل الروماني ورأينا هذا تكون من خلال عروض مهمة لفرقة مسرح أمستردام منها (الملك لير، تاجر البندقية، عطيل، هاملت) وعروض مسرحية لفرق أخرى كثيرة. كان هناك بحث في الإخراج على الشكل العام للعرض المسرحي من خلال القراءة المغايرة للمخرج والدراماتورج كانت معظم هذه الرؤى أو القراءة للنصوص المقدمة يتم من خلال توظيف النص الكلاسيكي وإسقاطه على الزمن الحالي أي إسقاط البعد الزمني للنصوص والعمل لارتداء هذه النصوص الثوب المعاصر وهذا ظهر في كل العروض التي رأيناها والتي كانت اغلبها للكاتب وليم شكسبير ومثالنا على ذلك عرض تاجر البندقية من خلال تقديمه داخل إحدى الحانات والشخصيات عبارة عن مجموعة مقامرين داخل الحانة وكذلك في عرض هاملت افترض فيه المخرج القصر، هو البيت الأبيض والملك يلقي خطبته وكأنه الرئيس بيل كلنتون ويرينا حماية القصر وهي تستعمل احدث الأجهزة اللاسلكية وكذلك أزيائهم، وكذلك العرض عطيل لم يذهب بعيدا عن هذه القراءة الاسقاطية للزمن الحالي المعاصر. نستنتج من كل هذا بان المخرج هو الوحيد في العرض المسرحي الهولندي الذي أرقه البحث عن شكل مغاير لعرضه المسرحي، حتى السنغرافيا كانت خالية من عنصر الإدهاش الذي رأيناه في العرض المسرحي الروماني ورغم التكنولجيا المتطورة التي تتمتع بها هولندا لكن لم نلمس الاستفادة من هذه التكنولوجيا وتقنية الضوء في العرض المسرحي الهولندي بل نرى العرض وكأنه صالة أعراس مزدهرة في اللون الأبيض وكأنها شوارع أو حدائق عامة وبالطبع هذا يترك اثر سلبي على بحث المخرج ويضيع جهده البحثي من خلال عدم التوازن بين تكامل العناصر الأخرى للعرض المسرحي، لأن العرض المسرحي الحديث يجب تكامل العناصر الأخرى فيه، مثل الضوء والموسيقى والأزياء والمكياج، وكما يقول أستاذنا الدكتور صلاح القصب: مصمم السنغرافيا هو مخرج آخر للعرض المسرحي.
-------------------------------------------------------
الـهـوامـش:
1- كير إيلام، سيمياء المسرح والدراما، ترجمة: رئيف كرم، المركز الثقافي العربي، بيروت، الدار البيضاء،1992، ص17 .
2- جيرزي كروتووفسكي، نحو مسرح فقير، ترجمة:د. كمال قاسم نادر، دار الشؤون الثقافيةالعامة وزارة الثقافة العراقية، 1986، ص129.
3- المصدر نفسه، ص9.
4- اناتولي فاسيليف، أخبار اليوم الرابع عشر، ترجمة:عبد الهادي الراوي.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*أحمد شرجي: مسرحي عراقي يقيم في هولندا. ahmadsharji@hotmail.com
alwah.com/alwah17/alwah17-3.htm
موسوعة دهشة