رسائل الادباء ... من جواهر لال نهرو إلى ابنته أنديرا غاندي
الديمقراطية لا تزعم أن كل الناس سواسية
الناس في إنجلترا كانوا غير مغرمين بالتفكير !
رويت لك في رسالة سابقة يا أنديرا لمحات عن تقدم العلم في القرن التاسع عشر.. وأريد الآن أن أحدثك عن ناحية من نواحي التقدم في هذا القرن وأعني تقدم الفكرة الديمقراطية..
ولعلك ما زلت تذكرين حديثي لك عن حرب الأفكار في فرنسا في القرن الثاني عشر وعن فولتير أعظم كتاب هذا العصر ومفكريه وآخرين غيره من الذين تحدوا المعتقدات القديمة والذين قدموا في جرأة عجيبة أفكاراً جديدة.
وقد ساد هذا التفكير في فرنسا في ذلك الوقت على نطاق واسع.. أما في ألمانيا فقد كان الفلاسفة مهتمين بمسائل فلسفية أشد تعقيداً.. وفي إنجلترا كانت التجارة والأعمال في تزايد مستمر والناس هناك غير مغرمين بالتفكير ما لم تضطرهم الظروف الى التفكير اضطرارا!.
ومع ذلك فقد ظهر في انجلترا في النصف الثاني من القرن الثاني عشر كتاب خطير ذلك هو كتاب آدم سميث عن ثروة الأمم.. وهو ليس كتابا في السياسة ولكن في الاقتصاد السياسي فحتى ذلك الوقت كان الاقتصاد كغيره من العلوم مختلطاً بالدين وبالأدب مما جعله عرضة للكثير من الاضطراب والخطل.. ثم جاء آدم سميث فعالج الاقتصاد معالجة علمية متحاشياً كل التعقيدات الأدبية محاولاً أن يعثر على القوانين الطبيعية التي تتحكم في الاقتصاد والاقتصاد - كما لا بد تعرفين - يتحدث عن دخل الأفراد ونفقاتهم أو دخل الدولة كلها ونفقاتها عما ينتج الناس وما يستهلكون عن علاقاتهم بغيرهم من الدول وغيرهم من الناس.. وكان آدم سميث يؤمن بأن كل هذه العمليات المعقدة تتم طبقاً لقوانين طبيعية محددة سجلها في كتابه.. وكان يؤمن ايضاً بأنه لا بد من اعطاء الحرية الكاملة لحياة الصناعية حتى تؤتي هذه القوانين نتائجها.. وهو مذهب دعهم يعملون الذي حدثتك نه من قبل.
وكتاب آدم سميث هذا لا شأن له بالأفكار الديمقراطية الجديدة التي كانت تتبلور في ذلك الوقت في فرنسا.. ولكن هذه المعالجة العلمية لمشكلة من أهم المشاكل التي تؤثر في مصائر الأفراد والشعوب تدل على أن الإنسان كان آخذا في اتجاه جديد غير الاتجاه اللاهوتي القديم.. وآدم سميث يعد الآن أبوعلم الاقتصاد وقد أثر في كثيرين جداً من رجال الاقتصاد الانجليز في القرن التاسع عشر.. وقد ظل علم الاقتصاد الحديث قاصراً على الاساتذة وعلى عدد قليل من خاصة المثقفين ولكن الأفكار الديمقراطية الجديدة كانت في ذلك الوقت تنتشر بسرعة.. ثم جاء نجاح الثورة الأمريكية والثورة الفرنسية فكان بمثابة دعاية واسعة اكسبت هذه الأفكار شعبية هائلة.. فقد هزت الناس تلك الكلمات الرنانة التي احتوى عليها اعلان الاستقلال الأمريكي وإعلان حقوق الانسان الفرنسي.. كانت هذه الكلمات بمثابة رسالة خلاص للملايين من المظلومين والمستعبدين فكل من الوثيقتين تتحدث عن الحرية والمساواة وحق كل فرد في أن يستمتع بالسعادة.. ومن أن اعلان هذه الحقوق الآن لم يؤد مباشرة الى فوز الناس بها. (بل ان الذين يستمتعون بهذه الحقوق الآن وبعد قرن ونصف من اعلانها ما زالوا قليلين)!.. فقد كان مجرد إعلان هذه الحقوق عملاً قيماً باعثاً على الأمل.
لقد كانت الفكرة القديمة في أوروبا وفي كل مكان والفهم السائد للمسيحية وغيرها من الأديان ان الخطيئة والشقاء قدر مكتوب على الإنسان وبدت الأديان - بهذا التفسير - وكأنها تخص التعاسة والشقاء في هذا العالم بمركز دائم ممتاز.. وكأن كل ما تعد به البشر من جزاء مكانه في عالم آخر.. أما في هذا العالم فقد كان علينا ان نصبر على قدرنا وأن لا نعمل على أي تغيير جوهري.. كانت تشجع الإحسان والتصدق على الفقراء ولكنها لا تقدم أي فكرة للقضاء على الفقر ذاته أو على النظم التي تؤدي الى هذا الفقر.. والديمقراطية لا تزعم ان كل الناس سواء.. وهي لا تستطيع ان تزعم ذلك إذ انه من الواضح جداً ان بين الناس فروقاً كثيرة.. هناك فروق جسدية تجعل من الرجال من أهم أقوى من غيرهم وفروق عقلية تجعل بعض الناس أذكى أو أحكم من سواهم وفروق أخلاقية تؤدي الى وجود من هم أقل أنانية من الآخرين وإن كان جانب كبير من هذه الفروق يعود الى ظروف التربية والتعليم..
خذي ولدين أو بنتين على درجة واحدة من الاستعداد وأعطي أحدهما تعليماً واحرمي الآخر من التعليم وسوف ترين بعد سنوات قليلة أن ثمة فارقاً هائلاً بين الاثنين أو أعطي الواحد طعاما صحياً كافياً والآخر طعاماً رديئاً ناقصاً.. وسترين ان اولهما سينشأ قوياً سليماً صحيحاً في حين يصبح الآخر ضعيفاً يائساً عليلاً. إذا فالتربية والثقافة والبيئة التي ينشأ فيها الانسان تتسبب في خلق كثير من الفروق بين الناس الى حد كبير. كل هذا ممكن. ولكن فيما يتعلق بالفكرة الديمقراطية نجد انها تعترف بأن الأفراد ليسوا في الحقيقة متساوين ولكنها مع ذلك تعطيهم جميعاً نفس القيمة السياسية والاجتماعية. فإذا سلمنا بهذه الفكرة الديمقراطية كاملة فسوف يودي بنا ذلك الى نتائج ثورية خطيرة.
ولسنا هنا بصدد تقصي النتائج جميعاً ولكن أبسط نتيجة لها هي أن يكون لكل مواطن الحق في أن يعطي صوته في انتخاب الحكومة أو البرلمان الذي يمثل الشعب.. فالصوت الانتخابي هو رمز القوة السياسية واذا اعطينا كل مواطن حق التصويت فمعنى ذلك اننا ساوينا بين الجميع في القوة السياسية وهكذا كان اول مطالب الديمقراطية خلال القرن التاسع عشر هو المساواة بين الجميع في حق التصويت.
ولكن الذي حدث ان معظم الذين نالوا حق التصويت اكتشفوا ان الأمر بالنسبة لهم لم يتغير كثيرا! فبالرغم من انه قد أصبح من حقهم ان يشتركوا في الانتخابات فقد ظلوا بعيدين عن أي نفوذ في الدولة أو ليس لهم من النفوذ إلا التافه القليل..
كان الصوت قليل النفع بالنسبة للرجل الجائع وظل أصحاب السلطة الحقيقية هم أولئك الذين يفيدون من جوعه ويجعلونه يفعل اي شيء يرونه في مصلحتهم. وهكذا ظهر ان القوة السياسية التي يمنحها هذا الصوت ليست إلا ظلاً لا حقيقة له ما دام مجرداً من القوة الاقتصادية وان أحلام لاديمقراطيين النبيلة عن المساواة التي سوف يحققها تعميم حق الانتخابات لم تسفر عن شيء!.
على أنني قد سبقت الحوادث قليلاً فهذا التطور الأخير لم يظهر إلا فيما بعد أما في أواخر القرن الثامن عشر وأوائل القرن التاسع عشر فقد كانت حماسة الديمقراطيين لعقيدتهم هائلة وكان الاعتقاد سائداً بأن الديمقراطية سوف تجعل كل واحد من المواطنين حراً مساوياً لغيره وأن الحكومة سوف تعمل من اجل سعادة الجميع..
وكانت الحملة في القرن الثامن عشر عنيفة على أوتوقراطية الملوك والحكومات وعلى الطريقة التي كانت تستغل بها سلطتها المطلقة.. وكان من نتائج ذلك أن نصت اعلانات حقوق الانسان على الحقوق الفردية. ولعل في اعلان الحقوق الفرنسي والأمريكي بعض الخطأ من هذه الناحية. ففي مجتمع معقد كالذي نعيش فيه يلس من السهل ان نفصل بين الأفراد ونعطي كلا منه حرية كاملة..
فهذا الوضع سوف يؤدي الى تصادم مصالح الأفراد بمصالح المجموع. ومهما كان الأمر فقد دافعت الديمقراطية دفاعا عنيفاً عن الحرية الفردية.
وقد تأثرت انجلترا التي كانت متخلفة في التفكير السياسي خلال القرن الثامن عشر بالثورتين الأمريكية والفرنسية. وكان أول أثر بدا عليها هو الخوف من ان تؤدي هذه الديمقراطية الجديدة الى ثورة اجتماعية في الجزيرة نفسها فأصبحت الطبقات الحاكمة أكثر رجعية ومحافظة من ذي قبل. ولكن الأفكار الجديدة ظلت تنتشر بين المثقفين. وظهر في ذلك الوقت رجل انجليزي مرموق اسمه »توماس بين« كان يعيش في أمريكا خلال الحرب الأهلية وقام بمساعدة الثوار هناك. وكان مسؤولاً الى حد كبير عن توجيه الأمريكيين نحو فكرة الاستقلال التام. فلما عاد الى انجلترا ألّف كتابا اسمه »حقوق الانسان« دافع فيه عن الثورة الفرنسية التي كانت قد بدأت في ذلك الوقت وهاجم الأرستقراطية ودعا الى الديمقراطية ومن اجل ذلك طاردته الحكومة الإنجليزية ففر الى فرنسا وفي باريس لم يلبث ان اصبح عضوا في المجلس الوطني الذي كان يتزعم الثورة ولكن اليعاقبة المتطرفين ألقوا به الى السجن سنة 1793 حين عارض في إعدام الملك لويس السادس عشر.
10 فبراير سنة 1933
تترجم الرسالة إلى لغتنا العربية الكاتب الكبير الراحل أحمد بهاء الدين