لم تكن سوزان فى حياتهِ مجردَ ابنته الوحيده المدللة , ولم تكن فقط ابنته ذات العشرين عاما ً والتى تعبق ُ بالبيت مرحا وحياة ..بل كانت فى ذهنه صورة للحياة ِ بكافة جوانبها عدى عن كو نها استمرارية لحياة امها التى احبها حباً قل مثيلهُ ، وعلمت به كل المدينة التى كان يسكنها ، اذ تزوجها بعد خصومــةَ ِتحدى فيها اهله ُ وعشيرته ُ ، بل انه ترك المدينه واستقر في هذه القرية ِ الهادئه ، قانعا بنعمة ِ الحب ِ وسعادته معها . . وعمل اول ما عمل مساعدا ً لنجار القرية، ولطموحه واخلاصه احبته القريه كلها حتى ان صاحب المنجرة باعه المحـل عندما تقاعد الاخير من عمله .
كانت سوزان ُ فى خاطره كل دنياه .. يسعى منذ الصباح الباكر الى محلـــه المتواضع ، يساعده فى عمله عاملٌ اخر . لم يكن نجاراً بالمعنى الفنى للنجاره ، فهو لا يمتلك ُ الآلات الحديثه لفقره . بل لعله اشتهر فى فترة ما فى صناعـــة التوابيت منذ ان صنع لشيخهم تابوتا َ كان مجال حديثهم لبرهة من الزمــــــن، فاشتهر بلقب صانع التوابيت ..ولكنّه وبعد موت زوجتهِ المفاجىء رفض فى اصرار ِ متابعه صناعتها ..رغم رجاء الناس له ((لقد عرفت ُ معنى الحز ن فى وفاة زوجتى .. ولن اشارك فى صناعتهِ لاحد .. ولن امد يدى بعد اليوم لاصنع تابوتا ً..)) وكان صادقا فى قسمه ِوحزيناً ً فى قوله ..فقد كانت زوجته كل حياته واحلامه ِ .. وحين ماتت بذاك الداء العضال فى دمها ..تاركة لـــه الطفلة الوحيده (سوزان ) ترك صناعة التوابيت وانقطع للتجارة في ابســـط اشكالها وان كانت القريةُ كلها تعرف ُ انه امهر من صَنْعها .
كان معروفا بطبيعته ِ لا يختلط باحد فلا مشاكل بالتالى مع احد ..ان لم تجده فى بيته ِ تجده فى محلّه ِ.. والكل يعرف ُعنهُ حبهُ الكبير لابنته .وكانت سوزان فتاة ُ جميلةُ بحق ..نتشاجر ُ جميعا ً من اجل ارضائها فى الحى والفوز ببسمتها.
وحين كنّا نلعب ُ بالعابنا الطفوليّه المختلفه ..كنّا نعتبرها اميرَتنا والفائز فى اية لعبة ، ينال ُ الجائزة َ منها .هادئةُ على الدوام مثل ابيها ...انيقةُ دائما كأنما كانت الاناقة ُ فى الحى مقصورةً عليها ,دون بنات الحي ، و لعلها الوحيدةُ من بنات الحي التى كانت تفرض علينا ما تريدُ لعبه .من لعب (البلابل والبنانير) أو غيرها من العاب الاطفال المختلفه . لم يكن والدها ينالهُا بسوء او يبخل عليها بشىء ..ولم تكن هى ببخيلة ٍ ايضا ، فكنّا ننال ُ منها كثيرا من هدايا ابيها اليها..
ولعل هذا كان سر تعلقنا بها ونحن فى سن الطفولة ْ.
مرت الايامُ ..ونمت الانوثة ُ فيها والشقاوة ُ فينا .. وابتدأنا نلاحظ ابتعادهــا
التدريجي عن العابنا وكثرة تعلق ابيها بها .. بل انهُ ضرب للمرة الاولــــــى فى حياته ِاحدنا حين تلفظ َ بكلمات ٍ نابية ٍ امامها ... اواه كم كان غضُبه .. علينا قاسياً ً .. كم غضب َ وتجعد َ وجهُه .. ولعل ذلك القصاص لم يكن كافيا ًلهُ ولنا ..فقد منعها من اللعب معنا .. وكنّا نتحسرُ ونحن نراها واقفةً ً على باب بيتها ونحن نلعب ُ فى ازقة الحارة .. وتلعقُ فى صمت ِ حزنها .. وتغلق الباب داخلة َ الى البيت .
كان والدهُا يجالسها دائما ..يدّرسُها ..ويغسل ُ لها وجهَهأ .. ويجلب لها الحلوى وكل اصناف الهدايا ..وكم كنّا نتمنى ان نكون نحن اولاده لعلنا ننال ُ بعضــــاًً ًمن العطف ِمنه.
مر الزمانُ على معرفتنا ِ وعلاقتنا ِ وكان دكان ابيها هو المكان الوحيد الــذى بقى فى القرية كما هو ، وحين دخلت الالات الحديثة ُ وتعددت محلات النجارة وارتفعت اسعارها .. بقيت القريه ُتعرف ُ طيبته ومحله ُ البسيط .. وان كان هذا التقدم قد قلّل موارده الماليّه فزاد الفقرُ من تجاعيدِ وجهه كثافة َ .. فى حيــــــن تفجرت ملامح ُ الانوثة ِ كاملة ً فى سوزان ..فاصبحت مطمع الشباب ومحط أمانيهم ، ولم نعد نراها فى الا عند ذهابها للكنيسة ِيوم الاحد ، ترتدى اجمل الملابس.. كنتُ احسُ بماسأة ابيها ..فقد صرفَ العامل الذى لديه واصبح محلـهُ شبه مهجور قليل الرواد والحركة .. ومع ذلك لم ار سوزان تشتكى شيئا ، أو انها ترتدى رث الملابس .. ولعلنى كنت الوحيد من شباب الحى الذى استطاع بــان يجتاز َ جدار الصمت والوحدانيةِ التى فرضها على نفسهِ وبيته . ..كنت ُ اخاف منه اول الامر ، لكننى تعودت ُ عليه مع الايام ِ ..أصنع ُ له الشاى واجمع له قطع الاخشاب ِ ..واسمع ُ تنهيدات قلبه وصدره اكثر من مرة في اليوم ، أحس بها كسوط ٍ من النار يجلدنى من الداخل .. ويرعشنى لدرجة الخوف القاتلة .
كنّا نعرف ُ انه يغلقُ محلهُ ظهيرة كل يوم سبتٍ ولا نكادُ نراه ُ فى الحـــــــى طيلة يوم الاحد .. ولم نكن نهتمُ به اول الامر فما دامت سوزان ُتلعب ُ معنـــــا فالامر لدينا سواء ، ولكننا حين ابتدانا نفتقدها ، اردنْا معرفة َ السبب ..ففوجئنا به فى المقبرة الغربية بجانب قبر زوجته .. فاذهلتنا وارعبتنا المفاجاة ..كان يأخذ معه ُ بعض الطعام وبعض الورود ويجلس صامتاً لساعاتٍ هناك .. ولعله يبكى بدمعة ِ او اكثر بصمت تكفيان للتعبير عن صدق احتراقه ِ ولوعته .
كبرت ُ .. وكبرت سوزان ولم يعدْ خافيا على احد سر َ تعلقى بها .. وسرَ اقامتى شبه الدائمة فى محل ابيها .. ولعلهُ كان اسرع الناس علما ً بذلك ، فاجلسنى ذات يوم اليه قائلآ ( يا ولدى اعرف ُ حقا ً انك طيبٌ جدا ً ولكنّك بعد صغيرا ً ..واعرف ُ ايضا ً انك تتعلم ولكنك بعد فى أول الطريق ..وكاهلك طري لا يتحملُ كل َ اتعاب الحياة ..فلا تفجعنى بابنتى .. فالحبُ مسووليةُ لم ار في القرية كلها من حمل اعبائها ..الحب ليس علاقة جسدية ُ او اغراء مال انه بركة ُ ربانيه..نوع ُ من التواجد فى حضرة الله لمن يعرف وجوده )))
كان رزينا جدا ً وهو يحدثنى وكان كلامه نوعا ً من التوبيخ الهادىء لــــى
وأستطعت ُ ان اميز َ ميلاد دمعة على قمة رموش عينيه .. فاحترمت ُ حزنـه وذرفت ُ دمعة ً صامتةً اعترفت ُ فيها بخطأي وتهورى فى حبِها .. وشرعتُ اراجع ُ أوراقى مع هذه العائلة فاذا بى اولدُ لهم اخاً وابنا ً .. وعرفت ُ صدق َ احزانه وعظمة أخلاصه لزوجته .
ذات مساء أذهلنى ان أراه واقفا ً يطرقُ باب بيتنا ..انها المرة ُ الاولى في حياته.. نهض له والدى مرحبا ً ولكنّه كان شارد الذهن .. مرتجف الشفتيــن
وسمعت ُ همسا ً لم افهمه ُ ثم صوت والدي ينادي (( يا سمير انهض مع عمك)
وحملتنى اقدامى بخوف ِ معه ..شعرت ُ برعب ِ خفى يجتاحنى .. وكان في
كلماته ِ بذور للخوف تلْقى فى دمى ((يا سمير ..ان سوزان مريضة .. اريدكَ ان تبقى معها قليلا كى احضر لها طبيبا ً)
احسستُ ان خناجر حادة تنغرس ُ فى جسدى .. وارتجفتُ حين لمحتُ رعشةً ً بائسة ً تكتسح ُ شفتيه .. واردت ُ ان ابكى فلم استطع .
كانت مستلقية ً على فراشها .. وشعرهاُ الاسود يغمر ُ الوساده ويلف نور محياها (( سوزان ما بك ِ) قلت وانا اقترب من السرير ..وافتر ثغُرها عن بسمةٍ بريئة ٍ هادئة ٍ(لقد شعرت ُ بدوار بسيط وبعض البرد ولكنّ والدى ضخم الامر وغاب والدها مسرعا ً لاحضار طبيب القرية . وكاننى للمرة الاولى المح ُ كلأ هذا الجمال , احسستُ به ذابلا قليلا .. كنت خائفا ًؤ حزينا ً اريد ُ ان اتحدثَ عن أي موضوع ولكنني لم اعرف ما افعل ُ في غياب ابيها ..سوى الصمت ُ .
وحضر الطبيب الذى استغرق بعض الوقت ِ فى فحصها .. وبعد حديث مــــع ابيها قال (( افضل ُ اجراء َ بعض التحاليل والفحوصات فى مستشفى المدينة.
اواه سريعا ً الى المستشفى ..ورايت ُ دمعة َ ابيها مرة اخرى ..ادركت ُ فى رعب ِ معنى انغلاق الفضاء امام عينيك الا نافذة واحدة ً ترى من خلالها
كل العالم .. ثم ان تغلق هذه النافذة .
وعرفتُ معنى الفقر ِ من ذهوله امام الطبيب ..(( امكث هنا صباحا يا سمير حتى أتدبر امري ...) وغاب فى اليوم التالي وحين عاد فى اواخر الظهيرة .. كانت البسمة ُ مشنوقة ً على شفتيه .. ولعله اذل نفسه كثيرا فى رحلته هذه ولمحت ُ معه بعض َ النقود والتى عرفت ُ فيما بعد انها من اهله الذين هجرهم في المدينةحين تزوج (ام سوزان ).
ونزلنا بها الى المستشفى ..وبعد مجمل ِ من التحاليل العديده ..حصلنا من الاطباء على نظرة عميقة فيها وبها كل معانى اليأس .. فقد اصابها نفس المرض الذى اصاب أمها ..وفى خلايا الدم .انه المرضُ الذى لا يرحم ُاحدا ً
ورجعنا من المدينة ..ولم يعد والدها يمنع عنها شيئا ً .. لم يعد يمانع فى جلساتنا الطويلة .. ضحكنا ..مرحها .. وانطلاقها فوق حدود الصمت ِ والتى كانت حولها .. كان ينظر ُ لي فافهم معنى نظرته ..أرى كل احزان العالم فى صمتـه وذهوله .. وذلك السوط الناري الذى يصدر ُ من جوْفْه بين الحين والاخر .. ليصفعنى بعنف جلادٍ اسطورى الظلم ...يعمل ُ طوال النهار فى منجرته ويعودُ هادئا فى المساء يقبل ُ وجه (سوزان ) الذى اخذ الذبول ينال منه بعض ملامحه .. وينظر لي وانا اقرأ لها بعض الكتب والمجلات .. وبعض مواضيع المدرسه .
وذات ظهيرة ذهبت اليه فى محله بعد انقطاع ..وذُعرت ُ حين رأيته يصنـعُ
تابوتا ....حمْلتُ فيه بخوف ٍ وشعرتُ كأن لسانى مسمرُ فى حلقى ...كدتُ اختنقُ من الرعب وشهقت ُ حين رايت ُ دمعة َ تحفرُ لحم وجهه المتجعـــــد
.. وذهل َ حين شاهدنى تجمد للحظات ثم قال لي ( متى عدت يا سميـــر
من الجامعة ( اذ كنت ادرس ُخارج البلاد ) ...لم اصغ ِ الى سواله قلـــــــــت
(( لمن هذا التابوت .. امات احدُ من القرية .. ومتى عدت َ انت الى صناعــة التوابيت ...
نظر لى بصمت وقال (( لا ..لم يمت احد ولكننى اعلم ُ ان العالم َ كلـــهُ
سيموت ُ بعد برهة .. نعم سيموت كل العالم ..سيموت كل العالم .
وانهمرت دموعه ُ ..أواه ما اكبر حجم دمعة الابوة الحزينه ..انه بحجم التابوت ذاته . .. وادركت ُ ما تعنيه كلماتهُ ..فما وجدت ُ نفسى الا مرميّاً بين ذراعيّه ابكى بصوت ِ مرثفعِ ِ جداً .. وعرفت ُ منذ تلك اللحظة ..ما هو الحزن .