الفكر السليم وإن عارضه الآخرون لا يحتاج إلى دفاع ... المشكلة التي نعاني منها تكمن في الإسلام السياسي وتضامن «الديني» مع «السياسي» .... الآراء الناشئة عن جهل لا قيمة لكثرتها ولكنها مؤثرة في المجتمع .
اسماعيل مروة الوطن السورية .. الاثنين 25 / 01 / 2010 هالني ما دار من حوار ونقاش حول لقاء سماحة المفتي العام للجمهورية العربية السورية الدكتور أحمد بدر الدين حسون مع الوفد الأميركي، فكل ما دار في اللقاء لم يكن بحاجة إلى أي نقاش، وكل ما كنا بحاجته كتاب إشادة بالمفتي وجهوده الكبيرة في جلاء صورة الإسلام، وتوضيحه كما جاء في كلامه بالنص: المشكلة ليست في الإسلام، وإنما في الإسلام السياسي، حيث تضامنت المؤسسة الدينية مع السلطة السياسية.
رأي وأحكام مسبقة
المهم أن أحدهم قرأ الحديث سلباً، وبما أننا كلنا نستطيع الحديث في الدين، فكل واحد يمكن أن يعقب على الحديث في الوسائل المتاحة للجميع، حتى ولو لم يكن قادراً على قراءة آية أو حديث... وقد جاءت التعقيبات على نوعين:
- من العلماء والمفتين الذين استنكروا دون أن يسألوا، وكأنهم وجدوا ضالتهم التي يتشفون بها ومنها، خاصة بسبب مواقف المفتي الحادة تجاه قضايا الأمة، وهنا لا بد أن أشيد بمواقف علماء الشام وفي مقدمتهم الدكتور عبد الفتاح البزم الذي حضر اللقاء فكان صادقاً في رفض ما دار، وما وصلني من موقف العلماء عامة ومنهم الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي الذي كان علمياً، خاصة من خلال رأي مفتي دمشق الذي كان حاضراً.
أما ما سوى ذلك فقد قرأت أشياء مزعجة تجاه رأي صحيح، وليس تجاه اجتهاد غير مسبوق. هذا في الوقت الذي لم يتحرك أحدهم أمام اتهام آخرين بالفساد الظاهر، وعدوا الحديث فيه من النيل بالعلماء! فلماذا سمحوا لأنفسهم بالنيل من عالمنا ومفتينا؟! إنها ضريبة التفوق.
- من العامة، ومع انتشار وسائل الإعلام والمواقع، صار أي واحد قادراً على تسجيل رأيه والحديث في أي شيء سواء فهم فيه أم لم يفهم، ولا يمكن أن ننسى ذلك الذي تصدى للحديث في الجزيرة عن الدين منذ أعوام، وعندما استشهد بالقرآن ذكر سورة (الرمز) بدل سورة (الزمر) فهؤلاء بدؤوا شتم وانتقاص آراء مفتينا الجليل، وأجد من الواجب على علمائنا الأجلاء أن ينبروا للتكاتف حول مؤسسة الإفتاء لأنها لم تكن مخطئة، لقد تكاتف العلماء والناس حول مؤسساتهم وقد كانت مدانة...
وهذا الأمر يحتاج مناقشة هادئة في جذور الفكر وآلية النقاش.
الإصلاح في الفكر وضرورته
قبل قرن من الزمن بدأت النهضة، وحاول مفكرو الإسلام إظهار جوهر الإسلام، فكانت خطوات الأفغاني ومحمد عبده ومحب الدين الخطيب وغيرهم أولى الخطوات نحو نهضة إسلامية فكرية عظيمة تغير وجه الأمة، فجوبه هؤلاء التنويريون، وعودوا، وفعلت فئة من المتزمتين فعلها في إفشال المشروع النهضوي كله، وليس المشروع الإسلامي وحسب، ومن يتمعن في حركة الإصلاح الفكري آنذاك فسيجد من الأسماء أسماء ينظر إليها بتبجيل من أصحاب التحزب الإسلامي اليوم، فكيف جوبه هؤلاء؟ وكيف تحولوا إلى منارات اليوم؟ ترى لو كانوا موجودين هل تحولوا إلى منارات؟
معضلة كبيرة لا حلّ لها على المدى البعيد والمنظور، خاصة أن الفكر الإسلامي والديني عموماً حتى غير الإسلامي انغمس في ولاءات ضيقة مناطقية وقطرية، داخلية وخارجية، ومع صبيحة كل يوم تزداد الهوة اتساعاً بين الفكر وأصحابه، وبين أفراد أصحاب الفكر ذاته، وما مصير فكر تحول أصحابه إلى أغراض شخصية دنيئة عن الفكر الحقيقي؟
غياب الاجتهاد وصَلب المجتهد
إن ما عاناه المفكرون الإسلاميون في تاريخ الفكر الإسلامي ناشئ عن فكرة خطيرة وهي غياب الاجتهاد، فمع بداية الدولة الأموية الإسلامية، وارتباط المؤسسة الدينية بالمؤسسة السياسية توقف الاجتهاد توقفاً شبه كامل، واقتصر الاجتهاد على طوائف محددة، وهي اليوم تحصد إيجابية بقاء الاجتهاد، وأهم ما حصدوه أنهم لا ينكرون اجتهاد مجتهد، ولا يصادرون الرأي إن خالفهم، أما عموم المسلمين فقد أقفلوا باب الاجتهاد إقفالاً شبه محكم، وبناء على ذلك لم يعد من المسموح لأحد أن يجتهد، وصارت حياتنا الفقهية تدور في دوائر مغلقة ومفرغة غير قابلة على التجدد، ومن هذا المنطلق صار صلب المجتهد هوية عند الجمهور، خاصة أن دغدغة الشعور الديني لدى العامة من أسهل الأشياء وأكثرها تأثيراً في ظل غياب الثقافة الدينية عن الساحة العامة، وفي ظل الفهم الخاطئ الذي يسيطر على عقولنا، وفي ظل التجرؤ على حدود الله في الفتوى، وفي ظل الصراعات المحتدمة على دنيا يصيبها أحدهم، وفي ظل إيثار أحدهم الاحتفاظ بآرائه على أن يكون مصلوب الرأي!!
مفتينا حامل التنوير
أمام غياب الاجتهاد صار الخروج بقراءة جديدة صحيحة ضرباً من المستحيل! فلا يحق لأحد أن يقرأ أو أن يفسر، أو أن يرى رأياً مخالفاً، والمخالفة هنا ليست للنص، وإنما للرأي السائد، وعلى مذهب الجمهور الذي تسيّد هذه المنطقة أو تلك، وصارت مهمة المفتي في الديار الإسلامية أن يجلس على كرسي صامت لا يخرج عنه صوت إلا إذا أراد الحاكم ذلك، ومهمته الوحيدة أن ينتظر من حلف يميناً بالطلاق لتحليل زوجته، أو من سرق شريكه في تجارة ويريد فتوى تحلل له ما سلبه من الشريك، وغالباً ما يجد الفتوى، ونسي الجميع أن الإسلام لا مشيخة فيه ولا مرجعية حادة فيه، ولا رهبنة فيه، فكل واحد شيخ ومن حقه أن يفهم وحده، وبناء عليه فإن من مهام العلماء والمفتي ضمناً أن يعملوا على الفكر وتطويره وتثويره، وهذا ما لم يقم به العلماء في فترات طويلة، فمن محمد عبده إلى مفتينا الدكتور أحمد بدر الدين حسون لم نجد علامات أدركت مهمتها الحقيقية.
الجهل أحد أهم الأسباب:
إن العداء الذي يوجه سهامه إلى الفكر المتنور في الإسلام ناجم عن الجهل بالإسلام سواء من عامة الناس أم من القائمين على أمور الدين، ولقد عالجت هذا الأمر مرات عديدة وأعيد فكرة بسيطة، فأغلب الذين يجلسون في مواقع دينية في سورية وخارجها هم من الذين لم يستطيعوا أن يحصلوا على فرصة في التعليم العام، ونحن نتذكر ما كانت كتب الأدب تتناقله، فأغلب المشتغلين بالقراءة في الأزهر من الذين أصابهم العمى، وإلى اليوم لو ذهبنا إلى المعاهد الدينية الأهلية، فإننا سنجد أن هذه المعاهد تستقبل الطلبة بغض النظر عن السن والشهادات، وبعد وقت قصير سنجد هذا الشخص متصدراً للإمامة والخطابة والتدريس والإفتاء... ولنا أن نتخيل كمّ الفتاوى التي ستصدر عن مثل هؤلاء!
والسؤال: كيف لهؤلاء أن يستطيعوا التصدر لحركة فكرية عالية، والأصعب أن يفهموا ما يصدر عن العلماء الحقيقيين القادرين على إحداث ثورة فكرية تغير كل شيء.
الفتاوى على الهواء وأثرها
عالج كثيرون قضية الفتاوى، ولكن الوقوف عند خطورتها الحقيقية كان نادراً، وليت هذه المحطات ما وجدت وما جادت علينا بسيل من الفتاوى التي نبدأ باستهجانها ثم لا نلبث أن نجد أنفسنا متأثرين بها، فكيف لهذا الجيل الذي تربى على هذه الفتاوى أن يتعامل مع المنطق والحرية الفكرية التي انطلق الإسلام منها وعلى أساسها.
ليلة الجمعة اضطررت لانتظار أحدهم، وبالمصادفة كانت القناة تعرض أحد المشايخ فجاءه سؤال من مشاهد: هل يجوز أن أجلس مع زوجتي وإخوتي وزوجاتهم على طاولة الطعام؟ وقبل أن أستغرب السؤال جاءني جواب الشيخ لا. قطعاً.
رام أن تجلس على طاولة الطعام معكم.
ثم تتالت الأسئلة عن نتف الحاجب وتخطيط الحاجب والدخول إلى بيت الخلاء باليمين أو الشمال وكان فضيلة الشيخ طيب الله أنفاسه يجيب مكتشفاً الحالة وواضعاً العلاج!!.
لنا أن نتخيل بعد مشاهدة هذه القنوات كيف سيكون وضع أبنائنا وأسرنا بعد مدة من الزمن، ناهيك عن الحرب التي تشنها هذه القناة أو تلك على هذا المذهب أو ذاك، وكأن هذه الحرب هي التي يمكن أن تنقذ الأمة.
مجتمع بهذا التسطح كيف له أن يستقبل ثراء فكرياً ومعالجات عميقة.