كانت الأرض حياتنا ,, واليوم حياتنا للأرض"
بقلم جيهان غوض
كانت هناك الجنة بعينها ,, حينما تشرق أشعة الشمس تشاركها أصوات العصافير وهبوب نسمات البحر مداعبة أشجار التين والزيتون والبرتقال والليمون في بيارات يافا ,, وصياح ديك ملّ انتظار رحيل الليل ,, معلنين سويا بدء نهار جديد ,, لوحة ربانية ترتسم على أرض الرسالات ومهبط الأنبياء ,,
أم فايز من قرية النعاني قضاء الرملة ,,امرأة يشق بها العمر درب الثمانين ,, تلبس ثوبها المطرز وتجلس على عتبة منزلها البسيط في مخيم الأمعري للاجئين ,, تكاد تفهم تفاصيل الحكاية من تلك الخطوط التي رسمها الزمن على وجهها البائس ,, لكنها وكأنها انتقلت الى عالم آخر حين سألناها عما كان قبل النكبة ودخول اليهود واستيلاءهم على بيتها,, أشاحت بنظرها عنا للسماء وبدأت تصف لنا كأنما الجنة ,, تقول " لا أتذكر مظهرا للحياة غير الأرض في أيامنا ,, كنا نزرع القمح والشعير ومكاثي البطيخ والبامية ,, حتى السمسم كانت الأرض تجود به علينا ,, هذه حياتنا ,, نهارنا نقضيه بصحبة الأرض التي عودتنا بالقدر الذي نعطيها تعطينا وتجود علينا ,,, علمتنا الأرض كيف نحبها وكيف نحب بعضنا ,, كيف نعطي ونجود باللاحدود ,,كنا نستقبل كما نودع نهارنا بالأرض " ,,,
وحبن انتقلنا الى قرية قبية غربي رام الله ,, وتوجهنا الى بيت أبو نبيل البدوي ,, دخلنا طريقا وعرا ضيقا على جانبيه صفّ مرتفع من الحجارة يستحيل أن يظنها ناظر عفوية بكل ما تحوي من اتساق ,, وأمام بيته طابون الخبز ذا البناء القديم المسقوف بألواح " الزينقو" المعدنية ,, التي يتسلل منها دخان أسود يغير مساراته في الجو تبعا لإرادة الرياح ,, ورماد يغطي جسم الطابون الصغير ويحتضن في جوفه طوق من الجمر المتوهج ,,,
دخلنا لنجده جالسا في باحة البيت أو كما يسميه " الحوش " ,, تحت تينة تدلت أوراقها الخضراء لتتكئ حينا على سقف الغرفة الصغيرة من الخارج وحينا على جدار الباحة الصغير ,, أصوات العصافير التي ألفت المكان تنسج سيمفونية الحرية بألحان الأرض ,, يقول عما قبل النكبة " كان والدي يخرج صباحا للأرض يزرعها ويهتم بها وما إن تنتهي والدتي من أعمال المنزل حتى تلحق به ,, كان جل نهارنا للأرض نحن وكل أهالي القرية كذلك ,, نأكل من خيراتها وتجود علينا بالكثير "
أبو نبيل في عشريته السبعين ,, عاش مجرزة قبية وهو أحد الحارسين الذين باغتتهما قوات (101) الشارونية و اعتقلتهم,, ولكن أبا نبيل تمكن من الفرار,, يقول أبو نبيل " كنت ولدا حينها ,, كنا نحرس كرم الزيتون أنا ورجل كبير بالسن بالقرب من القرية ,, اقتربت آلية عسكرية منا ,, لم نظن أبدا أنها ليست للجيش الأردني ,, وصحت بعلو صوتي " أنا مش خايف منكم " ,, نزلو من السيارة وعرفنا حينها بأنهم من اليهود ولو كنت عرفت قبلا هذا الأمر لهربت الى القرية لما سمعناه عن بطشهم أفعالهم بالناس , "
يضيف أبو نبيل " جاءوا الينا وربطوا أيدينا وراء ظهورنا ,, لكنني قررت الهرب منهم ,, ومرة بعد مرة من تحريك راحتي الموثوقتين يمينا وشمالا حتى اتسعت البلاستيكة التي ربطت بها ,, حينها هربت منهم الى الجبل ,, ولكنهم أتبعوني بإطلاق النار علي ,, أصبت في رسغ اليد دخلت رصاصة وخرجت من الجهة الأخرى ,,
ولكني تابعت هربي رغم أنني فقدت وعيي ثلاث مرات في الطريق ,, ووصلت القرية بأعجوبة وأخبرتهم عما لاقيناه وأن اليهود قادمين الى القرية وما كدت أوصل الخبر حتى انهال على القرية وابل من الرشاشات والقنابل " ,,
خيم الصمت قليلا على المكان ,, لكأنما يسترجع شريط الذاكرة ,, تتسع حدقة عينه قليلا لعله يتذكر شيئا مروعا ثم ما تلبث أن تعود لطبيعتها ,, وبعدما أخذ نفسا عميقا أخرج معه كل زفراته وحزنه على ما حدث في ذلك اليوم ,, تابع " هربنا من القرية أنا وأمي وأخذوني الى المشفى ,, حيث أمضى 9 أيام فيها ,, عاد بعدها الى القرية ليرى مناظر مروعة وقصص وحكايات لا يصدقها العقل لولا أنه شاهد بأم عينه ,, يقول " عدت الى القرية ,,, لم أصدق نفسي ,, وجدت أشلاء الناس هنا وهناك ",, عائلة زج بها في أحد زوايا البيت ليعدموا جميعا وهم يحاولون فداء بعضهم وتلقي الضربات عن بعضهم ,, بيوت هدمت على رؤوس ساكنيها ,,امرأة توسلت الضابط أن يقتلها ويترك رضيعها للحياة لكن عنجهيته أبت الا أن يقتلها مرتين ,, أولا يفجع قلبها بقطع رأس طفلها امامها ثمّ يقتلها ويمضي ليحيك من عائلة أخرى حدثا مروعا آخر ,, لم يتركوا شيئا إلا فعلوه ,, نكلوا بالناس لكأنما كانو يمارسون هواية بالقتل
فالوضعيات التي كان عليها القتلى من نساء ورجال تقول أنهم كانو مسالمين ولم يفعلوا شيئا لليهود بل قتلوهم رغبة منهم في القتل والتخلص من أهل الأرض ليحتلوها ,, لم يتركوا على أرض القرية أيا من مظاهر الحياة هدموا البيوت والمسجد والمدرسة حتى" دكاكين" البسطاء نهبوها وهدموها .
هكذا بدأوا لتهبهم الأرض حياة كريمة ,, ثم ينتهي بهم الحال حتى تصبح أرواحهم وأرواح الأبناء والأحفاد وحتى سنوات العمر الطويلة وكل ما يملكون فداء للأرض والوطن .
صدفة قدرية بحته تلك التي جمعتني بالحاج أبو محمد ,, كنت قد انتهيت ولم أكن قد اكتفيت من حديث رواد مرحلة قاسية بل وقاسمة في تاريخنا الفلسطيني ,,, كهل نحيل الجسم محدودب الظهر سبعيني العمر ,, استسلم سواد شعره لمداهمات الشيب المتكررة حتى غاب عنه للأبد ,, عيناه الغائرتين تنضح بالعبر ,, وخطوط الزمن على جبينه الكهل,, متاهات متشابكة ترسم ألم الاغتراب .
كان يعمل في حقل لأحدهم على الحدود الشرقية لقرية بدرس غربي رام الله والملاصقة للقرية التي يعيش فيها ,, قرية قبية ,, كان يمسك بحجر كبير يحاول جاهدا نقله عن الأرض ليسد به فجوة في ذلك الطوق الحجري الذي يرتسم حول الحقل ,, وبعد محاولات عدة نجح أبو محمد ,, وبزهو المنتصر جلس كالمحارب في فترة استراحته على ذلك الحجر اللعين الذي أنهك قواه الخائرة .
جلس ينظر قبالته على ذلك الجبل المحاط بالأسلاك الشائكة ومعسكرات تدريب للصهاينة ,, فاخترقتُ صمت تأمله وبدأت بالحديث إليه ,,يتذكر أبو حسن جيدا كيف أن عصابات الهاغاناه دخلت بلدته " الطيرة " قضاء اللد ,, التي يشاور عليها ويقول لي " إنها خلف هذا الجبل المتمترس أمامنا " ,, كان صغيرا حينها ,, لكنه يذكر تفاصيل الحكاية ,, كيف خرج الصبح ذلك النهار ولم يسمع صياح الديك يومها ,, لكأنما اغتالوا المعلن لبدء كل صباح جديد ,, وأعلنوا صبحهم ليل مظلم عنيد ,, أيقظه والداه على عجل وخرجوا جميعا الأب والأم والإخوة والأخوات ولم يأخذوا سوى مفتاح بيتهم ,,
كانت الأخبار تتوالى عما يفعله الصهاينة بالنساء ,, وحسب قول أبو محمد فكل خاف على بناته وأخواته ونساءه فخرج بهن قاصدا رحمة الله بعدما ضاقت بهم رأفة البعاد ,, يضيف ,, توقعنا أن تطول غربتنا لأقصى حد ستة أشهر ولم يكن أحدنا يتخيل أن يمضي من العمر ستين عاما دون أن نعود إليها ,,
يتحشرج صوته ,, ويحاول ابتلاع تلك المرارة التي تسكن الكلمات المتوشحة بلوعة الإغتراب ,, ويقول " شو بدي أقولك " فتهرب تلك الدمعة الهاربة منذ ستين عام الى الحنين الذي يفطر قلبه ,, وتبدأ دمعته توهانها في متاهات الزمن التي ارتسمت على وجهه الكهل ,, وتنزل لتكوي الصخرة المهزومة من تحته ,,, وتفتح الأفق لآهة لا تفارقه ,, فيمتص مرارة الأيام ويكمل " لاقينا منهم الكثير ,, فعلو كل ما يخطر ببال أحدهم ,, كنا ننام تحت الشجر عراة عطشى وجياع وكل يوم تتسارع خطانا هاربين من تنكيلهم وانتهاكهم الأعراض ولم نكن نعرف أن الأقدار من خلفنا مسحت تلك الخطى ومعها مسحت درب العودة ,, أخي الأكبر مات في الطريق ونحن مهاجرين ,, أصابته الحمى التي انتشرت بين المهجرين بسبب تلوث المياه التي كانو يروون ظمأهم بها ,, فكان الموت يتربص بهم في كوب حياة !!
يروي أبو محمد أنهم عاشو لفترات متفرقة في ست قرى قبل أن يستقر بهم الحال في قرية قبية غربي رام الله ,, حيث اشترى والده قطعة أرض وبنى عليها بيتا متواضعا ,, يتوقف أبو محمد هنيهة عن الحديث ثمّ يتابع قائلا " والدي رأى النجوم في كبد سماء الظهيرة حتى استطاع أن يشتري قطعة صغيرة من الأرض هنا ,, مع أنه كان يملك أراضي وبيارات وبيوت وأبقار كثيرة هناك في بلدتنا " ,,,
وبصوت يخفت حينا ويتقطع أحيانا قال " عملت عندهم 8 سنوات عاملا في أرض والدي بعد 40 عاما من هجرتنا ,, كل بيوت القرية مهدومة لم يتركوا سوى بيتا واحدا على أطراف القرية يستخدمه الجيش ,, كنت أحترق وأنا أنظر الى صبارها وتينها وزيتونها ورمانها ,, وكل يوم أتأمل مفتاح البيت المهدوم منذ ستين عاما ,, ولكني مصر على الاحتفاظ بمفتاحه ,, سأعود إليها ذات يوم إن لم أكن أنا فأولادي وأحفادي اللذين أورثهم التشبث بحق عودتنا وسنعيد بناء بيتنا من جديد ,, لن نتنازل عن ذرة من تراب جنتنا للشياطين ",,
بعد ستين عاما من التشرد والاغتراب عن الأرض ,, لا يزال أبو محمد وملايين مثله داخل الوطن وخارجه يتشبثون بحقهم المقدس في العودة إلى ديارهم ويغرسوه في نفوس أبناءهم وأحفادهم ألا بديل عن الوطن مهما كان هذا البديل ,, وليس من حق أحد أيا كان أن يقرر شطب حقهم ,, أو يبادل بأراضيهم ,,
كاللبؤة التي اقتلع الزمن أظفارها ,,, وسلب من تحتها بساط الوطن ,, يطرق بها العمر أبواب الثمانين تتكئ على وسادة في غرفة صغيرة في بيتها المتواضع الكائن في مخيم الأمعري للاجئين في مدينة رام الله ,,
أم حسن من قرية النعاني قضاء الرملة ,, برغم سنين العمر الطويلة إلا أن ذاكرتها تأبى نسيان تفاصيل الحياة في قريتها التي لم تعد تشبه نفسها بعد أن هدم اليهود كل بيوتها حتى المقبرة ليطمسوا كل أثر للراحلين عنها ,,,
تروي أم حسن كيف هجّرتهم العصابات الصهيونية من ديارهم ,, بقولها ,, دخلوا الى القرية وطردوا الناس من بيوتهم ,, أخذوا كل رجال القرية ووضعوهم في مكان واحد,, كنا نسمع عما يفعلوه في كل بلدة يصلون إليها,, قصص مروعة تلك التي كان يرويها أهل يافا وعكا عما فعله الصهاينة بنسائهم وأطفالهم ورجالهم ,, كان الذعر يسيطر علينا جميعنا والكل قرر الرحيل ظانين أننا سنعود اليها بعد أشهر ,, ولو كنت أعرف أن الغربة ستطول إلى ستين عاما لما خرجت يومها حتى لو ذبحوني " ,,
لم يتركوا فعلا شنيعا إلا اقترفوه ,, وتذكر أم حسن كيف هرب رجل من المحتجزين وبدأت العصابات تبحث عنه في كل البيوت ,, تقول دخلوا علينا وأمسكوا بزوجي مصرين أنه الرجل الذي هرب منهم إلى القرية ,, أقسم لهم أبو حسن أنه ليس هو الهارب ولكنهم أمسكوا به وبأعقاب بنادقهم ضربوه على فمه حتى وقعت أسنانه كلها ,, دمه سال ولم يعد قادرا على النطق أو الحراك ,, تضيف أم حسن بأنها حاولت إنقاذ زوجها لكنهم منعوها من الاقتراب منه ,, وبعدما أوغلوا في ضربه وهو مغشي عليه جاء الضابط وقال : اتركوه لقد أمسكنا بالرجل الهارب !!!
أم حسن تتذكر معالم الطريق الطويل الوعر والشاق والمشي طويلا تحت أشعة الشمس الحارقة ,, تقول " مشينا طويلا دون أن نشرب الماء,, اليهود كانو يسمحوا لنا باجتياز الطرق لكنهم رفضوا إعطاءنا حتى شربة ماء لأطفالنا ,, كنا نبلل قطعة من قماش ونضعها على أفواهنا حتى لا نظمأ أكثر ونستطيع مواصلة الدرب الطويل ,, خرجت ومعي طفلي حسن ابن الستة أشهر ,, وضعت على وجهي " شحبار " أسود حتى لا يختاروني ولا يأخذوني فقد كانوا يختارون كل جميلة ولا ندري ما يفعل بها لأنها لا تعود ,, والبعض كان يروي كيف كانوا يغتصبون النساء وينتهكون أعراضهن ويتركوهن يهمن في الخلاء دون مأوى .
تنزل وجهها للأرض وتتمتم بحروف غير مفهومة ثمّ تخرج تنهيدة حارقة تكوي الضلوع قائلة " ذبحوه أمامنا ,, لم يرحموا ضعفه وضعفنا ,, لم يقتلوه بالرصاص وإنما ذبحوه بسكين كبيرة ,, تلذذوا بذبحه كالشاة ,, كان يصرخ ويصرخ ,, دوّى صوته في الفضاء دون مجيب ,, سال دمه نهرا أحمرا ,, قطعوا رأسه ورموا بجثته جانبا وسط ضجيج ضحكاتهم ,, لن أنسى هذا المنظر ما حييت ,, مشهد يغيب له صواب الدنيا ,, " هكذا وصفت مشهد ذبحهم لأحد الرجال حال اكتشافهم أمره,,, إذ اختبئ تحت كرسي الجيب العسكري وانتقل معهم من يافا الى الرملة .
شاءت الأقدار بعد خمس سنوات ,, أن تزور أم أحسن وأبو حسن قرية النعاني ,, تلك الزيارة التي أفجعت قلبها وقلبه ,, كل البيوت هدمت ,, هدموا المسجد وحتى الموتى لم يسلموا من شرورهم فقد نبشوا القبور وأزالوها ,, لكن ما زال هناك ما يتوج القرية ويحفظ أصالتها،، إنها بيارات البرتقال التي لا تزال قائمة ,, وأشجار التين والزيتون التي تروي أنها تذوقته كأنها المرة الأولى في حياتها ,, تقول أم حسن " ذهبت الى عين الماء التي كانت تدور في " قداديس " خشبية ,, شربت منها " ,, تتأوه وتنزل دموعها مضيفة " لن أنسى عذوبة مائها ,, ماء الجنة لا يساويه عذوبة "
لا تزال أم حسن وآلاف الفلسطينين الذين هجروا عن أرضهم وبيوتهم يحلمون بالعودة ,, حتى ولو بآخر لحظات أعمارهم ,, ويورثون هذا الحلم للأبناء والأحفاد ,, ورغم كل ما يحيط بهذا الحلم من هالات الواقع الأسود ,, إلا أن تشبثهم بهذا الحق ورفضهم لأي مقابل للأرض والعرض لا يزالان ضوء الأمل الذي تسير عليه الأجيال خلفهم .
__________________