حديث عن غزة
هو ذاته من يحمل عنك خطاياك كي تمارس الفضيلة.. (لتستشهد)، ثم يأتيك ليلا بوابل من الرشد كي لا (تنتحر) فتنام على هذا، ثم يكشف عنك غطاءك ويقول لك: على فكرة.. رأيتك وأنت تختلف!
هو نفسه هو ذاته بلحمه بدمه بفمه .. يقلبك بين أمرين، يستنصرك ثم يقتلك، أو.. يلقي عليك الشعر من بعيد..
يا لها من ساحة تعج بالجنود والبيادق والفيلة، لا ينقصها سوى اربعة وستين مربعا، أو مربع واحد متفق عليه للعب، لهذا تسمع نفس الكلمات تخرج من نفس الفم (تستشهدك) مرة ثم تسألك باستغراب: هل قررت حقا أن (تنتحر) ؟.. لعب في المفاهيم مستمر ولا أية مربعات في المدى المنظور؟
ما اسم هذا اليوم؟
إنه اليوم .. وها قد جاء يحمل كلاما يقتادني من أذني بعيدا عن غزة، أخشى أن يقطع حبل الصور المعقود أوله في عيني وآخره.. فيك يا غزة!!، ألا إن أجمل ما في الصور تجدد الكلام عنها وتبدله.. لكنها تبقى الصور حقيقة ثابتة في العين، تظل نقية ما حافظت على تواليها أمام ناظريك باتساق، لقطات تمر كقطار بخاري، يفصل بين اللقطة وأختها مقدار ثابت من الإحساس فيكون المشهد.
في اللحظة التي يستوقفك فيها إحساس ناشز بين لقطتين لا تبتسم، ولا تنتابنك حمى القدرة على التأويل أو التحليل، بأن هذا مثلا هو كسر للاتساق أضفى على المشهد قراءة أخرى تسمح لك أن تختلف، أو تمتلك وجهة نظر مغايرة.. هذا الإحساس الناشز هو لقطة كانت تنتصف إحساسين انتُزعت من مكانها واستعيض عنها بصورة شعرية أو فقرة من النثر تتشبه بما حدث في غزة، وتقول لك أن ما يحدث قد يكون ثمرة للاقتتال الداخلي وليس جريمة إسرائيلية يرشح منها التواطؤ!!
إنه الإحساس مجددا ..
لا يشبه القانون ولا المعيار، قد يشبه الحكمة، أو الفطرة .. مكانه في القلب، لا يعمل إلا بعد نقعه بخل الكرامة، فنحفل بعد هذا بامتلاكنا أول إحساس متهتك لن يعيد لنا الكرامة لكنه لن يخون، وسيجعلنا كذلك نلحظ أولئك الذين ما إن ننتفض على صورهم أمام العلم الاسرائيلي والسلام، يفتحو علينا خراطيم بلاغتهم فنغرق كالعادة في أفواههم وهنا يضيع المشهد أو الصورة بكل لقطاته أمام السلام .. وأمامهم.
عن ماذا أتحدث ؟..
أتحدث عن رقعة الشطرنج وعن فلسطين، وعن صورة لك تعلقت بفكرة أم، تعيد إنتاج وجهك كل مرة عبر تذكير سواك بالعقيدة الأم .. رغم الفارق الواضح بين وجهك ووجه أمك، وبين الصورتين.. وبين اللسان واليدين.
أتحدث عن فلسطين ..
بشيوعييها الذين أجادوا النيل من الدين، وتركوا صناعة سيارات اللادا وطائرات الميغ للروس..
أتحدث عن فلسطين .. بليبرالييها الذين لا يستطيعون النوم من دون مشاهدة (موفي) يحمل إلى عيونهم بطلا لا يُهزم كما هُزموا هم أمام إسرائيل..
أتحدث عن فلسطين .. وعن مثقفين تحدثوا عن الآلهة أكثر مما تحدث عنها أبو جهل بفارق لصالح أبي الجهل أن إلهه كان من تمره..
وأتحدث عن طير أكل الخبز من رأسك دون أن تستفي به أمرك، إذا ما كان علامة على صلبك أم .. على وجود سلام قريب يحلّق فوقك؟!!
أتحدث عن………
.. عذرا لقد اتسع المشهد ..ودخل نجاتي ومحجوب..
أتحدث عن مصري طلب ضاحكا من سوداني إرسال نهر النيل له في زجاجات صحية، فضحك السوداني وضحكت اسرائيل ومر الماء لها من تحت قناة السويس..
أتحدث عن .. عراقي قاد طائرة السوخوي ليعيل زوجته وأبناءه وأصبح الآن يقود سيارة تاكسي ليعيل جل أقربائه..
وأتحدث عن مغربي نحت مركبا ليُعرض في (رصيف برانلي) الفرنسي ..أو ليقله إلى الشاطيء الإسباني..
أتحدث عن ………….
عذرا مجددا.. لقد غاب المشهد، وجاء الموت حزينا ..
كبرت على عجل يا موت في غزة .. خبرني عن أصحابك ولماذا تبكي؟، أحقا إن الموت يولد معنا ينمو فينا ويكبر حتى نسقط عنه كثمرة نضجت؟
لا ؟.. ليس هذا صحيحا؟!!
صحيح.. على الأقل في غزة، ففي غزة لا يُترك الموت ينمو حرا في الجسد، وإنما يتضخم بفجور هو والشعراء قبل أوانهم..
حامل الجركن
هيثم هديب
من الماء إلى الماء