عندما يزهر السرد.. وتورق الصورة.
قراءة في المجموعة القصصية :"ميت يرزق" لمحمد رابحي
..إلى متى و أمثاله الثائرون .. يمرون مرور الكرام ؟!! و منذ متى كان أترابه أنبياء الحرف من دون رسالة في مجتمع ارتسم على صفحات بوحهم الصادق تعرجات مبهمة مجنونة ؟! إنه منهم .. من هؤلاء الذين فضحهم شكسبير قائلا:"الشعراء ، المجانين و العشاق ، يغترفون من خيال واحد".. و كان بحق هذا الذي سمي "محمد رابحي" و سمته كتاباته "ميت يرزق".. كان الشاعر في القصة و المجنون في تصفح مكنونات مجتمعه بعمق ، و عاشقا كثيرا ما ارتبك أمام جميلات كن بطلات قصصه التي تبدأ سردا كي لا تنتهي .. و تختتم ملفوظات كي يبدأ القارئ في تأويل النص -الشفرة- و لست أدري ماالذي يمكن أن يكون -بول ريكور- قد تناساه في "نظرية التأويل".. ببساطة لأن هنالك نصوصا في القصة القصيرة الجزائرية المعاصرة أصبحت تفوق للتوقع آفاقه ، و للحس أعماقه ، و للخيال فضاءاته .. نصوص لكتّاب على شاكلة :الخير شوار - جميلة طلباوي-عز الدين جلاوجي-محمد الصالح داسة- السعيد بوطاجين-عيسى بن محمود-.. نبيل دحماني..السعيد صباح.. و آخرين متميزين .. آثرنا أن ننزوي في إحدى مغاراتهم القصصية الجادة ، فكانت وقفتنا مع "زاوية" هذا "الميت" الذي مازال "يرزق".. القاص ، الناقد محمد رابحي .
هذا الذي لا تستطيع أن تدنو من نصوصه مدعيا "موت المؤلف" إنه المشتغل على لغة النص حدّ اليقين بقداسة فحوى النص .. و في مسح قرائي موضوعاتي يتجسد ظاهرا من عنوان المجموعة اللافت . المتناص بالمقلوب ، المثير . المستفز .. إنه المناورة على "الاجتماعي" في صورة "الديني".. الأحياء أحيانا لا يرزقون فقرا و مرارة و معاناة !!! فكيف يرزق الأموات !!! إنها صورة المجتمع التي أراد الكاتب وضعها في قالب مختوم "بالديني" : "بل أحياء عند ربهم يرزقون".. و انعكس ذلك على كامل نصوص المجموعة البالغ عددها سبعة عشر نصا .. صورة .. وضعا .. إطارا فنيا تفيض منه المعاني و الدلالات المستهدفة .. إنه بالفعل "فائض المعنى" البول ريكوري .. مع المجتمع كله الذي غدا في حمى السرد "الرابحي" ومضات عاكسة لما هو كائن .. بالفعل .. و في مقاربة موضوعاتية هادئة لهذه المجموعة يمكن القول :
- إنه لم يكد يخلو أيّ نصّ من بعد اجتماعي عميق صارخ .. لذلك يمكن القول بـ:"اجتماعية القصة الرابحية"
- لم يكن القاص نمطيا في طرحه لمجمل العوارض و الفواصل الاجتماعية بالتمام ، و لم يكن فيها في صورة المصلح -الضمير الحي- الصحيح دوما.. بل عاش عيشة شخصياته صدقا .. و مرونة .. بكل ما لها و ما عليها .
- إن هناك موضوعات هيمنت على الحيز الافتراضي لطروحات القاص .. و منها :
1/ الطفولة المضطهدة : و في هذا النقطة بالذات يمكن القول بأن محمد رابحي -قاصا- لم يحرم هذه الشريحة من ممارسة حقها الفني في التشكل داخل كامل تفاصيل الجسد القصصي في أغلب نصوص المجموعة و تلك النصوص هي :"العوم في كامل الأناقة" – ".. لماذا يعاقب الآباء أولادهم بسبب الصغر"؟ صورة العنف على الطفل جلية ، خاصة إذا مورس عنف من نوع فاحش .. العنف الجنسي على الصغار .. "جعل يغطسها بين أعطافه .. مرغ زهرتها البيضاء على شعر صدره الناتئ .. و تألمت الصغيرة .."
و يكاد يكون محمد رابحي من كتاب القصة القصيرة القلائل الذين أفردوا للطفولة نصوصا مشبعة بفيض عوالمهم .. و عايش واقعهم و تألم بصدق لصورهم في مشاهد مفزعة .. مقلقة .. احتوتها مجموعته القصصية "ميت يرزق" .
2 / و من الموضوعات الكثيرة التي استثمرت في قريحة هذا القاص -إبداعيا- المشاكل الأسرية و المنازعات العائلية لأتفه الأسباب .. و تجسدت هذه الظواهر في النصوص التالية :"مثلث متهاوي الأضلاع – الفأر يقرض العادة – منظر لا يرى من الشرفة – و منها :"و برغم كل هذا .. ما كادا يتحاوران حتى استحال الحوار إلى نقاش حاد ، فعراك ، كسّرت المرآة و كسّر هو المزهرية ، تدخّل الجيران ، ثم حزمت أمتعتها و خرجت إلى بيت أبيها"...
3/ و من الموضوعات الأخرى نجد حضور الحديث عن واقع الطبقية بـأعمق و أوسع مفاهيمها ، و أشرس تداعياتها على ذوي الحس المرهف الذين أريد لكرامتهم أن تداس و لشرفهم أن يندس .. و لكن القاص "محمد رابحي" انتصر لكل هؤلاء الشرفاء – البسطاء بطريقته المدهشة !!! و لم تكن المجموعة بنصوصها تخلو من مغامرات شبابية مجنونة ، و شطحات نفسية رهيبة ، و احتراقات وجدانية مهولة ..
و الذي لا نعرف إن كان يحسب للقاص أو عليه.. أو لحكمة في إبداعه و حنكة في رؤاه .. هو عدم الاشتغال على "السياسي" تماما .. إلا رمزا .. و بدا "التاريخي" حاضرا .. بصيغ و أدوات فنية تعبيرية واعية .. و لكن "الاجتماعي" هو من عجنت به أدوات القاص "محمد رابحي" على مدار سبعة عشر نصا قصصيا .. و للقارئ مستقبلا أن يكتشف الكثير من هذا و ذاك في بوح قصصي يملأ عوالم هذا القاص – الناقد .. الذي عزز فضاءاتنا القصصية ب:"ميت يرزق" و هي إضافة حسنة لجبهة القصة القصيرة في الجزائر ، و فضاء مشرف في واجهة المشهد الأدبي الجزائري .
-علاوة كوسة-