د. زينب نور
في عودة للحديث عن الرمز نجد أنه عند المصري القديم كانت له قيمة في حد ذاته فهو - كما ذكر ” مانفرد لوركر ” في معجمه عن الرموز المصرية - بالنسبة له واقع وحقيقة ولا يعنى اللون الأحمر بالنسبة له الحياة فقط بل أنه مخضب بالحياة ذاتها وقد يجعل البعث ممكناً بعد الموت”،”ويعتمد الاستدعاء الرمزي بأكمله على أشياء مفترضة هي في النهاية اتصال حقيقي بالأشياء تعتمد على العلاقة بين العالم الصغير (الإنسان) والكون المنظور (الكائنات) ، فالرمزية هنا عبارة عن رؤية شاملة وكاملة لما يجب أن تكون عليه علاقة الإنسان بالكون ومخلوقاته من ناحية وبالإله من ناحية أخرى .. معتدلة.ة لطالما قد سعى المصري القديم إلى جعلها مستقيمة.. معتدلة ..عادلة وهى الفكرة التي تجسدت في رمز ( ماعت )* ربة العدالة والضمير الكوني والمقاييس المنضبطة والنظام في شتى صور الحياة وبالأخص الفنون¨..، وجاءت نظرية البعث وأمنية الخلود استكمالاً لهذه الرؤية العقائدية الناضجة.. وهذه النظرية وتلك الأمنية كانتا من أهم أواصر التماسك بين أفراد المجتمع المصري القديم حيث شكلتا منتهى آمال وأهداف الإنسان المصري البسيط الذي ارتبط هو الآخر بالمعبد وبكهنته وبملكه خليفة الله على الأرض.. وهو الخليفة العادل الذي يحكم تبعا ً لقوانين الإله حتى تستقيم شتى صور الحياة .. فلقد ارتبطت حياة المجتمع المصري بالإله، حيث اعتمد هذا المجتمع على الزراعة وموعد الفيضان واستقرار الأجواء والطبيعة المحيطة به وبالتالي كانت هناك أهمية كبرى وأساسية لمدى رضا الإله عن هذا الشعب وتلك الأرض.. فكان على هذا المجتمع المصري المزيد من السعي إلى التقرب إلى الإله من خلال تلك المنظومة المتكاملة – السابق الإشارة إليها – والتي سوف تصل به إلى الحياة الأخرى بأمان..، والجدير بالذكر أنه بالرغم من هذا العمق البعيد للرمز عند المصري القديم إلا أن هذا لم يخلق جواً من المغالاة والتطرف في هذا المجتمع ، حيث عرف عنه الوسطية في شتى صور حياته.. وحتى يومنا هذا ، والتي يرجعها علماء الاجتماع إلى الوسطية التي وهبها الله للمجتمع المصري في الموقع والمناخ.
وبالرغم من تخبط آراء العلم الحديث إلى يومنا هذا حول العديد من الأمور التي تتعلق بالدلالات الرمزية لدى المصري القديم إلا أن هذا المصري الذي ابتدع هذه الرموز وكما يرى علماء المصريات ..أبداً لم تختلط عليه الأمور بين رموزه وما ترمز إليه من قوى عُليا وغيبية وكان يعلم أن الصفة تختلف عن الموصوف.. فبينما نجـد العديد من الشعوب قد حدث لها ذلك فعبدت الرموز وتركت أو نسيت ما كانت ترمز إليه ، إلا أن ذلك لم يحدث للمصري القديم، إلا ربما في فترات انحدار قد أصابت شتى مظاهـر الحيــاة في مجتمعه القديم ، ولا سيما في الفترة ال Greco- Roman حيث كانت قد مرت فترات زمنية طويلة على عهود الاستقرار بالبلاد واختلطت الرموز الدينية والآلهة الغريبة بالمحلية، كما أن الالتباس الذي يحدث في عقولنا نحن المعاصرين للقرون الحديثة كان هناك دائماً عند المصري القديم ما يمحيه ويأتي مكانه باليقين والتثبت ، وربما يكون ذلك بواسطة حدٍ رفيع فاصل بين الأفكار ورموزها لازلنا لا نعرفه بشكل قاطع.. وإنما يسعى جمهور العلماء سعياً دؤوباً للتعرف على أسرار المعرفة أو الحكمة لدى المصري القديم والتي جعلته فقيهاً في تنسيق العناصر المتناقضة لهذه المنظومة الرمزية.. وذلك كله فضلاً عن إمكانية تطور استخدام الرمز الواحد من عصر إلى آخر أو تغير معناه أو لونه أو موقعه من نص إلى آخر عند المصري القديم ، فعلى سبيل المثال يفسر العالم ” مانفرد لوركر ” في معجمه هذا الأمر بنموذج ”للقطة”.. حيث “كانت تظهر المعبودة ”باستت” في صورة قطة لطيفة أليفة ارتبطت مع النساء بالموسيقى والرقص وتظهر نفس المعبودة أيضاً ولكن تحت اسم “سخمت” على هيئة سيدة مدمرة مخيفة متعطشة لدماء القتل ممثلة برأس لبؤة ، ” غير أن هذا التشابه والاختلاف يرجع إلى ما يسميه عالم النفس السويسري ” كارل جوستاف يونج ” على هذه الصور اسم ” النماذج الأصلية “.. فتبعاً لهذه النظرية تنتمي رموز كل من القط والأسد إلى ” الأم العظيمة ” أي النموذج الأصلي ، فهي التي تلد وهى التي تلتهم أو هي الإلهة الأرضية التي تخرج منها جميع أنواع الحياة “، وهذا بالطبع تفسير منطقي للرؤية المصرية الفلسفية الشاملة والحاضنة للأفكار الإنسانية وتطوراتها وأيضاً تداعياتها ..، فإذا كان الإنسان الحديث والمعاصر يرى في الرموز المصرية القديمة ما يناقض نفسه إلا أنه في حقيقة الأمر لم يكن هذا التناقض عند المصري القديم إلا تعبيراً عن قطبي الوجود أي الحياة والموت والخير والشر والنور والظلام .. فنجد على سبيل المثال أن ( أوزير ) المصري هو رب العالم السفلى ولكنه قد لقب بسيد السماوات.. وهكذا.
كما أننا نجد من التفسيرات الأخرى لهذه الرؤية ما يذهب نحو مزيد من التعمق .. فالعالم ” ريتشارد ويلكنسون ” يعتقد ويدلل على اعتقاده في كتاب يستفيض في هذه الدراسة بأن الرمز عند المصري القديم كانت من أهم وظائفه السرية هي أن يوحى ( أو يظهر ) وأن يخفى في آن واحد..، فهو يوحى عن طريق استدعاء مظاهر من الواقع.. بينما يخفى عن طريق الحد من الجمهور أو الفئات التي من شأنها أن تفهم هذه الرسالة..، والجدير بالذكر أن رغم وجود مثل هذه الدراسة الموسعة التي قام بها هذا العالم إلا أنه يقر أن مثل هذا التفسير ربما يكون بمثابة المفتاح فقط الذي بواسطته نحاول أن نفهم أكثر العالم عند المصري القديم.
وقد لا يقلل هذان التفسيران أحدهما من أهمية الآخر.. بل بالعكس من الممكن أن تتم إضافتهما إلى بعضهما البعض.. إلا أن التفسير الثاني قد يشكل أهمية كبرى عند الإشارة إلى تأثر المسيحيين الأوائل والفلاسفة وجماعات الغنوصيين** بهذه الروح في استخدام الرمزية التي تخفى وتوحي في آن واحد ..، وعلى كلٍ فإن التفسير الأول والذي ينتمي إلى نظرية ” النماذج الأصلية ” من الممكن أن يُظهر بوضوح مدى تأثير الرمز عند المصري القديم على من تلاه من مفكرين ومشرعين في العصور اللاحقة له.. وخاصةً المسيحيين .. فكما ذكر ” كارل جوستاف يونج ” : أن الصور والخيالات لا تقترب من الإنسان في العالم المرئي فقط ، ولكنها توجد كذلك في أعماق نفسه ، في منطقة العقل الباطن ( اللاشعور ) ، وقد تظهر تلك الخيالات للشخص إلى الآن في الأحلام أو في أحلام اليقظة”، وإن هذه النظرية من شأنها أن تؤكد ما سبق ذكره بأن عقيدةً ما .. بدأت واستمرت لآلاف من السنوات لابد وأن تشكل أثراً بالغ القوة على ما يليها من تشريعات عقائدية.. ولكن في هذه المرة نخص من خلالها الرمز المصري القديم بمختلف أشكاله، فإن لم يكن استخدام الرموز المشابهة أو المحورة عن الرمز المصري الأصلي في طقوس ديانات وعقائد أخرى تالية بقصد الاستلهام.. فإنه قطعاً سوف يكون منطقياً في ضوء هذه النظرية.. ألا وهى انعقاد ودمغ صورة هذه الرموز في الوجدان الإنساني..لدرجة إعادة استخدامها وربما دون وعى العقل الظاهر لأصولها الأولى ، وربما لم تأتي هذه المنظومة الرمزية عند المصري القديم بهذه القوة وهذا العمق والحصافة إلا لأن أصل عقيدته لم تكن بالفعل وثنية ، وإن من يتبحر في هذا الشأن باستطاعته الاقتراب من هذا الاعتقاد.. ولكن ومن ناحية أخرى فإذا كان استقاء واستلهام العديد من الحضارات والتشريعات الدينية من المصري القديم قد جاء في شكل وثنى صريح وسطحي، فربما كان هكذا نظراً لأن هذا الاستلهام لم يكن عن فهم عميق أو معايشة كافية لبواطن الأمور.
وبشكل عام فإننا قد تطرقنا لمثل هذه الآراء للخروج باستدلال هام..، فبتتبع مثل هذه الأبحاث العلمية والآراء الأكثر حداثة يتكشف لنا مزيدًُ من الأمور التي تأخذ تطبيقات ونتائج هذه الأبحاث في سياقات مختلفة عما سبقها.. حيث سيتضح لنا مما سبق أنه إذا كان الفكر العقائدي لدى المصري القديم قد وصل إلى هذا الحد من الرقى والنضج.. فإن هذا التوجه الرمزي في شــتى صور حياته وعلى الأخص في فنونه قد جاء بهذه القوة وهذا التميز في الروحانية التي جعلت له آثاراً ملموسة في الفنون التاليـة له وعلى الأخص الفنون المسيحية الشرقية ( بل والفنون المسيحية الغربية أيضاً ) ، فالمسألة هنا ليست بمثابة إرث تراثي وحسب.. ولكنه إرثُ ذو بعد فلسفي غايةً في التأثير.. اســتطـاع أن يـخترق - خلسـةً أو عن عمد - المجتمع المصري عبر فصول تاريخه التالية من خلال أصحاب الفكر والمعرفة أو لنقل رسل المعرفة المقدسة والمتواجدين في كل زمان ومكان من العالم ، لنجد أن حتى مثل هذه التأثيرات قد جعلت إسلام القرن السابع الميلادي في مصر وحتى الآن مختلفاً عن باقي أقطار العالم.. ولا سيما العربي والذي لا يفصل بيننا وبينه سوى بحرٍ.
_____________________
* ماعت هي التي يرمز لها بريشة النعامة التي كانت توضع في إحدى كفتى الميزان عند الحكم على الميت في محكمة العالم السفلى في تصور المصري القديم والذي كان في حياته دائماً ما يسعى للتوافق مع النظام الكوني والإلهي وليسمى Maati أو الصدّيق أي صديق لماعت.. وفى رؤية أخرى أن ماعت هي إحدى تجليات أوزير،ويلاحظ استخدام المجتمعات الحديثة إلى يومنا هذا شكل امرأة تحمل الميزان في قاعات المحاكم وهى مغمضة العينين ..، وإن استمرار تواجد (ماعت) في بعض رسوم تل العمارنة لهو أكبر دليل على تجسيدها لفكرة العدالة التي تطلع صوبها المصري القديم على مر عصوره .. وليس لكونها إلهة..
* * جماعات الغنوصيين: جماعات ذات فلسفة خاصة بهم تركز على المعرفة باعتبارها أول الطرق لمعرفة الإله ومعرفة النفس (اللدنية) وقد عاشت هذاه الجماعات في القرون الميلادية الأولى وسوف يتم الحديث عنهم بالتفصيل في مقالات قادمة وذلك لارتباطهم الفكري بالمصري القديم.
عن جبلة كوم