المندائية والغنوصية ..
خزعل الماجدي
الغنوصية طريقة نظر وفهم خاصة للعالم والمعرفة والدين. والغنوصيـة كظاهرة تمتد إلى أعماق أديان الشرق القديم أما كجهاز معرفي وكفلسفة ورؤيـا متكاملـة فهي من نتاج العصـر الهيلنستي (وهـو العصر الذي يبدأ بوفاة الاسكنـدر المقدونـي وينتهـي بسقوط دولة البطالمة في مصـر على يد الرومـان 323-30ق.م) وقـد ظهـرت الغنوصية قبل المسيحية وأثرت بقـوة في الأديان الموحدة وكذلك علـى الفلسفـات والعلوم منذ العصر الهيلنستي ثم العصر الوسيط.
الغنوصية (Gnosticisme) أي العرفانية مشتقة من الغنوص (gnose) وهي كلمة يونانية الأصل (gnosis) معناها المعرفة وقد استعملت أيضا بمعنى العلم والحكمة وتترجم إلى العربية بصيغة (العرفان). الفرق بين العرفان والعرفانية هو أن العرفان حالة خاصة بصفوة معينة من الناس تعني معرفة الأسرار الإلهية¡ أما العرفانية (الغنوصية) فهي المذاهب الدينية التي ظهرت في القرن الثاني للميلاد تحديدا والتي تدعي أنها مشيدة على نـوع مـن المعرفة فوق المعرفة العقلية وأسمى منها¡ معرفة باطنية¡ ليس بأمور الدين وحسب¡ بل أيضا بكل ما هو سري وخفي كالسحر والتنجيم والكيمياء....الخ(1)
جوهر الغنوصية يقوم على أسطورة الخلاص من الخطيئة عن طريق المعرفة¡ فالتطهر يتم بواسطة معرفة النفس أنها من أصل إلهي وتدبرها لطريق الخلاص والعودة إلى ذلك الأصل الإلهي¡ وهذا ما يسمى بالعرفان وتكون هذه الخاصية (معرفة النفس لأصلها) طريق الوصول للخلاص من الخطيئة. ولا يتم هذا عن طريق قراءة الكتب بل عن طريق كشف مضيء في قلب الإنسان يهديه إلى طريق الخلاص.
الطيف المندائي
2
ورغم أن الغنوصية أثرت في الديانات والمذاهب جميعها الوثنية واليهودية والمسيحية والإسلام¡ وتدخلت في الفلسفة وصبغتها بلونها وظهرت علوم غنوصية كثيرة إلا أن هناك أربع ديانـات غنوصية ظهرت كلها في العراق القديم (وادي الرافدين)¡ فقد كان العراق القديم بعد سقوط بابل مرجلا هائلا تغلي وتتخمر فيه عقائد وأديان الغنوص والهرمسيات¡ ولو أن التاريخ قيض للعراق آنذاك مدرسة كبرى (مثل الاسكندرية في مصر) لكانت عقائد وأديان العراق والشرق المدفونة في طيات الزمن قد ظهرت وتفاعلت وكونت أعظم تيارات الثقافة والمعرفة. ورغم ذلك .. ورغم تمزق الهوية الدينية والروحية بل والقومية للعراق القديم لكنه أظهر لنا أربع ديانات غنوصية متميزة ثلاثة منه ظهرت قبل المسيحية وواحدة بعدها وهي (المندائية¡ الحرانية¡ الإيزيدية¡ المانوية).
لم تكن الديانة المندائية وليدة العصر الهيلنستي بل هي ذات جذور أبعد من هذا العصر فهي ترتبط بوشائج عميقة مع ديانة الأسرار السومرية خصوصا بعد أن اختفت الديانة السومرية¡ وقد بحثنا في كتابنا (جذور الديانة المندائية) عن الأصول السومرية للديانـة الصابئية المندائية(2) لكن الديانة الصابئية العريقة في القديم تعرضت لضغط الكثير من العقائد الدينية التي ظهرت في العراق القديم مثل الديانة البابلية والاشورية¡ ونرى أن إعادة صياغة شاملة لها تمت بعد سقوط بابل على يد عناصر كلدانية وارامية وعلى أساس العرفانية النبونائيدية (نبونائيد اخر ملك بابلي) التي ظهرت بعد منتصف القرن السادس قبل الميلاد¡ ولأن هذه الصياغة تمت باللغة الارامية وبأحدى لهجاتها التي هي (المندائية) فقد أطلق على هذه الديانة المندائية أو الصابئة المندائية وربما كانت العقيدة الدينية هي السبب في إطلاق تسمية المندائية لأن كلمة (مندا) باللغة الارامية تعني (العارف) ولذلك يكون المندائيون هم العارفون أي العرفانيون على وجه الدقة...
وهنا نحن نجد مصطلحا اراميا عربيا دقيقا للغنوصية ظهر قبل ظهور مصطلح الغنوصية وهو مصطلح (المندائية).
إن المندائية هي الغنوصية وهي العرفانية بأدق وأكمل أشكالها وإنه لمن حسن خط الأديان والثقافات البشرية أن هذه الديانة المندائية العريقة مازالت حتى يومنا هذا تمارس عقائدها وطقوسها وتعاليمها في جنوب العراق والأحواز بشكل خاص.
المندائية تحتوي¡ في طياتها¡ على أقدم عقائد الغنوصية ممثلة بالنبض السومري فيها وعلى الصياغة الغنوصية النوعية لنبونائيد ممثلة بالمندائية الارامية وكذلك ما أخذته من الغنوصية الهيلنستية. ولذلك فهي دين عرفاني خالص يمكن مشاهدته حيا اليوم ودراسته عن كثب والخروج منه بنتائج في غاية الأهمية عن أصل التوحيد وعن الديانات العراقية القديمة وعن المذاهب الهيلنسية التي خاض بحورها حتى عبر بعدها لجج الأديان اللاحقة وصولا إلى العصر الحديث.
لكن الغنوصية بصيغتها الهيلنستية تختلف عن الغنوصية المندائية لأن مرجعياتهـا الفلسفيـة تختلف عن المرجعية الدينية للمندائية رغم أنهما يشتركان في عمود فقري واحد لهما هو (الهرمسية).
والهرمسية (تعاليم هرمس أو إدريس) تشكل أساس الغنوصية الإغريقية حيث تشكل المدونة الهرمسية النص المرجع بالنسبة لها ((فاذا ما أخذ المرء بالحسبان أن الهرمسية قد وضعت في الأساس لتخاطب عقول الإغريق¡ وأنها خلت إلى حد بعيد من الصور الأسطورية واختير في صوغها الطرائق والصيغ الاصطلاحية الهيلنستية¡ فيما توجه التعاليم المندائية إلى ذهن شرقي اعتاد أن يتعامل مع المعتقدات من خلال المثيولوجيا المشحونة بالتشخيصات والمبالغة والفانتازيا يمكننا حينئذ أن نتبين صلة القرابة بين أفكار الجماعتين. ويتضح السبب الذي يحمل المندائيين على تمجيد هرمس واعتباره معلمهم))(3) ويلوح لنا اليوم أن الغنصوية ذات شقين هما الغنوصية الشرقية التي ظهرت في وادي الرافدين وكان ختامها الغنوصية المندائية التي مثلتها خير تمثيل والغنوصية الغربية التي ظهرت في وادي النيل والتي أعادت صياغتها وفق إطار فلسفي أدبيات العصر الهيلنستي التي كتبها مرقيون وبار ديصان وغيرها. والحقيقة أن المندائية لم تضع نفسها بمواجهة الغنوصية الغربية¡ بل تورطت المسيحية في سجال طويل مع الغنوصية الهيلنستية الغربية رغم أن المسيحية ذات طبيعة غنوصية في أساسها.
الطيف المندائي
3
لقد قدمت الغنوصية المندائية صورة مشرقة للغنوصية الشرقية يمكن من خلالها تلمس الجذور القوية للمندائية في تربة وادي الرافدين وتتجسد هذه الصورة في معراج صعود الروح إلى خالقها وفي ثنائية النور والظلام والخير والشر التي يمثلها (عالم الظلام¡ آلمي دهشوخا) و(عالم النور¡ آلمي دنهورا) وتمثل هذه التناظرات أساسا هاما في المندائية.
إن قراءة مفصلة في الأسس الغنوصية للمندائية
توضح لنا تماما نقاط الإتصال والإنفصال عن الغنوصية الهيلنستية والهرمسية الإغريقية التي ظلت ركنا أساسا من أركان الفلسفة في ذلك الوقت¡ أما الغنوصية بشكلها العفوي الشرقي فما زال هناك يكمن في صلب الديانة المندائية.
المراجع
1.الجباري¡ محمد عابد: بنيـة العقل العربي¡ المركز الثقافي العربي¡ ط3¡ بيروت¡ 1993¡ ص354.
2.أنظر الماجدي¡ خزعل: جذور الديانة المندائية¡ مكتبة المنصور¡ بغداد.
3.سباهي¡ عزيز: أصول الصابئة (المندائيين) ومعتقداتهم الدينية¡ منشورات المدى¡ دمشق¡ 1996¡ ص170.
الطيف المندائي
4