[size=9]في كل الأحوال فإن المقدمة التي تسوقها الشاعرة هالا محمد في مستهل الكتاب الذي وزع في اليوم الأول للأمسية، تشير إلى أن دعوة شاعرات فقط هو (حباً بالمذكر.. واختيالاً بالأنثى) وهو ما لم يتضح من خلال النشاط المقدم خلال اليومين المسميين (48 ساعة شعراً) فالواضح أن هناك فرقاًً واسعاً وكبيراً بين المضامين الثقافية والفكرية وربما الأيديولوجية التي أفردتها هالا في مقدمتها وبين الأمسيتين اللتين قدمتا ولم تكونا سوى أربع ساعات شعر خلال يومين في التياترو وألقت خلالها الشاعرات العربيات، وعددهن اثنتا عشرة، بعضاً من أشعارهن على الجمهور الذي كان في معظمه من الرجال!.. وقد لاحظ الكثيرون أن الموضوع ربما يكون قد حمل أكبر من طاقته سواء بتسميته مشروعاً ثقافياً أو حلماً.. إلى ما هنالك من صفات توحي بأكبر مما حدث بكثير!..
التفعيلة تحتفي بالنثر!
رغم أن الجميع يتفقون على اجتياز قصيدة النثر مرحلة إثبات النفس والحصول على مشروعية الولادة واستقلال الشخصية منذ أمد بعيد، إلا أن النشاط كان في أحد أهدفه لأجل الاحتفاء بقصيدة النثر كقصيدة لها علاقة وطيدة مع كل ما يندرج هنا تحت مفاهيم التغيير، وكان يمكن لهذه الغاية التبرير أن تمر، فهي ليست مثار خلاف بكل تأكيد، لكن إلقاء بعض الشاعرات قصائد مفعلة وبعيدة كلياً عن النثر أظهر إلى حد بعيد الهوة الكبيرة بين ما يمكن تسميته بالإسقاطات النظرية التي يفترض أن تتحملها هاتين الأمسيتين من جهة وبين ما سمعناه من شعر بالفعل، فقصائد الشاعرة السعودية أشجان الهندي مثلاًً كانت بعيدة تماماً عن مفاهيم النثر وأسلوبيته حتى إن قصائدها بدت وكأنها مكتوبة منذ ستينيات القرن الماضي لاسيما عندما حملتها تلك النبرة الإيقاعية في الإلقاء كحامل أساسي في القصائد لديها، وهذا الأمر تكرر عند عدة شاعرات لم يستطعن الطرق بإلحاح على أبواب الجدة والتجديد، سواء أكان بالصور أم الأسلوب، حتى إن بعض القصائد كانت تتسم بالضعف والخواء لدرجة أن الكثيرين استغربوا مشاركتها في ملتقى كهذا، يفترض أنه يراهن على التحديث والتجديد والبحث عن الضفاف!..
في تلك النصوص المشاركة، بحثت مراراً عن الصورة الصادمة المدهشة التي تجبر القارىء أو المستمع على التوقف والنظر ملياً من أجل التمتع والاستماع بذلك الجديد والنادر الذي يعثر عليه بين العبارات والتراكيب، لكنها مرات قليلة وربما نادرة أيضاً، استطاعت فيها تلك النصوص أن تلبس الرؤية النقدية والتنظيرية التي يفترض أن تحتملها انسجاماً مع ما سبق وقرأناه من مقدمات عن ذلك النشاط، فبدت الرؤية النقدية التي نادت بها هالا محمد أكبر بكثير من الحوامل الواهنة أو المعتدلة ونادراً القوية التي شكلت الساعات الثماني والأربعين من الشعر كما شاؤوا تسميتها!..
كنت أقول في نفسي: إن هالا تتحدث عن نصوصها هي، وعن رؤيتها الشخصية لما يفترض بالنصوص الحديثة أن تفعله، وهذا الأمر يفسر عدم انسجام الكثير من النصوص المقروءة للشاعرات مع ما يفترض أن تتحمله كدك حصون الاعتياد والتكرار والبحث الدؤوب عن الجديد، فقصائد هالا تتسم بانحياز كبير باتجاه التجريب والاكتشاف الذي وفقت به أحياناًً إلى حدود التميز والاختلاف بالفعل:
لأنك تحب المنمنمات
خلقني الله
وعلى خدي شامة
مندهشة!
كيف لم تهدني بعد
الفستان المنقط!..
كذلك الأمر، فعلت سمر عبد الجابر التي كان لونها الخاص قادراً على ترك بصماته المختلفة عن الاعتياد في بقية القصائد.. إنها الصورة الصادمة القادرة على التحفيز ليس إلا:
حيفا
يقول لي جدي دائماً إنها أجمل مدينة في العالم
أنا لم أرها..
وجدي لم يزر كل مدن العالم..
لكني، رغم هذا، أصدقه كثيراً..
رغم أنه لا مجال لتفكيك النصوص الملقاة في الأمسيتين، إلا أن التباين في السوية بين الشاعرات كان فجاً واضحاً إلى درجة النفور، ففي حين يقبض القارىء على تلك اللقطات النادرة في بعض النصوص، يحصل في الوقت نفسه على كم هائل من الخذلان في نصوص أخرى قد تدفعنا للتساؤل عن سبب مشاركتها في نشاط كهذا من الأساس، فقصائد اللبنانية لوركا سبيتي مثلاً لم تتعد الخواطر التقليدية التي سمعناها مئات المرات أو قرأناها كثيراً في صفحات بريد القراء للشعراء الشباب، فهنا كانت كل المراهنات النظرية التي سبقت الأمسية عن الاختلاف والتجديد، جميعها تنهار دفعة واحدة فلا يتبقى إلا الخواء.. تقول لوركا:
حين
ترحل الخطوات
متعبة
قطافاً مختلطاً
بشوق
يصل حواف الدم
نبضاً
تلو نبض
.. يبقى مكان طائر
هائج مرهف
عذباً تتلاشى فيه الأسئلة/ والأصداء/ ووجوه الناس..!
ربما عن عثرات الشاعرات العربيات هنا، محاولتهن تكبير الحجر كثيراً، لذلك فإن معظمهن لم يتمكن من إصابة الهدف تماماً، في حين اقتربت أخريات منه قدر الإمكان، وكانت القليلات في قلبه أو لصيقات به إلى أبعد الحدود.. في كل الأحوال، فإن نافذة شعرية تفتح على هذا المشهد الذي يوصف بالرتابة والتكرار والسكون، أكثر جدوى من انتظار قادم يفتح الشبابيك والأبواب هكذا في مواجهة الريح كي يدخل الهواء.. الأوكسجين!.
[/size][/size]