اغتالوها.. و لم أكن هناك..
كنت على أول شوارع أرضها.. عدت و ليتني لما عدت.. وجدت أرضها..
كانت هناك شوارع.. تحيا بدم دافق.. في شرايينها.. كان الهواء حيا.. يحاكيك و تحاكيه.. كان الإسفلت متواضعا يتحمل وقع أقدامنا.. فوق رأسه..
فذاك الهواء.. لم يكن يحمل غير الحب و الود.. كأنك لو مددت يدك للأمام للمست ذاك الصفاء.. فمن شدة إيماننا بنقائه.. ما عادت قيمة ذاك الصفاء و ذاك النقاء محسوسة.. بل أصبحت ملموسة تداعب وجنة كل من قابل ذاك الهواء..
فكان إن مر.. مر بسلام.. و إن ذهب عنا.. ذهب بسلام.. و إن عاد بعد غيبة.. عاد محملا بخير يهطل علينا من فوق رؤوسنا.. يغمرنا بالهدايا معتذرا عن الغياب.. فنصفح..
ذاك زمن..
كان للشجر هوية معروفة.. فإذا ما قيل بين الناس "شجر" .. سرعان ما يلاحق الأذهان لون أخضر.. رقيق الملامح.. إذا ما وقعت عليه عين.. أو وصفه شاعر أو رسام..
فكأن الأرض فتاة.. صغيرة مدللة.. و كأن لها عيونا.. خضراء.. فيها كل البهاء مصور.. لو ينظر الشيطان في عينها.. لخر ساجدا لمن صور.. سبحانك ربي.. خلقت فأبدعت..
و حين يخيم الليل.. تراها في حلة تخطف الأبصار من عيون المبصرين.. فإذا بشعرها الأسود المنسدل على ظهرها.. و فيه حلي و نجوم.. تزيدها بهاء.. و جمالا..
و البدر عاشق.. لا يملك من أمره إلا النظر.. و التمني..
فإذا ما هل صبح على وجهها.. ستر الجمالَ خمارٌ أزرق اللون بهي.. فما عدت ترى غير وجهها الأسمر الجميل.. و هي في كل حال.. تخطف الأبصار من المبصرين..
ذاك زمن
كان الماء.. يداعب سماء المدينة.. و يحاكي ألوانها.. فإذا ما مر طير.. صورته صفحات الماء بدقة.. و إذا ما مرت غيمة.. رصدت عيون النهر تحركاتها.. و بياضها.. و صفائها..
كان شريانها النابض.. و منه كانت كل شرايينها.. و شراييننا.. كان إذا ما غضب أو أعرض عنا.. سقمنا و ظهر في أبداننا و وجوهنا اليأس و الظلمة.. و كان إذا ما فاض على أرضنا.. برضا من ربه علينا.. عادت الأبدان و الوجوه للحياة.. حتى رمل الأرض كنا نكاد نراه يرقص فرحا.. بقدوم الخير.. من جنوب البلاد..
فإذا ما قدم.. كان يقبل ذاك التراب بشوق.. كأنه يعتذر عن ذاك الجفاء.. الذي لم يكن بمشيئته.. و كان يعانق جذور الأشجار بتوق.. شارحا أسفه الشديد على الغياب.. فكان كعودة الأب.. بعد غياب.. يحتضن أولاده.. و يغمر زوجه.. بفيض حنان.. و حب.. و عطاء..
حينها.. ترى الطيور تصور المشهد من كبد السماء.. تنشد للأب العائد لحنا.. تحييه على القدوم.. و تهلل له فرحا بقدومه.. و لو أصغيت حقا.. لما سمعت ما تسمعه الأرض من حولك.. لسمعت طير السماء ينشد "أهلا أهلا يا أبت.. أهلا أهلا يا أبت"..
ذاك زمن..
تلك كانت الأم في شبابها..
لكن شبابها.. اغتيل على غفلة..
تلك مرآة.. رأت من حال الأرض ما رأت..
فما تراه الآن مختلف و لإن تشابهت بعض الصور.. و غدا.. تُحكى باقي الصور..
الكاتب: حسام ناصر