لمحة تاريخية
وفي العودة الى التاريخ نقول:
كان لبنان بعامة وجنوبه وبقاعه الغربي بخاصة ومازال محط أطماع المخططات الصهيونية، منذ تأسيس حركتها، ونظرة سريعة الى خرائط وأدبيات ومؤتمرات الحركة الصهيونية يثبت بالوقائع والادلة الدامغة هذا التوجّه.
ففي خريف العام 1898، أعلن مؤسس هذه الحركة تيودور هيرتزل: "نطالب بما نحتاج اليه، كلما ازداد عدد المهاجرين، ازدادت حاجتنا للارض"، وهذا ما كرره بعده بن غوريون عندما قال: "على اسرائيل أن تجد أسبابها للتوسع"، الامر الذي دفع بالكيان الصهيوني الى رفض الافصاح عن حدوده حتى الان، فاسرائيل هي الدولة الوحيدة في العالم، التي تعتبر حدودها مفتوحة، ولا أحد يجبرها على التقيد بقرارات أو قوانين أو اشارات حدودية!!
ولمزيد من التأكيد على نوايا التوسع، كشف المؤتمر الصهيوني الذي انعقد في ألمانيا بتاريخ 30 نيسان/أبريل العام 1901:
"أنه من الواجب على الصهاينة انتزاع الاراضي المجاورة لفلسطين، ودفع الهجرة اليهودية اليها".
وهذا ما أوضحه الزعيم الصهيوني حاكم فوردو في المؤتمر الصهيوني الخامس عندما قال:
"يدعي خصومنا أن فلسطين غير قادرة على استيعاب 12 الى 15 مليون يهودي، وما يجب توضيحه هنا، أن فلسطين لا تعني فلسطين الحالية، بل اسرائيل الكبرى التي تضم الاراضي الواقعة بين الفرات والنيل".
وفي المؤتمر الصهيوني المنعقد في العام 1919، وبالتنسيق مع بريطانيا التي رعت وأنشأت الحركة الصهيونية، وتآمرت معها على قضم أجزاء من جنوب لبنان، طالب باجراء تعديلات على مشروعه حيث يتم رسم حدود الدولة العبرية على النحو التالي:
"تبدأ من الشمال عند نقطة على شاطىء البحر المتوسط بجوار مدينة صيدا، وتتبع مفارق المياه عند تلال سلسلة جبال لبنان، حتى تصل الى جسر القرعون، فتتجه الى البيرة، متبعة الخط الفاصل بين حوضي القرعون ووادي التيم، ثم تسير في خط جنوبي، متبعة الخط الفارق بين المنحدرات الشرقية والغربية لجبل الشيخ، حتى جوار بيت جن، وتتجه معه شرقا، متبعة مفارق المياه الشمالية لنهر مغنية حتى تقترب من الخط الحديدي الحجازي، والى الغرب منه".
وكان نهر الليطاني، محور كل الخطط التوسعية الصهيونية، لانه في نظر الزعماء الصهاينة يشكل شريان الحياة المائية لاسرائيل، لذلك فان الحروب والصراعات دائرة حول كيفية الوصول الى ينابيع وخط سير هذا النهر، دون اعتبار لما سيحل بأرض وشعب الجنوب جراء جرّ مياه هذا النهر وقطعه، وفي هذا السياق ورد الكثير من المواقف والبيانات والدراسات الصهيونية لامجال للتوسع فيها هنا.
للوصول الى ينابيع المياه، في الليطاني والحاصباني والوزاني وغيرهم، حاول الصهاينة استخدام أكثر من وسيلة، منها استخدام القوة ومحاولة تهجير سكان الجنوب من جهة واعتماد الضغط والدبلوماسية عبر الانتداب البريطاني من خلال العمل لتعديل الحدود غير مرة والاتفاق مع فرنسا من جهة ثانية، وشراء الاراضي من جهة ثالثة.
وبخصوص النقطة الاخيرة، اشترت الصهيونية ما بين العام 1982 ـ 1986، أرضا لبناء خمس مستوطنات في الجليل الاعلى في حوض الحاصباني وقريبا من الليطاني في منطقة المطلة في سهل مرجعيون، وقد بلغت مساحة تلك الارض في العام 1915 حوالي 84,530 دونما، واستكمل السماسرة شراء المزيد من الارض وبيعها لليهود ما بين العام 1916 و 1921 وتحديدا في أجزاء من بعض القرى الجنوبية.
وفي الثلاثينات اشترت شركة "تطوير الاراضي في فلسطين" جبل البلان الواقع الى الشرق من قريتي حولا وميس الجبل حيث أقيمت مستعمرة المنارة، وفي الاربعينات بيعت أراض في قدس، وأراض تابعة لبلدة العديسة، المالكية، دفنة، هونين، والزوق التحتاني. وامتدت الاطماع الصهيونية لشراء المزيد من الارض في صور وصيدا في الجنوب وعكار في الشمال.
الحدود والاتفاقات الدولية
من المعروف أن منطقتنا لم تشهد حدودا سياسية بالمعنى الدقيق، الا بعد معاهدة لينيغراد السرية، بين فرنسا وبريطانيا وروسيا في شهر آذار/مارس العام 1916.
وجاء التحديد الاول للحدود الفلسطينية اللبنانية في 31 آب/أغسطس العام 1920 من قبل الجنرال غورو، وكانت القرى السبع ضمن دولة لبنان الكبير وتم توقيع الاتفاق بين بريطانيا وفرنسا في 23 كانون الاول/ديسمبر من العام المذكور، ما جعل مستعمرة المطلة في الجانب البريطاني، وصولا الى وادي البلونة والعيون والزرقاء في الجانب الفرنسي ويمتد الحد الى غرب رأس الناقورة.
بدأت لجنة ترسيم الحدود المعروفة بأسماء الجنرالين الفرنسي والبريطاني نيو كومب ـ بوليه، في العام 1921 وحددت في العام 1922 حوالي 38 نقطة حدودية.
لكن هذه العلامات تعدّلت غير مرة، وفقا للمصالح الصهيونية، وكانت في كل مرة تقتطع فيه اسرائيل أجزاء من الجنوب، ولولا الموقف الفرنسي الرافض لمزيد من التوسع، لقضمت قوات الاحتلال مساحات أوسع، وبموجب التعديات الصهيونية، اقتطعت في ما سمي اتفاق "حسن الجوار" في العام 1926، مساحة بعرض 3 ـ 5 كلم من حدود الانتداب الفرنسي، وتضم أراض من : البصة، خربة معصوب، خربة عين حور، خربة جردية، خربة سمخ، تربيخا، اقرت، خربة الصوانة، المنصورة وحانيتا.
آبل القمح، السنبرية، الخصاص، المنصورة، الزوق التحتاني والزوق الفوقاني، الخالصة، لزازة، قيطية، العابسية، الناعمة، الدوارة، الصالحية، الزاوية، صلحا، المالكية، قدس، النبي يوشع، هونين، المنارة، المنشية، دفنة، المطلة، خان الدوير، تل حاي، جاحولا، الشوكة التحتا، البويزية، ميس وكفر برعم".
وبعد نكبة فلسطين في العام 1948، استمرت الاعمال التوسعية الصهيونية، فاحتلت 17 قرية، وقد وصل لواء كرملي الاسرائيلي الى وادي دوبا في الغرب والى نهر الليطاني في الشمال. وارتكب الصهاينة في بلدة حولا مجزرة ذهب ضحيتها حوالي 81 شخصا حسب مصادر الاهالي، لكن الضغوط السياسية الفرنسية فرضت على بريطانيا وبالتالي اسرائيل التراجع الى ما سمي بخط الهدنة. لكن أجزاء واسعة من القرى السبع بقيت ضمن حدود فلسطين المحتلة، تتسع وتضيق حسب ما استقر عليه وضع هذه الحدود، فمن أصل 12840 دونما في هونين، تحرر 2900 دونم، وهذه الاراضي تتداخل مع قرى: مركبا، رب ثلاثين، عديسة، وحولا، وبقيت من أراضي قدس البالغة 1200 دونم 200 دونم متداخلة مع أراضي: عيترون في منطقة أبو شوارب.
وبالنسبة لتربيخا التي تبلغ مساحتها 35000 دونم، هناك 5000 دونم داخل الجزء المحرر وهو يتداخل مع: راميا، عيتا الشعب، يارين ومروحين.
وكذلك الامر بالنسبة الى صلحا التي تبلغ مساحتها 10 آلاف دونم، هناك 444 دونما في المنطقة المحررة المتداخلة مع: مارون الراس، يارون وعيترون، أما قرية النبي يوشع فمساحتها 2000 دونم، لكن ليس لها أرض مشتركة مع الجوار، غير أن آبل القمح البالغة 17 ألف دونم، فلها 10 آلاف دونم داخل الاراضي المحررة، وبالنسبة للمالكية التي تقدر مساحتها بـ 12 ألف دونم هناك 25 دونم في الجزء المحرر وتتداخل مع أراضي عيترون.
مزايا القرى السبع
تميزت القرى الجنوبية السبع، والتي اختصرت هذه التسمية القرى والبلدات والمزارع المحتلة في اصبع الجليل، بموقعها الاستراتيجي، فشكلت مركزا أمنيا متقدما يحمي المستوطنات الشمالية، فهذه المنطقة تضم مرتفعات بالغة الاهمية تشرف على كل الاراضي الجنوبية، وقد سبق لبريطانيا أن اعتمدتها في استراتيجيتها العسكرية فأنشأت على طول الحدود ثكنات عسكرية عبارة عن أبراج عالية، لمراقبة تحركات الثوار، ورصد أي عمل عسكري عربي أو غيره. وشجعت على بناء المستوطنات الصهيونية لتكريس الاحتلال، وتحويل هذه المستوطنات الى معسكرات لمنع تسلل المقاتلين الفلسطينيين واللبنانيين والعرب الى فلسطين.
الجنسية
احتفظ أهالي القرى الجنوبية السبع بهوية دولة لبنان الكبير، التي حصلوا عليها في العام 1920، وحتى دخول اتفاقية نيو كومب ـ بوليه حيز التنفيذ في 30 آب/أغسطس 1924 عندما ضمت القرى الى الاراضي الفلسطينية المحتلة، الا أنه من الواضح أن هذه القرى لم تسلخ عن لبنان رسميا الا بموجب اتفاق القدس بتاريخ 2 شباط/فبراير 1926 الموقع بين بريطانيا وفرنسا، والمسمى بـ "اتفاق الجوار" والذي تنازلت فيه الثانية للاولى على الاراضي اللبنانية في الحولة وجوارها، وذلك مقابل منح شركة فرنسية امتياز تجفيف المستنقعات.
وبعد النزوح بقيت سجلات نفوس أبناء القرى السبع موجودة في دائرتي صور ومرجعيون، وكان يكفي لاي شخص أن يتقدم بطلب الى القضاء اللبناني لاستعادة جنسيته الاصلية، بعد أن يثبت أنه من القرى السبع، وبقي هذا الامر كذلك حتى الستينات، عندما طغت على القرارات الصيغ المذهبية والطائفية والانتخابية، فتعقدت الامور، وأصبحت العائلة الواحدة موزعة بين من يحمل الجنسية اللبنانية أو لم يتسن له ذلك، فأصبح الاب مثلا يحمل الجنسية اللبنانية دون أولاده، أو العكس، أو الاخ يحملها والاخ الاخر لم يتمكن من ذلك، وبقي الوضع هكذا حتى العام 1994، عندما صدر مرسوم التجنيس رقم 5247، حيث تم تجنيس معظم أبناء هذه القرى، لكن ضمن صفقة لالاف الاشخاص من مختلف الطوائف والمذاهب والدول أيضا، الا أن بعض الاشخاص لم يتمكنوا لاسباب عدة من الحصول على الجنسية، فتكررت المأساة الاولى، وعادت العائلة للتوزع بين من يحمل الجنسية اللبنانية وبين من ضاع حقه حتى الان في ذلك، رغم المراجعات والمناشدات والاتصالات.
موقع القرى في الصراع
السؤال البديهي الذي طرح نفسه الان هو: ما مصير هذه القرى، هل سيطالب لبنان بها، أو سيترك مصيرها مرتبطا بالقضية الفلسطينية، أم أنه سيبادر الى الاستعانة بالدبلوماسية وسيلة لاسترجاعها، واذا فشل هل يكلف المقاومة بلعب هذا الدور؟
بقدر ما السؤال مشروع وطبيعي، بقدر ما هناك صعوبة حاسمة في الاجابة عليه ففتح هذا الملف الان سيحمل الكثير من التفسيرات والتساؤلات.
الا أنه في كل الاعتبارات، هذه قرى لبنانية احتلت في اطار مؤامرة دولية، شاركت فيها الحركة الصهيونية وقوى غربية مؤثرة وفاعلة في حينها، وأهلها يحملون الهوية اللبنانية، وبالتالي من حق لبنان أن يطالب بها، ويستنفر كل طاقاته وجهوده من أجل استرجاعها، بمختلف الوسائل الممكنة، ولاحظنا مؤخرا أن هناك مخاوف اسرائيلية حقيقية من فتح هذا الملف، عبر مواقف وتصريحات عدة، بخاصة بعد أن أعلن الامين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله، أن مساحة لبنان الـ 10452 كيلو متر مربع تتضمن القرى السبع، وبالتالي فلبنان سيبقى محتلا ما دامت هناك أراض منه محتلة.
من هنا فان القرى الجنوبية السبع، مثلت وستمثل في المستقبل القريب والبعيد بوصلة الصراع اللبناني ـ الاسرائيلية، وتدخل في صلب الصراع العربي الصهيوني ككل.
ولذلك فان ذكر هذه القرى في الاستراتيجية الدفاعية التي ستطرح على طاولة الحوار الوطني في قصر بعبدا، برئاسة الرئيس ميشال سليمان، أمر في غاية الاهمية، فهذه القرى لا تمثل مذهبا أو طائفة معينة أو سكانها مزيج من مختلف المذاهب والطوائف، وقد أصبحت عنوانا أساسي في لب الصراع القائم، وتجاهلها أصبح أمرا صعبا ان لم يكن مستحيلا، واذا اقتضت ظروف ما الى تأجيل هذا الملف، فلا يعني ذلك الغاؤه، انما استمرار وضعه في البال وفي الخطط المستقبلية للمواجهة المتوقعة، وعليه لا بد للمثقفين والنخب والسياسيين الملتزمين، من ابقاء جذوة قضية هذه القرى مشتعلة، لترسيخ ثقافة وطنية صادقة، لانه للاسف الشديد هناك محاولات طمس وتشويه لها من قبل أطراف عدة، بخاصة أولئك الذين يتنصلون من الصراع العربي الصهيوني، ويعملون على تجريد المقاومة من سلاحها، وطي كل الصفحات الوطنية المنسية.
ـــــــــــــــــ
عرض تاريخي:
ابان الحرب العالمية الاولى اتفق الفرنسيون والانكليز على تقاسم الاراضي التي احتلوها من أملاك الدولة العثمانية في شرقي المتوسط، ثم أخذوا يعملون على زج العرب في الحرب الى جانبهم ضد الاتراك، عن طريق اتصال الانكليز بالشريف حسين الذي أجرى مع نائب الملك في القاهرة السير هنري مكماهون مراسلات بين 14 تموز سنة 1915 و 10 آذار سنة 1916، ووعد فيها الانكليز الشريف حسين بالموافقة على بعض مطالبه المتعلقة باستقلال المنطقة تحت حكمه. وقد تم الاتفاق على أن تستقل الاراضي العربية وتقام فيها أنظمة حكم عربية بعد تحجيم مطالب الشريف حسين الذي وافق على التخلي عن مطالبته بولايتي مرسين واسكندرونة، وتمسك بالمطالبة بالمنطقة الواقعة على الساحل غربي دمشق، أي مدينة بيروت وساحلها.
الاّ أن الانكليز الذين كسبوا انحياز العرب اليهم وشنّهم الحرب على تركيا، راحوا يفصلون اتفاقاتهم الاجمالية مع الفرنسيين، فاتفقوا معهم على تقاسم تفصيلي للمنطقة، وذلك في اتفاقية سايكس ـ بيكو في آذار سنة 1916، أي في الوقت الذي أتم الانكليز اتفاقهم مع الشريف حسين، فعمد الى خوض الحرب الى جانبهم، وقد أتى الاتفاق غير مفصل بشكل دقيق، واعتمدت حدود بين الانتداب الفرنسي والانكليزي، تبدأ من قرية الزيب على الساحل شمال عكا (شمال نهاريا اليوم) وتأخذ اتجاها شرقيا جنوبيا الى قرية الطابغة على الساحل الشمالي الغربي لبحيرة طبريا.
غير أن الحركة الصهيونية كانت تطالب بأن تصل أرض فلسطين لتشمل نهر الليطاني، وقد حصلت على وعد بلفور باقامة وطن قومي يهودي في فلسطين، وذلك في 2 تشرين الثاني 1917 التي كانت تطالب باقالة لبنان الكبير، فكانت تستبعد الجنوب اللبناني بكامله (كان هذا الامر اضافة الى ضعف فرنسا أمام الانكليز من العوامل التي سهلت ازاحة الحدود باستمرار باتجاه الشمال. وقد لاقت المطالبة هوى لدى الانكليز، فحاولوا ازاحة الحدود الى الشمال حتى أوصلوها في نهاية الحرب الى الساحل الجنوبي لبحيرة الحولة، على أن تبدأ على البحر من نفس النقطة وتتجه شرقا بدلا من الجنوب الشرقي، الا أنه، ونتيجة لضغوط الحركة الصهيونية، اتفق في آب 1920 على اعادة رسم الحدود.
وبعد تكوين الدول الجديدة في المنطقة، حيث أعلنت فرنسا اقامة لبنان الكبير في أول أيلول سنة 1920، تم تناسي مبادىء سايكس ـ بيكو، ووقعت اتفاقية حدود بين الانتداب الفرنسي والانتداب البريطاني في 23 كانون الاول 1920 تشمل مناطق انتدابهما كافة في المشرق العربي، جعلت الاتفاقية الحدود تنطلق من بانياس باتجاه الغرب لتصل الى محاذاة المطلة، فتستدير حولها من الشمال لتصبح في الاراضي الفلسطينية، ثم تستمر الحدود غرب المطلة في مقلب الماء بين حوض الاردن وحوض الليطاني، ثم تتابع سيرها على المقلب الفاصل بين الاودية التي تصب في البحر جنوب رأس الناقورة والتي تصب شمالها لتصل الى رأس الناقورة.
ونظّم استخدام الاودية واليرموك، بحيث تستفيد منها فلسطين بعد اكتفاء الاراضي الموجودة تحت الانتداب الفرنسي منها.
وتنازل الفرنسيون عن الجليل الاعلى الذي كان يتبع ولاية بيروت في آخر عهد السلطنة العثمانية، وكذلك عن سهل الحولة نتيجة ضغوط الحركة الصهيونية على الانكليز، وذلك في اتفاق 29 تموز سنة 1920 بعد مؤتمر سان ريمو (نيسان 1920).
ولكن الاتفاقية الحدودية تكشفت عن مصاعب في التطبيق، اذ وجد أن العديد من القرى أصبحت في جانب، فيما أراضيها أصبحت في الجانب الاخر. ونتيجة لضغوط الحركة الصهيونية على الانكليز، طرحت ضرورة اعادة النظر في ترسيم الحدود، وجرى التخلّي عن مقالب الماء كحدود، وتعرض الخط للتعديل باتفاقية نيو كومب ـ بوليه التي حصلت في شباط 1922.
الحدود، بموجب اتفاقية نيو كومب ـ بوليه
عدلت لجنة نيو كومب ـ بوليه الحدود فبدأت برأس الناقورة على بعد حوالي كيلومترين الى الشمال من نقطة 1920، لتنحرف قليلا عند قرية علما الشعب الى الجنوب ثم تعود لتنحرف شمالا، أي على حساب لبنان عند حدود رميش ويارون، واستمر الانحراف حتى شمال غرب المطلة، حيث استفاد لبنان من بعض الاراضي، ثم عاد الانحراف على حساب لبنان، فمرت الحدود بجسر البراغيث وجسر الحاصباني بدلا من مرورها بتل القاضي وتل دان، وذلك لاسباب تتعلق بحصول منطقة الانتداب البريطاني على المياه.
خسر لبنان في التخطيط المبدئي عددا من القرى، منها القرى السبع، وهي قرى:
طربيخا وتشمل النبي روبين وسروح (وأقيمت مكانها مستعمرة شومراه)، والمالكية (كيبوتز ملكياه)، وقدس (قلعة يفتاح)، والنبي يوشع (متسودت يشع)، وصلحا (مستوطنة ييئرون)، وهونين (موشاف مرغليوت)، وابل القمح (موشاف يوفال).
ولكن الانكليز ماطلوا بالموافقة على التخطيط، ولم تتم المصادقة، على ما يبدو، الا بعد ضمان الحصول على أراض جديدة لصالحهم، وقد حصلوا عليها، وذلك باتفاق "حسن الجوار" بتاريخ 23 حزيران 1923، وهي (الصالحية، الناعمة، الخصاص، العباسية، دفنة، اللزازة، شوكة، حانوتا، أقرت، كفر برعم). هذا، وتضيف بعض المصادر الى هذه اللائحة قرى (الجردية، معسولة، عباسية، دحيرجة)، وقد آلت كل القرى المذكورة بطبيعة الحال الى الصهاينة ليهجروا أهلها في حرب 1948، وقد صادقت عصبة الامم على التخطيط النهائي عام 1934 ليشكل حدود لبنان الدولية.
غير أن الخط الجديد طرح عددا من المشاكل، بحيث فتت أراضي بعض القرى وقسمها، فشكلت سنة 1925 لجنة مصغّرة لدراسة هذه المشاكل، وانتهى عملها في 2 شباط 1926 بتوقيع اتفاق أحدث سلسلة ترتيبات حدودية جديدة، اذ تخلّت فرنسا عن مساحة حوالي كيلومترين مربعين بالقرب من صلحا، مقابل ازاحة الحدود حوالي 200 متر شرقا مقابل قرية حولا.
ومع كل المحاولات السابقة لحل مشاكل القرى وأراضيها الزراعية، فقد بقي العديد من القرى في جانب من الحدود، فيما أراضيها في الجانب الاخر، الامر الذي اضطر الدولتين المنتدبتين الى اتخاذ تدابير معقدة للسماح للمزارعين بالوصول الى أراضيهم.
غير أن التسهيلات لم تبق على حالها في الثلاثينات، مع النزوح من حوران الى فلسطين بسبب الجفاف، وبعد الثورة الفلسطينية سنة 1936، وخصوصا بعد اغتصاب فلسطين.
خط الهدنة
وابّان حرب فلسطين سنة 1948 وبعد أن توغلت قوات الجيش اللبناني الى المالكية ثم تراجعت دخل الصهاينة الاراضي اللبنانية، الا أن اتفاقية الهدنة المعقودة في 23 آذار 1949 قضت بالعودة الى الحدود الدولية، اذ ورد في المادة الخامسة من الاتفاقية المذكورة فقرتها الاولى:
"يجب أن يتبع خط الهدنة الدائمة الحدود الدولية بين لبنان وفلسطين..".
وقد وافق مجلس الامن على هذه الاتفاقية بموجب قراره رقم 73 تاريخ 11/8/1949.
ولهذا الغرض تقرر مسح الحدود مجددا، وتم ذلك بين 5 و 15 كانون الاول لسنة 1949.
وعندما بدأت عمليات الترسيم اتفق على اعتماد حدود نيو كومب ـ بوليه على أساس اعتماد خريطتين: الخريطة 20,000/1 Palestine 50,000/1 Levant.
وأثار الوفد الصهيوني أن هناك خلافا بين الخريطتين، واعتبر أن الحدود تقع على بعد 50 مترا جنوب الخط الموازي لها في الاراضي اللبنانية، في حين تمسك الوفد اللبناني بأن الحدود هي على بعد مئة متر، وتوالت الاجتماعات.
وفي اجتماع 18/1/1961 تم الاتفاق في المحضر على الانتهاء من وضع الشارات الـ 38 ما عدا النقاط الثانوية في منطقة الشارة 38 (ما قبل الاخيرة لجهة الشرق) من قرب العديسة حتى نقطة تلاقي الحدود المشتركة بين لبنان وسوريا وفلسطين. وكانت لجنة المسح قد أوصت بوضع شارات ثانوية بين الشارات الرئيسية، لان الشارات الرئيسية متباعدة، اذ يبلغ متوسط المسافة حوالي كيلومترين.
وفي منطقة الشارة 38 أوصت لجنة المسح بوضع أحد عشر حجرا، ثلاثة منها من فئة A(أساسي) والباقي من فئة B(ثانوي)، وذلك الى الشرق حتى آخر شارة على الحدود السورية اللبنانية ـ الفلسطينية، وبوضع ستة أحجار بين الشارة 38 حتى محاذاة المطلة، واحد منها من فئة A، ثم وضع ثمانية أحجار، واحد منها من الفئة A وصولا الى الشارة 37.
بقي الموقفان من الخريطتين على حالهما بالخصوص المذكور، واستمرت الاجتماعات حتى عام 1967، فاتفق في 28/3/1967 على تأجيل التوقيع النهائي على الخرائط، وعددها 8 الى وقت قريب، لكن هذه الخرائط لم توقع حتى اليوم.
وفي غياب التحديدات في المنطقة المذكورة بين المطلة والحدود المشتركة تم اقتطاع مزارع شبعا الاربع عشر.
الاراضي المقتطعة
بدأ اقتطاع الاراضي منذ سنة 1892 عندما باع اقطاعيون (سيصبحون) لبنانيين الى اليهود أراضي واسعة في سهل الخيام، المطلة، المنارة. وقد أنشأ اليهود مستوطنة المطلة محل قرية المطلة. كما أن احدى الاسر اللبنانية حصلت من العثمانيين على امتياز لاستصلاح 55 ألف دونم من مستنقعات الحولة، ولما عجزت باعت الامتياز للصهاينة سنة 1934 الذين قاموا يعد ذلك بطرد العرب من أراضي منطقة خان الدوير ومداخل المنشية ودفنة وحقاب بعد تدميرها.
وابّان الانتداب، باع اقطاعيون لبنانيون 65 ألف دونم في سهل الحولة، وبقي 45 ألف دونم في ذلك السهل اغتصبت فيما بعد.
والى القرى التي ذكرت سابقا يرى بعض الكتّاب أن العدو الصهيوني احتفظ في 23/3/1949، نتيجة اتفاق نيو كومب ـ بوليه، بأراض واسعة تابعة ليارون ورميش وعيترون وبليدا وميس الجبل وحولا والعديسة وكفركلا، حيث أزيحت الحدود داخل لبنان بمقدار كيلومترين عند أدنى نقطة. كما أقيمت مستعمرة مسكاف عام في مرتفعات العديسة قرب المنارة للسيطرة على المياه.
وبعد حرب 1967 استولى العدو على ما عرف بمزارع شبعا وهي أربع عشرة مزرعة، تقوم على مساحة من الارض تبلغ حوالي 250 كيلومتر مربع بطول 25 كيلومترا وعرض يتراوح بين 7 و 13 كيلومترا. وهذه المزارع هي:
المغر، فشكول، زبدين، حارة أفوه، برتعيا، الربعة، بيت البراق، برختا، كفردورة، جورة العقاب، رمتة، خلة الغزالة، وادي القرن، مراح الملوك. وفي سنة 1970 تم اقتطاع أراض في بلدتي الهبارية وكفرشوبا تقترب من قمة جبل الشيخ في هضاب: النقار، الشحل، السواقي، جورة العليق، ثم تلة السدانة قرب شبعا، ثم جبل الشميس شرق كفرشوبا.
مما تقدم، نرى أن سلطات الانتداب هي التي أقرت ورسمت الحدود بين لبنان وفلسطين بارادتها المنفردة، وأن بريطانيا، تحت ضغط الحركة الصهيونية كانت تدفع بالحدود باستمرار نحو الشمال. فمن خط يبدأ عند مصب وادي الزيت شمالي عكا الطابغة على بحيرة طبريا، الى خط يبدأ عند المصب المذكور ويمتد الى شمالي بحيرة الحولة، الى خط يبدأ جنوبي رأس الناقورة الى المطلة فبانياس الى خط أزيح حوالي كيلومترين الى الشمال، الى التخلي مجددا عن قرى في اصبع الجليل الغنية بالمياه.
كل هذا والجهات اللبنانية منذ ما قبل تكوين لبنان الى نهايات عمليات الترسيم، كانت تعارض أو على الاقل لا تتحمس للحفاظ على الجنوب ضمن الحدود اللبنانية، حتى أنه سنة 1957، رفضت الحكومة ذلك وطلبت من السوريين أن يتولوا الامر، مما سهل فيما بعد احتلال مزارع شبعا.
في القانون
واذا عدنا الى القانون، فاننا لا نجد سندا للاتفاقيات وتعديلاتها الا مصالح الاحتلال، في مواجهة سكان المناطق التي ضمت الى متصرفية جبل لبنان.
واذا كان القانون الدولي يلزم الدولة اللاحقة باتفاقيات الدولة السابقة، وبالتالي يجعل دولة لبنان المستقلة وارثة لدولة لبنان تحت الانتداب وملتزمة باتفاقيات الانتداب، فان هذا الامر يصح اذا كان للدولة السابقة شرعية. أما اذا لم يكن الامر كذلك، فانه يجب رفض كل ما قام به الاحتلال، مما يتعارض مع المعطيات القانونية.
واذا كان لبنان تصرّف على أساس القبول باتفاقات الانتداب، فان الواقع أثبت أن سلطاته كانت دائما هي الاضعف وكانت لا تستطيع الدفاع عن الارض ولا تستطيع استرجاع ما يسلخ منها.
واذا كانت الحركة الصهيونية قد استولت على فلسطين بعد عام 1948 بشكل غير قانوني ولم يعترف لبنان بالدولة التي أقامتها، فان كل ما عقدته مع حكومات لبنان المغلوبة على أمرها هو أمر واقع ومن ثم هو عديم الوجود قانونا، بسبب عدم الاعتراف والاكراه.
واذا كان القانون الدولي يقبل بنتائج الاكراه، فان اقترانه مع الوجود اللاشرعي للمكره ينفي عنه كل صفة قانونية.
ومن هنا نعود الى ما قبل الاحتلال البريطاني الفرنسي، أي الى الحكم العثماني. ولما كان نظام الحكم العثماني قد تلاشى قانونيا سنة 1924 لدى الغاء الخلافة وانتمائها واقعيا وقانونيا، فتبقى ارادة الشعب هي المعوّل عليها قانونيا، وما ارتضته الشعوب هو الذي ينتج مفاعيله القانونية، ولما كان اللبنانيون والسوريون من جهة والفلسطينيون ارتضوا اتفاقية سنة 1920، التي رفضتها الحركة الصهيونية، التي لا علاقة لها قانونية بفلسطين حينذاك.
ولهذا فان الوضع القانوني هو الذي نجم عن تلك الاتفاقية.
أما ما جرى بعدها، فهو أعمال رفضها السكان، لا سيّما سكان القرى السبع، وأصروا على رفضهم ومازالوا حتى اليوم أي منذ ثلاث وثمانين سنة، وبعد أن حرمتهم الدولة اللبنانية من الجنسية اللبنانية التي كانوا حصلوا عليها في الاحصاء السكاني الاول سنة 1923،عادوا فاستردوا هذه الجنسية.
من هنا فان القرى السبع التي رفض أهلها الانضمام الى فلسطين منذ سنة 1923، والتي ألحقت رغما عنهم، تبقى قانونيا وواقعيا قرى لبنانية، يجب تحريرها واستعادتها من الصهاينة الذين طردوا أهلها منها، واعادتهم اليها.
د.محمد طي
د.أمين مصطفى
د.يحيى غدار