لماذا انتحرت يا "سلمو".. ؟

الإدارة المشاركات : 3446 . :

لماذا انتحرت يا "سلمو".. ؟
يوسف شيخو

عندما تلقيت نبأ انتحار شاب في السابعة والعشرين من عمره، سارعت وبقلم خبري صرف الى تجميل المعاني القبيحة للحادثة ودفعها للمشاهد المتعطش على هكذا وقائع في قالب جذاب يسهل فهمه، فبدأت الخبربـ اقدم الشاب (سلمان سلمان) على الانتحار بعد تجرعه كمية كبيرة من الحبوب المخدرة.
وعقب تفرغي من اللغة الموضوعية التي املتها قواعد التحرير وقوانينه، نطقت المراهقة بكل شغبها ولا مسؤوليتها، لم تسعفني الذاكرة "الموضوعية" بالشارع المحاذي لشارع الكورنيش، حيث الفقراء والمستورون في الدار نفسه يتعاركون ويمرحون، فسلمان.. ذاك الراحل الى المجهول كان يجالسني وانا على مقاعد الدراسة الاعدادية.. كنت اسميه سلمو.. كان فقيراً ولا ندرك من الفقر الا الليرة الممنوعة من الصرف "بلغة لاقتصاد".. الاقتصاد "إله الارض" التي احرقها مالكوه.. .
سميناه سلمو لخلو جيبه من "الإله" وكان بيننا الكثير من مالكي "الاله" ذاك، حيث لقب السيد يسبق اسمائهم ومن افواهنا نحن المشاغبون.
كل دقيقة ينتحر شخصان في العالم، فمنهم من شبع الدنيا وما فيها.. فانتحر، ومنهم من خانه زوجه فربط حبله بهدو وصعد سلمه، ومنهم من كان مريضاً بعضال لا شفاء يرجى منه فذهب.. ومن بينهم من دفعه سلوك التعصب البربري .. فرحل، لكن ماذا عن المعتوه.. فسلمو لم يعش الدنيا ليشبعها.. ولم يقدر على تلبية شراء خاتم زواجه ليرى الخيانة، فالفقر من خانه، الفقر الفاعل بفعل فقراء النفس.. ان ضَحية الواقع ذاك لم يكن مريضاً وكان محباً للحياة ببربريتها.
فسلمو بعد انهائه للخدمة الالزامية.. وكالآلاف من اقرانه بحث عن "فرصة قوت" زهاء عام ونصفٍ آخر من العام التالي.. قبِل ببذل أقسى جهدٍ، فلم تقبله مؤسسات منح اللقمة. كانت اناه الاعلى تُسيّره والجميع يشيدون باخلاقه.. تخبطت "اناه" تلك ودخلت مرحلة الشيخوخة المبكرة.. ماتت.
ما أملاه حال صديقنا آنذاك هو العديد من التخبط والسلوك المنحرف ولو لفترة.. فكان يكفر بكل الآلهة ودون استثناءات.. كره الفقراء – وهومنهم - .. كرههم لان الله لا يحبهم.. خطط لاحدى السرقات فلم تنجح.. داوم على ابواب ثانويات الاناث عله يحظى بالكثير منهن بدافع "الهو" الذي بات سيده.. !، تعدى على شباب كُثر.. شرب ما تيسر له من الخمور وان كان يحصل على اثمانها بطرق ملتوية.. اختلق شتائم خاص به وهو يلقيها يميناً وشمالاً.. ليل نهار.
احتضر"الهو" بفعل بكاء والدته وهي ترى ابنها يذوب ككرة ثلج في نار الدنيا.. جاءت"الانا ".
طرق الابواب المرصودة.. لم تُفتح، حاول الدخول من الابواب المفتوحة فرصدت.. قزم حقوقه وعملق واجباته، ورضي بما يسد الرمق.. حمل الصحيفة المرمية على الارض ليقرأها، وبالفعل قرأها.. قرأ ما يشير الى نسبة البطالة وبرقم رسمي الا وهي 11% وبعض الفواصل التي ينتمي هو اليها.. فالمسكين لم يحضر احدى ندوات الثلاثاء الاقتصادي التي قالوا فيها ان هناك احصائيات تشير الى ما يزيد عن 23% من العاطلين امثاله.
قرر سلمو متابعة الصحف على اعتبار انها تنشر ما يخص وضعه كلاهث خلف العمل.. قرأ عن افتتاح مشاريع من شأنها توفير الالاف من فرص العمل فلم تصله.. قرأ عن انخفاض سعر المازوت، وفرح كثيراً، لا لأنه يملك سيارة او معمل او حتى مشروع زراعي"معاذالله" بل لان سعربعض المواد الناتجة عن هذا الانخفاض ستنخفض .. فلم تنخفض!
كان متابعاً يومياً لصفحات الاقتصاد .. وقعت عيناه على الخطة الخمسية الـ11 .. لكنه اكتشف في النهاية ان هذا يقول ان الخطة مسؤولية تلك المؤسسة، وذاك يقول ان المسؤول الفلاني يتحمل عواقبها.. فسلمو ليس محللاً اقتصادياً، لكنه فهم ان لا شعر ناقة له من الخطة ولا اذني جمل.
وقبل ان يرمي الصحيفة.. قرأ ان متوسط عمر الزواج لدينا هو29 عاماً .. ضحك.. لا لشئ الا لان ذاك الاحصاء لم يشمله.. ضحك بما فيه الكفاية.. .ومن ثم انتحر وهو يبكي.. .. .. .
وذكرتُ "قبل ان انسى" في خبري الذي كان المنتحر بطله بامتياز، ان الكآبة وما رافقها من تخبط الافكارمن شأنها دفع الآدمي الى تقزيم وجوده وحفر اديمه بانامله. واستحضرت ايضا سبب موت سلمو. لكنني لم اربط "الفقر" دافع استسلامه للحياة والمحرض على استخراج الالم من السعادة، بما اسميته الكآبة والتخبط.. فاللغة الموضوعية تمنع التوسع في "لماذا"!
فكان الامام علي يحلم بقتل ذاك الرجل بذي فقاره.. وما قدر.. وجدير باستمرار الحياة الا يقدر سواه من مناهضي "آه" الجوع .. فبدون هذا "الآه" لن تتكررما فعله سلمو.. ولن تكون اللغة الموضوعية بعد ذاك.

-----------------------
عن نساء سورية