مكتبة الوثائق
تعرف أيضاً باسم حرب أكتوبر أو حرب رمضان في البلاد العربية، وحرب يوم الغفران أو يوم كيبور في إسرائيل والغرب (لأنها بدأت خلال شهر رمضان وفي يوم عيد الغفران، أقدس الأعياد عند اليهود). في 6 تشرين الأول (أكتوبر)، شنت سوريا ومصر هجوماً مباغتاً على القوات الإسرائيلية التي تحتل مرتفعات الجولان السورية وشبه جزيرة سيناء المصرية منذ حرب حزيران (يونيو) 1967. على الجبهة المصرية، تمكن الجيش المصري خلال الأيام الأولى من عبور قناة السويس وتدمير خط بارليف الدفاعي الإسرائيلي المنيع. بدأ الهجوم في الجبهتين معاً في تمام الساعة الثانية بعد الظهر بغارات جوي وقصف مدفعي شامل على طول خطوط الجبهة. تحركت القوات السورية مخترقة الخطوط الإسرائيلية ومكبدة الإسرائيليين خسائر فادحة لم يعتادوا عليها خلال حروبهم السابقة مع العرب. خلال يومين من القتال، باتت مصر تسيطر على الضفة الشرقية لقناة السويس وتمكنت سوريا من تحرير مدينة القنيطرة الرئيسية وجبل الشيخ مع مراصده الإلكترونية المتطورة. إلا أن توقف القتال المفاجئ على الجبهة المصرية (خلافاً للخطة المتفق عليها مع سوريا)، والمساعدات العسكرية الأميركية الهائلة لإسرائيل خلال المعارك، ساعدت الإسرائيليين على القيام بهجوم معاكس ناجح في الجولان يوم 11 تشرين الأول (أكتوبر)، أعاد القوات السورية إلى خطوط وقف إطلاق النار السابقة. تبع ذلك هجوم إسرائيلي معاكس مشابه على الجبهة المصرية، عبرت فيه قوة إسرائيلية إلى الضفة الغربية للقناة مشكلة ثغرة في صفوف القوات المصرية عرفت باسم "ثغرة الدفرسوار". كل هذه العوامل ساعدت على قبول سوريا ومصر بوقف إطلاق النار الذي اقترحه الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة في مجلس الأمن، في 24 تشرين الأول (أكتوبر) تم تنفيذ وقف إطلاق النار.
في أوائل عام 1974، شنت سوريا، غير مقتنعة بالنتيجة التي انتهى إليها القتال، حرب استنزاف ضد القوات الإسرائيلية في الجولان، تركزت على منطقة جبل الشيخ، واستمرت 82 يوماً. توسطت الولايات المتحدة، عبر الجولات المكوكية لوزير خارجيتها هنري كيسنجر، في التوصل إلى اتفاق لفك الاشتباك العسكري بين سوريا وإسرائيل. نص الاتفاق الذي وقع في حزيران (يونيو) 1974 على انسحاب إسرائيل من الأراضي التي احتلتها في حرب تشرين (أكتوبر) ومن شريط من الأراضي المحتلة عام 1967 يتضمن مدينة القنيطرة. في 24 حزيران (يونيو) رفع الرئيس حافظ الأسد العلم السوري في سماء القنيطرة المحررة، إلا أن الإسرائيليين كانوا قد عمدوا إلى تدمير المدينة بشكل منظم قبل انسحابهم، وقررت سوريا عدم إعادة إعمارها قبل عودة كل الجولان. ورغم أن حرب تشرين (أكتوبر) لم تحقق نصراً عسكرياً كاملاً للعرب، إلا أنها كانت نصراً معنوياً كبيراً. فقد شهدت أيام القتال تضامناً عربياً لم يشهد له العالم العربي مثيلاً من قبل, وشاركت قوات من مختلف الدول العربية في المعارك على الجبهتين السورية والمصرية. كما فرضت دول العربية المنتجة للنفط حظراً استمر عدة شهور على تصدير النفط إلى كل الدول المؤيدة لإسرائيل وعلى رأسها الولايات المتحدة، فكان ظهور سلاح النفط العربي لأول مرة.
خطاب السيد الرئيس حافظ الأسد إلى الأمة عقب اندلاع حرب تشرين
6 تشرين الأول (أكتوبر) 1973
أيها المواطنون، يا جنودنا وصف ضباطنا وضباطنا البواسل، يا أبناء شعبنا الأبيّ،
مع تحيتي لكل فرد منكم، أخاطب فيكم الروح العربية الأصيلة، روح الشجاعة والبطولة، روح البذل والتضحية، روح الفداء والعطاء. أخاطب فيكم محبة الوطن التي فطرتم عليها، والإيمان بالقضية التي صممتم على الدفاع عنها.
منذ أسبوع ونيف والعدو يحشد ويعد، وفي ظنه أنه سينال منا بضربة غادرة. وكنا يقظين ساهرين نرصد حركاته وسكناته، ونستعد ونتأهب لرد عدوانه الجديد المحتمل. فلم نسمح له أن يأخذنا على حين غرة، واندفعت قواتنا المسلحة ترد عليه الرد المناسب. ولم يسمح له أخوتنا في مصر أن يأخذهم على حين غرة، فاندفع جيش مصر العظيم يدافع عن كرامة مصر وكرامة الأمة العربية.
فتحية لجيشنا وشعبنا، وتحية لجيش مصر وشعب مصر العربي العظيم. ولا بد لي في هذه اللحظات الحاسمة من أوجه تحية من القلب إلى هؤلاء العسكريين البواسل الذين جاؤوا إلى قطرنا من المغرب الشقيق ليشاركوا في معركة العزة والكرامة، وليقدموا الدم سخياً إلى جانب أخوتهم في سوريا ومصر، فجسدوا بذلك وحدة الأمة ووحدة المصير وقدسية الهدف.
إننا اليوم نخوض معركة الشرف والعزة دفاعاً عن أرضنا الغالية، عن تاريخنا المجيد، عن تراث الآباء والأجداد، نخوض معركة الإيمان بالله وبأنفسنا وبعزيمة صلبة وتصميم قاطع على أن يكون النصر حليفنا في ذلك. لقد بغت إسرائيل وأصابها الغرور وملأت الغطرسة رؤوس المسؤولين فيها، فأوغلوا في الجريمة واستمرأوا أسلوب العدوان، يملأ قلوبهم حقد أسود على شعبنا وعلى البشرية، ويستبد بهم تعطش لسفك الدماء، ويوجه خطاهم استخفاف بمبادئ البشرية ومثلها العليا وبالقرارات والقوانين الدولية. مثل هؤلاء مثل من سبقهم من دعاة الحرب، لا يقفون عند حد ولا يرعون إذا لم تردعهم الشعوب المؤمنة بحقها، المدافعة في سبيل حريتها ووجودها. وإذ نؤدي واجبنا في الدفاع عن أرضنا وشرف أمتنا، فإننا مستعدون لبذل كل تضحية وتقبل كل شدة في سبيل أن ينتصر الحق وتنتصر المبادئ، وفي سبيل أن يسود السلام العادل.
أيها الأخوة المواطنون،
إن الشدائد هي محك لمعدن الشعوب وامتحان لأصالتها، وكلما ازدادت الأمة شدة ظهر المعدن الصافي وتأكدت الأصالة الراسخة. إنكم أبناء أمة عرفت على مدى التاريخ بمواقف الرجولة والإباء، مواقف البطولة والفداء، أبناء أمة حملت رسالة النور والإيمان إلى أصقاع الأرض، وشهد لها العالم قاطبة بأسمى الصفات وأنبل الأخلاق. فيا أحفاد أبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم، يا أحفاد خالد وأبي عبيدة وسعد وصلاح الدين، إن ضمير أمتنا ينادينا وأرواح شهدائنا تستحثنا أن نتمثل معاني اليرموك والقادسية وحطين وعين جالوت. وإن جماهير أمتنا من المحيط إلى الخليج تشخص بعيونها وأفئدتها إلى صمودنا العظيم، وكلها أمل وثقة بأننا إلى النصر سائرون.
يا جنودنا وصف ضباطنا وضباطنا البواسل، نحن أصحاب حق وأصحاب قضية عادلة، والله ينصر من كان على حق ومن كان عن حقه ذائداً مدافعاً. إنكم اليوم تدافعون عن شرف الأمة العربية وتصونون كرامتها وتحمون وجودها وتضحون كي تحيا الأجيال القادمة هانئة مطمئنة. وتشاء إرادة العلي القدير أن يكون جهادكم في هذا اليوم من أيام الشهر الفضيل، شهر رمضان شهر الجهاد، شهر غزوة بدر، شهر يوم الفتح، شهر النصر، صفحة ناصعة في تاريخ قواتنا المسلحة نضيفها إلى العديد من صفحات البطولة والفداء التي سطرتها بدماء الشهداء الأبرار في تاريخ قطرنا ووطننا. لقد انتصر أجدادنا بالإيمان بالتضحية، بالتسابق على الشهادة دفاعاً عن دين الله ورسالة الحق. وإنكم اليوم، ببطولاتكم وشجاعتكم، إنما تستلهمون هذه الروح وتحيونها وتحيون بها تقاليد أمتنا المجيدة.
سلاحكم بين أيديكم وديعة، فأحسنوا استعماله، وشرف الجندي العربي في أعناقكم أمانة، فصونوا الأمانة، ومستقبل شعبنا في عهدتكم، فابذلوا المستحيل دفاعاً عنه. وإن شعبنا الذي تعمر صدور أبنائه حماسة، يقف وراءكم صفاً واحداً يحمي خطوطكم الخلفية ويدعم جهادكم بكل ما يملك، ومن ورائه جماهير أمتنا العربية التي لا أخالها إلا واقفة الموقف الذي يمليه الواجب القومي في هذه المرحلة الحاسمة، وخلفها من بعد في العالم أصدقاء عديدون يؤازرون حقنا ويدعمون قضيتنا ويؤيدون نضالنا.
لسنا هواة قتل وتدمير، إنما نحن ندفع عن أنفسنا القتل والتدمير. لسنا معتدين ولم نكن قط معتدين، لكننا ولا نزال ندفع عن أنفسنا العدوان. نحن لا نريد الموت لأحد، إنما ندفع الموت عن شعبنا. إننا نعشق الحرية ونريدها لنا ولغيرنا، وندافع اليوم كي ينعم شعبنا بحريته. نحن دعاة سلام، ونعمل من أجل السلام لشعبنا ولكل شعوب العالم، وندافع اليوم من أجل أن نعيش بسلام. فسيروا على بركة الله وإن ينصركم الله فلا غالب لكم. والسلام عليكم.
خطاب السيد الرئيس حافظ الأسد إلى الشعب بعد وقف إطلاق النار
24 تشرين الأول (أكتوبر) 1973
أيها الأخوة المواطنون، أيها الأخوة العسكريون،
أبناء شعبنا العربي،
قبل خمسة أيام كان موعدي معكم. أردت في ذلك الموعد، مساء الرابع والعشرين من تشرين الأول، أن أصارحكم كعهدي معكم دائماً، أن أجلو لكم ما كان قد حدث، وأن أرسم صورة المستقبل كما تصورتها. كانت تطورات قد حدثت ولم تكن في الحسبان. وقد أردت أن تعرفوا قدر المستطاع كيف حدثت وما هي عواقبها.
وطرأت مشاغل سببها تسارع الأحداث في ذلك المساء، فأرجأت حديثي على كره مني، وبقيت أتحين الفرصة لأعود فأخاطبكم. وحين وجدت فرصتي اليوم، عدت إلى ما كنت دونته لأقوله لكم، وتأملته ملياً، فلم أحذف منه كلمة، بل أضفت إليه ما يمكن أن يزيد الصورة وضوحاً ويزيد الأمور جلاء.
أيها الأخوة،
لقد واجه شعبنا التحدي بإرادة لا تقهر وعزيمة لا تفتر، وواجه الشدائد بالصمود والتصميم، فسطّر في تاريخ النضال العربي المعاصر صفحات مشرقة مشرفة، رفع بها رأس الأمة العربية عالياً، وقدّم بالدم والتضحيات والفداء، الدليل القاطع على أن هذه الأمة أقوى من كل محاولات الأعداء للنيل منها.
واجه شعبنا التحدي بالإرادة والصمود والسلوك الرائع، يدعم بها وقفة البطولة والرجولة التي وقفتها القوات السلحة العربية في ساحة القتال، حين قهرت بالدم والنار قوى الغدر والعدوان، فانتصرت الذات العربي، وانتصر الإنسان العربي لأنه عرف ذاته وفجّر صاقاته، وأثبت للملأ أنه قادر على استخدام منجزات العلم في ميدان القتال كما في ميدان التنمية والبناء.
لقد كانت هذه الأيام الثمانية عشر التي انقضت على حرب التحرير، تجربة هامة فرضت نفسها على شعبنا، فاجتاز التجربة بنجاح، بل اجتازها بتفوق. صمد الإنسان العربي صموداً جباراً، وقاتلت القوات العربية قتالاً بطولياً، ورصّ شعبنا صفوفه وراء قواته المسلحة في جبهة متماسكة قوية، وجمعت الأمة العربية إمكاناتها وزجّت بالكثير منها لتعزيز الصمود ودعم المجهود الحربي.
وكان وراء كل ذلك إيمان بالله، وإيمان بالقضية التي قاتلنا في سبيلها، وثقة بالقدرة الذاتية وبالطاقات العربية الهائلة. وها نحن اليوم نشعر بأننا أقوى من أي وقت مضى، وأوفر قدرة على مواصلة مسيرة النضال بالسلاح والتضحية والفداء، وأشد ثقة بقدرتنا على تحقيق النصر.
وقد قاتلنا ونقاتل دفاعاً عن أنفسنا، عن حقوقنا، عن أرضنا، وعن مبادئنا. وقاتلنا ونقاتل لكي ندفع القتل والتدمير عن شعبنا ووطننا. وأعلنّا، منذ بدء الحرب، أننا ننشد الحرية، ونضع نصب أعيننا هدفين للقتال، نتمسك بهما ولا نحيد عنهما مهما غلت التضحيات ومهما طال الطريق. هذان الهدفان هما: تحرير الأرض العربية المحتلة، واسترداد حقوق شعب فلسطين المغتصبة. وأكدنا، بالوقفة الجبارة لقواتنا المسلحة وجماهير شعبنا، وبالدعم الذي قدمته أمتنا العربية، تصميمنا الأكيد على بلوغ هذين الهدفين بأي ثمن.
وفيما كانت قواتنا المسلحة تعزز مواقعها يوماً بعد يوم، ويخرج من صفوفها أبطال أشاوس، وتحقق المزيد من النجاحات في سيرها بعزم وتصميم نحو إلغاء أية مكاسب حققها العدو على الأرض، وفيما كان شعبنا يعزز صموده، ويؤكد بالسلوك والعمل الإيجابي اليومي، عزمه على مواصلة سياسة النفَس الطويل، كان العالم يتابع تطور الصراع الناشئ في منطقتنا، ويراقب تنامي قدراتنا وتصاعد صمودنا العظيم بنظرات تتراوح بين الإعجاب والتقدير والتأييد من جهة، وبين الحذر والقلق من جهة أخرى. كان العالم يتابع، في الوقت ذاته، تحطم صلف عدونا وغروره على صخرة قواتنا، وتبدد أحلامه في قهر إرادة شعبنا، وبدت للذين اتخذوا المواقف العدائية تجاه أمتنا نذر القضاء على مصالحهم في كل أنحاء الوطن العربي. كما أخذ الوعي العالمي لحقيقة إسرائيل وطبيعتها العدوانية يزداد يوماً بعد يوم. وتتابعت قرارات الدول الأفريقية بقطع العلاقات مع إسرائيل، إدانة لعداونها واستنكاراً لتحديها الرأي العام العالمي.
وفي خلال ذلك، كانت عوامل الشقاق بين الحكومة الأمريكية وحلفائها في أوروبا الغربية تتفاعل، فيضغطها أصحاب الشأن لئلا تتفجر، والقتال في هذه المنطقة ما يزال مستمراً. وكانت عوامل الخلاف تفعل فعلها داخل مجتمع إسرائيل، وتهدد هي أيضاً بانفجار لا يقوى مجتمع العدو على احتماله. وفوق هذا وذاك، كانت قضيتنا تهز الضمير العالمي.
في هذا الجو العالمي، وتحت تأثير الصمود العربي الجبار قبل كل شيء، جاء قرار مجلس الأمن الداعي إلى وقف إطلاق النار، والذي اتفقت عليه الدولتان الكبريان: الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة الأمريكية، وقدمتاه بصورة مشتركة، وتبناه مجلس الأمن بدون معارضة أحد من أعضائه.
كان صدور هذا القرار مفاجأة لنا، بل إننا لم نعلم بوجود مشروع القرار أو بدعوة مجلس الأمن للانعقاد إلا بعد أن تناقلته دور الإذاعة ووكالات الأنباء. وقد وضعنا ذلك أمام ظروف جديدة كان لا بد من أخذها بعين الاعتبار. وكان القرار موجهاً إلى كل أطراف القتال، ونحن طرف رئيسي، فكان ينبغي لنا إذن أن ندرسه وندرس الظروف المستجدة التي نشأت عنه، وأن نحدد موقفنا منها.
وهكذا كان. درسنا قرار مجلس الأمن بشعور عميق بالمسؤولية، انطلاقاً من المصلحة القومية، والالتزام بالمبادئ والأهداف التي قاتلنا في سبيلها. وعقدنا لهذه الغاية في يومي الاثنين والثلاثاء، أي منذ صباح الثاني والعشرين وحتى نهاية الثالث والعشرين من تشرين الأول، اجتماعات مطولة للقيادتين القومية والقطرية لحزب البعث العربي الاشتراكي والقيادة المركزية للجبهة الوطنية التقدمية. وأجرينا اتصالات تبادلنا خلالها الرأي مع ملوك ورؤساء الدول العربي، كما أجرينا اتصالات مع الاتحاد السوفياتي. وكانت كل هذه الاتصالات موضع اعتبار في اجتماعاتنا التي خصصناها لدراسة قرار مجلس الأمن. وقد توخينا من اتصالاتنا مع الشقيقة جمهورية مصر العربية ومع الاتحاد السوفياتي، أن نستجلي الموقف بكل نواحيه فيما يتعلق بهذا القرار.
خلال ذلك، أكد لي الأخ الرئيس أنور السادات أنه تلقى من القادة السوفيات ضمانات بأن يتم انسحاب إسرائيل انسحاباً كاملاً من جميع الأراضي العربية المحتلة. وأكد لنا الاتحاد السوفياتي أيضاً، أن موقفه في كل هذا الأمر ينسجم ويتجاوب مع موقفنا ومصالحنا وتطلعات شعبنا المشروعة. ولذلك، فإنه عند إعداد مشروع قرار مجلس الأمن، استرشد بتأكيدنا على انسحاب إسرائيل الكامل من الأراضي العربية المحتلة، وعلى استرداد حقوق شعب فلسطين.
وبنتيجة الاتصالات التي أجريناها، وخاصة مع الشقيقة جمهورية مصر العربية ومع الاتحاد السوفياتي، باعتباره إحدى الدولتين صاحبتي مشروع القرار، فقد فهمنا قرار مجلس الأمن بأنه يعني انسحاب إسرائيل الكامل من جميع الأراضي العربية المحتلة، وفهمنا أيضاً أنه يعني عدم المساس بحقوق الشعب العربي الفلسطيني الذي سيكون وحده صاحب الرأي الأول والأخير، وصاحب القرار النهائي عند أي بحث لقضيته.
على أساس هذا الفهم لقرار مجلس الأمن، وبعد أن وافقت عليه جمهورية مصر العربية في ضوء القناعات التي تكونت لدى الأخ الرئيس أنور السادات، اتخذنا في القيادة المركزية للجبهة الوطنية التقدمية، قراراً بالموافقة على قرار مجلس الأمن. وصدرت الأوامر إلى القوات المسلحة بوقف إطلاق النار، بشرط أن يلتزم العدو بذلك، وعلى أن تظل قواتنا المسلحة على أتم الاستعداد لاستئناف القتال إذا ما دعت الضرورة إليه.
أيها الأخوة،
إن الانتصارات التي حققناها خلال هذه الحرب، انتصارات رائعة ومفخرة من مفاخر تاريخنا، تستحق منا كل تقدير وإعجاب. وقد أضافت إلى تاريخ أمتنا المجيد صفحات رائعة ومجيدة، وهي من أروع المنجزات التي قدمها شعبنا لنضاله في هذا العصر.
ماذا تعني هذه الانتصارات؟ هل تعني أننا حررنا الأرض التي يحتلها العدو؟ كلا، لم نحرر الأرض بعد، بل ما يزال قسم من الأرض في منطقة الخرق بيد العدو، لأن وقف القتال جاء مفاجئاً لنا ومغايراً لتصورنا عن سير المعركة، إذ كنا نتصور معركة طويلة الأمد، وفي مثل هذا التصور يتم تحركنا في اتجاهات مختلفة وبكثير من المرونة، وبما يخدم هدف المعركة النهائي. وفي مثل هذا التصور أيضاً، قد يكون من غير الضار، بل قد يكون من المفيد أن يتواجد هذا العدو هنا أو هناك في منطقة قريبة أو بعيدة لفترة من الزمن تطول أو تقصر. كل ذلك وغيره يتم في هدي دليل واضح محدد هو الهدف النهائي للحرب.
لا شك أن الأخوة المواطنين الذين يستمعون الآن، يرغبون في مزيد من الشرح حول هذه النقطة بالذات. ولكن مزيداً من الشرح والتفصيل قد يفيد العدو. أنا أيضاً أرغب في مزيد من الحديث حول هذه النقطة، يمنعني في ذلك ما يمكن أن يفيد منه العدو.
ومن هنا، أعود لأقول أننا لم نحرر الأرض بعد، وأن قرار مجلس الأمن كان مفاجأة لنا ومغايراً لمسيرتنا وتصوراتنا. إذن ما هي انتصاراتنا؟
إنها كبيرة. لم تحرر الأرض، لكننا حررنا ما هو الأساس، وما لا بد من تحريره أولاً. حررنا إرادتنا من كل قيد، حررنا إرادتنا في القتال من أجل حياة شريفة وكريمة، حررنا نفوسنا من عقدة الذنب والقصور طالما أننا، في السابق ومنذ قيام إسرائيل، لم نحارب كما يجب أن نحارب. حررنا صورتنا الحقيقية من كل ما لحق بها من زيف وتشويه، فأصبحت الصورة التي تؤكد قدرتنا على استيعاب المعارف واستخدامها، الصورة التي تؤكد قدرتنا الكبيرة في مجال العلم واستثمار معطياته ونتائجه، الصورة التي تؤكد أن في أمتنا مواهب كثيرة وكبيرة، الصورة التي تؤكد أننا نؤمن بالحق وندافع بقوة عمن يؤمن به، الصورة التي تؤكد أننا نرفض التخاذل ولا مكان بيننا للجبناء، الصورة التي تؤكد أننا أصحاب تراث ونحرص ونستطيع أن نجسد وأن نتمثل هذا التراث، الصورة التي تؤكد إيماننا بأمتنا ووطننا لا تحده حدود، وفي سبيل هذه الأمة وهذا الوطن، نقدم كل تضحية مهما غلت التضحية؛ الصورة التي تؤكد أن أمتنا أمة خيرة معطاء تعمل من أجل الخير وتدافع بعنف ضد كل مظاهر الشر. حررنا صورتنا الحقيقية من كل ما لحق بها من زيف وتشويه، فأصبحت الصورة التي تجسد كل الفداء وكل التضحية وكل البطولة.
هذه هي المعاني التي حققناها، وهذه هي انتصاراتنا، وهي بالتأكيد منطلق وأساس لكل انتصار آخر. هذه الانتصارات رصيد كبير ودائم لشعبنا وأمتنا؛ فلا انتصار مع الجهل، ولا انتصار مع الخوف، ولا انتصار مع التردد، ولا انتصار مع التخاذل. من أجل ذلك كان لا بد أن ننتصر أولاً على الجهل، ثم ننطلق لننتصر في أي معركة نخوضها ولتحقيق أية أهداف نبتغيها.
أيها الأخوة،
بعد الذي حدث، بعد الذي تحقق، لنفخر، لنعتز، لنرفع رؤوسنا عالياً. لن نحني رؤوسنا أبداً إلا لله جل جلاله أولاً، ولشهدائنا العظام ثانية. شهداؤنا هم البناة الأكثر أهمية لهذا الوطن، شهداؤنا مشاعل النور على طريق الحياة حتى نهاية الحياة، شهداؤنا مشاعل الضوء أمام هذا الجيل وأمام كل جيل حتى نهاية الأجيال. شهداؤنا شعلة من نور ساطعة بغير حدود، وضاءة بغير نهاية؛ فلنسر في ضوئها إلى حيث الحق والعدل والخير، إلى حيث تنعدم كل مظاهر الشر، إلى حيث ننتصر.
أيها الأخوة،
رغم أن قرار مجلس الأمن جاء مخالفاً لتصوراتنا، فإن ذلك ينبغي ألا يحجب عن أبصارنا حقيقة أن هذا القرار جاء نتيجة لصمودنا. ومن هنا فهو، فكل تأكيد، يمثل أحد مظاهر انتصاراتنا. قد يكون هذا الكلام، أيها الأخوة المواطنون، موضع أخذ ورد. ولكن أمامنا دليلاً واضحاً: في عام 1967، عندما لم نستطع أن نصمد، لم يصدر مثل هذا القرار. صدر قرار مختصر، بند واحد يقول بوقف إطلاق النار. لم يكن هناك قرار يجسد تصوراً، بغض النظر عن صحة أو عدم صحة، عدالة أو عدم عدالة هذا التصور. لم يصدر قرار يمثل تصوراً لحل المشكلة في هذه المنطقة. صدر قرار بوقف إطلاق النار فقط، أما القرار رقم 242 الذي يضع تصوراً لحل المشكلة في هذه المنطقة، فقد صدر بعد ستة أشهر من حرب 1967.
القرار الذي صدر خلال الحرب، كان فقط قراراً بوقف إطلاق النار، لأننا لم نستطع آنذاك أن نصمد. الآن صمودنا هو الذي فرض أن يصدر قرار فيه تصور كامل لحل المشكلة في هذه المنطقة. والتصور هو ما فهمناه. نحن فهمنا هذا القرار على أنه فيه حل لمشكلة منطقتنا، على أساس أن هذا القرار يعني انسحاب إسرائيل من الأراضي العربية المحتلة، وضمان عدم المساس بحقوق الشعب العربي الفلسطيني.
العامل الوحيد الذي فرض أن يصدر قرار بهذا الشكل، هو صمودنا نحن. ومن هنا كان لا بد من أن نعتبر أن هذا القرار هو بالتأكيد أحد مظاهر انتصاراتنا. وقد قبلناه من موقع القوة، محتفظين بقدراتنا القتالية وبكبريائنا القومية، ومن موقع الثقة الأكيدة بالنفس وبقدرة شعبنا وقوة سلاحنا.
بل إن التبدل الإيجابي الذي تم على الصعيد الدولي تجاه القضية العربية، كان العامل الحاسم في تحقيقه هو بسالة القوات العربية في ساحة القتال، ومواقف العزة والإباء التي وقفتها في كل المعارك الضارية ضد العدو، واستنزافها المستمر والمتصاعد لقوات العدو ومعداته، يعزز كل ذلك صمود رائع لشعبنا في جبهة داخلية متراصة وفي إطار وحدة وطنية منيعة، كما يعززه دهم مؤثر من أمتنا العربية.
أيها الأخوة،
إننا نبدأ الآن مرحلة جديدة من النضال، يجب أن نبدأها بعزم وبثقة بالنفس كتلك التي بدأنا بها مرحلة الصراع المسلح في ساحة القتال. وكما أن التردد لا مكان له في المعارك العسكرية، فإنه غير جائز أيضاً في المعارك السياسية. ولا يمكن بأي شكل أو بأي تحليل فصل معركتنا السياسية عن معركتنا العسكرية، لأن الأولى جاءت وليدة الثانية، وهي متلازمة معها ومعتمدة عليها. ولقد حققنا بصمودنا في المعركة العسكرية نتائج مجيدة، ونحن قادرون أيضاً بالصمود والثقة بالنفس والتماسك القوي في الجبهة الداخلية والتلاحم المتين مع أمتنا العربية، أن نحقق النجاح في المعركة السياسية. ونجاحنا في هذه المعركة يكون إما ببلوغ الأهداف التي قاتلنا من أجلها، وإما بأن نقول "لا" بإباء وشمم إذا واجدنا تلاعباً أو مراوغة أو تهرباً من تطبيق قرار مجلس الأمن حسبما فهمناه.
ولذا ينبغي أن نخوض مرحلة النضال الجديدة بنفس الشجاعة والثقة والكفاءة العالية التي خضنا بها الصراع المسلح في الأيام الماضية. فإذا لم يؤدِ نصالنا خلال هذه المرحلة إلى تحقيق تطلعاتنا العادلة، وهو أمر نحسب حسابه ولا نستبعد حودثه، عُدنا إلى الصراع المسلح لنستأنف القتال بكل قوتنا إلى أن نحقق هدفنا.
ولعل الكثيرين من أبناء شعبنا يتمنون أن يستمر الصراع المسلح الآن. وبغض النظر عن مشاعري الشخصية، فإني أقدر ما يجول في خواطرهم وهم يرون بفخر واعتزاز مئات الأبطال يبرزون كل يوم في صفوف قواتنا المسلحة، وتنتشر بطولاتهم فتذكي حماسة المواطنين وتزيدهم ثقة بالنصر.
ولكنني أحب أن أكرر القول أنه ما دامت معارك البطولة التي خضناها حتى الآن هي التي فرضت هذا التطور، فلا بد من أن نواجه المرحلة الجديدة بمتطلباتها وبالشجاعة والكفاءة العالية. ومن أجل ذلك أيضاً، يجب أن تبقى جاهزيتنا العامة عالية واستعدادنا العام كاملاً.
أيها الأخوة،
خلال الأيام الماضية، شدد العدو حملته على جبهتنا الداخلية، وأفرغ جعبته من سهام الحقد واللؤم، يرمي بها وحدتنا الوطنية، فتكسرت سهامه كلها وبقيت جبهتنا الداخلية تلك الجبهة المنيعة وذلك الأساس المتين لانتصارنا في المعارك العسكرية كما في المعارك السياسية ومعارك البناء. وإذا كان أعداؤنا يخشون مناعة جبهتنا الداخلية ويبذلون المحاولات اليائسة لتصديعها، فإنه لحريّ بنا أن نزداد حرصاً على تقويتها وتعزيزها باستمرار، باعتبار أن تصديعها هو العامل الوحيد الذي يمكن أن يؤثر سلبياً على المناخ الملائم للانجازات الإيجابية، بل يمكن أن يلغي هذه الإنجازات التي نحققها يوماً بعد يوم.
ليس هناك شيء يستطيع أن يوقف مسيرتنا، يستطيع أن يجعلنا نتقهقر إلى الخلف، كما لو تصدعت وحدتنا الوطنية. بوحدتنا الوطنية نستطيع أن نصنع الكثير، نستطيع أن نحقق أقصى ما نطمح إليه من النجاحات، أن نحقق أقصى ما نطمح إليه من الانتصارات، والعدو يعرف ذلك. ومن هنا كان تركيزه المستمر على هذه الوحدة الوطنية. من هنا كان تركيزه المستمر على هذه الجبهة الداخلية. ومن هنا سيكون في الأيام المقبلة، وفي الأشهر المقبلة، سيكون تركيزه بأشكال مختلفة وبأساليب مختلفة وتحت عناوين مختلفة، سيكون تركيزه على جبهتنا الداخلية.
علينا جميعاً، أيها الأخوة المواطنون، أن نعطي لهذا الأمر أقصى ما نملك من الانتباه، أقصى ما نملك من الحذر، لكي نفوّت على أعدائنا أية فرصة للنجاح، أية فرصة لتحقيق أهدافهم. فإذا وعينا هذا الأمر وعياً كاملاً، ضمنّا أن تكون جهودنا مركزة غير مبعثرة، واضحة القصد والغاية، وذات مردود عظيم.
وقبل أن أختم كلمتي، أؤكد على أن بسالة رجال قواتنا المسلحة وبطولاتهم الرائعة في ميدان القتال، هي رصيدنا الضخم في المعركة السياسية المقبلة. وستفرض انتصارنا فيها، مثلما فرضت بدايتها.
أيها الأخوة،
باسمكم جميعاً أوجه أخلص التحية وأصدق المحبة لأخوتنا وأبنائنا في القوات المسلحة، هؤلاء الرجال الذين لبّوا النداء مندفعين حين دعاهم الوطن، فكانوا أبطالاً ورجالاً بكل ما في البطولة والرجولة من معنى، وسطروا في سِفر التاريخ العربي صفحات وضاءة سنظل نفخر بها ونعتز، وكانوا منارة نهتدي بنورها وستهتدي بها الأجيال القادمة.
وأوجه أخلص التحية وأصدق المحبة، باسمكم أيضاً، إلى كل جندي مغربي، وكل جندي عراقي، وكل جندي سعودي، وكل جندي أردني، وكل جندي كويتي، وكل جندي آخر يقف على أرض المعركة. كما أوجه خالص التحية وأصدق المحبة إلى جيش مصر العظيم، وإلى كل جندي عربي يشارم في شرف القتال في الجبهة الغربية.
وفي الختام، أرفع تحية الإجلال والإكبار إلى أرواح شهدائنا الأبرار، أولئك الذين استعذبوا الموت لتحيا أمتهم، وسلكوا درب الشهادة ليكونوا قدوة لمن بعدهم. واجهوا الموت بتحدي الرجال وشجاعة الأبطال، وجادوا بأرواحهم الطاهرة، فكانوا بناة عظماء نفخر بهم ونعتز، ومشاعل نور تضيء لنا وللأجيال القادمة طريق النضال وسبيل مواجهة التحديات وقهرها. بدمائهم الزكية افتدوا امتهم، وبأرواحهم الطاهرة بنوا مجد وطنهم، فكان لهم علينا عهد أن نسير على دربهم ونقتفي خطاهم. بكل إجلال وإعزاز نذكرهم، ومع هذه الذكرى ومع كل ذكرى، في هذا اليوم وفي كل يوم، يجب أن نعرف كيف نفخر بالشهداء ونعتز بالشهادة، يجب أن نعرف كيف نكرم الشهداء، أكرم من في الدنيا وأنبل بني البشر.
والسلام عليكم.