يوسف شاهين
1926- 2009
ولد يوسف شاهين في مدينة الاسكندرية بمصر من عائلة كانت قد انتقلت الى مصر من لبنان. درس في الاسكندرية حتى المرحلة الجامعية.
عشق يوسف شاهين المسرح ورغب في الذهاب الى الولايات المتحدة الامريكية لمتابعة دراسة الدراما في معهد باسادينا بلايهاوس في لوس انجيلوس. ويؤرخ شاهين لتلك المرحلة من حياته في العام 1978 عبر فيلمه "الاسكندرية ليه" الذي كان الاول في ثلاثية استوحاها المخرج من حياته الخاصة وشملت ايضا حدوتة مصرية 1982 و"الاسكندرية كمان وكمان" 1989.
يعتبر المخرج العربي العالمي يوسف شاهين أحد العلامات الفارقة في تاريخ السينما العربية، قدم للعالم لغة سينمائية جديدة فحصد العديد من الجوائز واعترف به العالم كمخرج عربي عالمي مميز.
قدم يوسف شاهين حتى الآن ثلاثين فيلماً، بدأها بفيلم بابا أمين 1950 وذلك بعد عودته من أمريكا، حيث درس السينما هناك. هذا الفنان، اختلف معه الكثيرون، ووجهت له الكثير من الاتهامات، وبالذات في أفلامه الأخيرة، أهمها بعده عن قضايا الجماهير، والاهتمام بتقديم تكنيك وإبهار سينمائي فقط، على حساب المضمون، متجهاً بذلك نحو الجمهور الغربي والأوروبي.
إن المتابع لمسيرة شاهين السينمائية، من خلال جميع أفلامه، يكتشف بأنها تعكس، الى حد كبير، ذلك التطور الفكري والفني، وذلك الوعي الاجتماعي والسياسي الذي تحمله شخصية هذا الفنان. ويمكننا تقسيم مشوار شاهين السينمائي الى مرحلتين أساسيتين: مرحلة نمو الوعي الاجتماعي، ومرحلة تعمق الوعي السياسي، حيث أن شاهين عندما بدأ هذا المشوار، لم تكن القضايا الاجتماعية والاهتمامات السياسية تعني له الشيء الكثير، ولكنه، عفوياً وتلقائياً، وجد نفسه يدافع، ببساطة متناهية وصدق مؤثر، عن الفلاح المصري في فيلمه ابن النيل- 1951.
لم يكن شاهين، في ذلك الوقت، يفهم مشكلة الفلاح المصري، ولا كان يعي الواقع الاجتماعي والمعيشي الذي فرض على هذا الفلاح أوضاعاً حياتية مزرية، وربما جاء ذلك نتيجة انتماء شاهين الطبقي الى بيئة بورجوازية. ومع هذا، فقد كان فيلم صراع في الوادي ـ 1953 صرخة عنيفة ضد الإقطاع، عبر فيه عن نظرته المليئة بالحنان والحنو للفلاحين. فقد طرح قضية الصراع الطبقي بين الإقطاع والفلاحين بشكل صارخ، لم تشهده السينما المصرية من قبل. وبالتالي يمكن اعتبار صراع في الوادي) بمثابة الخطوة الحقيقية الأولى في مرحلة نمو الوعي الاجتماعي عند شاهين. وكانت الخطوة التالية في فيلم صراع في الميناء ـ 1956، والذي اهتم فيه شاهين، ولأول مرة، بأوساط العمال والبحث في مشاكلهم.
أما بفيلم باب الحديد ـ 1958، فقد وصل شاهين الى مرحلة فنية متقدمة، جعلته أهم شخصية سينمائية في مصر آنذاك، حيث كان هذا الفيلم متقدماً على السينما المصرية بسنوات، الأمر الذي يفسر فشله التجاري وإحجام الجمهور عنه. ففي فيلمه هذا، برع شاهين في تصوير قطاع من الحياة اليومية، بقدر ما برع في تجسيد شخصية ذلك الفقير المقعد "قناوي". وقد كان باب الحديد مفاجأة حقاً، ليس لصدقه المتناهي ومضمونه المتميز فحسب، وإنما ـ أيضاً ـ لأسلوبه الجديد ولغته السينمائية المتقدمة وجمالياته الخاصة.. وليس هناك شك في أن يوسف شاهين قد سجل، بهذا الفيلم، خطوة متقدمة في مرحلة نمو الوعي الاجتماعي.
بعدها، قدم يوسف شاهين جميلة الجزائرية ـ 1958 معبرا فيه عن ذلك الشعور القومي والتضامن العربي مع الجزائر في حربها التحررية ضد الفرنسيين. لم يتضمن الفيلم أي تحليل سياسي لقضية الشعب الجزائري، وإنما جاء فيلماً حماسياً صادقاً، هذا بالرغم من أنه يعد نقطة تحول عند يوسف شاهين، حيث يقول شاهين: "...إن الوعي الاجتماعي قد دخل أفلامي بعد فيلم جميلة.. في جميلة كنت وطنياً بالفطرة، كانت الأمور بالنسبة إليّ أشبه بالعسكر والحرامية، الناس في الفيلم كانوا إما جيدين أو سيئين، وعندما خرجت الجماهير من قاعة العرض وأحرقت السفارة الفرنسية، أدركت إنني فجرت شيئاً لا أعرفه، هناك صراعات أبعد من قصة العسكر والحرامية. بدأت أقرأ عن مذاهب فلسفية واجتماعية، وتعرفت على عدد من السياسيين، بدأت أكتشف تدريجياً بعض القوانين ولغة الصراع، فأخذت تتكون عندي عموميات فكر سياسي...".
وبفيلم الناصر صلاح الدين ـ 1963 يؤكد يوسف شاهين قدراته السينمائية والتقنية، حيث يقدم من خلاله ملحمة على طريقة أفلام هوليوود الضخمة، عن الحروب الصليبية التي قادها صلاح الدين الأيوبي ضد أوروبا، مشيراً ـ بشكل واضح ـ الى عبد الناصر، الذي قاوم أوروبا أيضاً إبان العدوان الثلاثي على مصر.
قدم شاهين بعدها، فيلم فجر يوم جديد ـ 1964 متناولاً فيه وضع الطبقة البورجوازية في مصر بعد ثورة يوليو 1952. ويعلق شاهين على هذا الفيلم، فيقول: "...كنت لازلت مثالياً، فتصورت إن الأمل يأتي من داخل البورجوازية ذاتها، وربما يعود هذا التصور الى طبيعة انتمائي الطبقي...".
في عام 1967، بدأ شاهين بالعمل في فيلم الناس والنيل وهو إنتاج مشترك مصري/سوفياتي، عن تعاون البلدين في بناء السد العالي، إلا أن النسخة الأولى من الفيلم لم تعجب المسئولين المصريين، مما اضطره الى إجراء تعديلات عليه، انتهت الى نسخة جديدة منه لم تعجبه هو. وقد كان هذا الفيلم خاتمة مرحلة نمو الوعي الاجتماعي؛ وبداية تعمق الوعي السياسي عند شاهين، مرحلة جديدة أعقبت هزيمة 1967، بدأها بفيلم الأرض ـ 1968، حيث لم تكن هذه المرحلة هامة وحاسمة بالنسبة لشاهين فقط، وإنما كان صدى الهزيمة وتأثيرها قد أصاب غالبية المثقفين العرب، إن لم نقل غالبية الشعب العربي. كانت الهزيمة بمثابة الصفعة القوية والحدث الأفجع، بل كانت مرحلة انتهت فيها العفوية والتعاطف مع الطبقات الشعبية، وجاءت لحظة الالتزام الحقيقي والوعي السياسي والاجتماعي الجاد. وقد بدا ذلك واضحاً بالنسبة ليوسف شاهين، حيث ذلك الفرق ما بين فيلمي صراع في الوادي، الأرض، على الرغم من طرحهما لموضوع متشابه، ألا وهو صراع الفلاحين ضد الإقطاع. فقد عبر شاهين بصدق عن هذا الصراع في فيلمه (الأرض)، وأكد مقدرته على النفاذ الى أعماق الفلاح وتصوير حياته البسيطة التي تمتزج فيها المأساة بلحظات الفرح، وكان الفيلم بمثابة التحفة الفنية الرائعة، ومن أهم ما أنتج في السينما المصرية عن الأرض والفلاح.
بعد (الأرض)، أصبحت الرؤية الفكرية والوعي السياسي لدى شاهين واضحين، بل أخذا يتأكدان من فيلم الى آخر. ففي فيلم الاختيار ـ 1970 يتأمل شاهين أوضاع المثقفين وينتقد مواقفهم، وكأنه بذلك يمارس نقداً ذاتياً، حيث يناقش قضية ازدواجية المثقف ودوره في التفاعل مع قضايا الجماهير. أما في فيلم العصفور ـ 1973 فيناقش، وبتحليل فكري ناضج، الأسباب الحقيقية للهزيمة، ويطرح وجهة نظر جريئة جداً، بل ويعلن صراحة بأن الشعب لم يهزم، وإن القيادة هي التي انهزمت.
أما أفلامه الأخرى، والتي تلت العصفور، فقد حاول فيها أن ـ يتابع ويقدم كل ما هو جديد ومتطور في الأوساط السينمائية العالمية، كأسلوب وأدوات وحتى تقنية، هذا مع استمراره في تناول قضايا سياسية واجتماعية تهم الجماهير وتهمه هو بالذات، خصوصاً في ثلاثيته إسكندرية ليه ـ 1978 ، حدوتة مصرية ـ 1982 ، إسكندرية كمان وكمان ـ 1990. ففي أفلامه هذه قدم يوسف شاهين أسلوباً جديداً تميز بحركة كاميرا خاصة وسريعة، وزوايا تصوير استثنائية، وحوار سريع ومركز، إضافة الى المونتاج الحاد السريع والنابض بالحركة. وهذا بالطبع شيء مربك لعين المتفرج، هذا المتفرج الذي أصر على عدم الفهم.
وفي مرحلته الأخيرة، أو في أفلامه الأخيرة فقد قرر أن يقدم ما يريده هو، دون اهتمام قصدي إن كان جمهوره سيعي أو سيتواصل مع ما يقدمه، حيث إن ارتفاع مستوى الجمهور الثقافي والفني أو عدمه، يُفترض أن لا يكون عائقاً أمام أي فنان يسعى الى التجديد، وبالتالي ليس على الفنان أن يتوقف عن إطلاق الحرية لخياله وأفكاره، لمجرد أن هناك متفرجاً متلقياً لم يتطور أو حتى لم يحاول الارتقاء بفهمه واستيعابه للفن المتجدد. وهذه بالفعل معضلة اختلف حولها الكثيرون، ومن بينهم مَنْ اختلف مع يوسف شاهين واتهمه بالتعالي وعدم الاهتمام بقضايا الجماهير.