الصّيف واليافعون والثقافة
د. طيب تيزيني
مع انتقال البنات والأولاد إلى مرحلة الشهادة الثانوية (البكالوريا)، يكونون قد وصلوا إلى أواخر اليفاعة الشابة، أي بدأوا يستعدون لخوض العام المدرسي الأخير، الذي تتحدد مصائرهم العلمية والمهنية خصوصاً في نتائجه.
وبين هذا وذاك، يمر أولئك بحالة مد وجزر من التكوين الثقافي والنفسي والروحي، تبرز أهميته بل خطورته في تحديد وضبط مسارهم اللاحق، نساء ورجالاً، في هذه الحال، تفصح العطلة الصيفية عن نفسها بمثابتها فرصة دورية وفريدة لاستعادة البنات والأولاد قواهم العقلية والجسدية والنفسية والروحية. ومعروف أن "المطالعة" الحرة كوّنت أحد العناصر المهمة لتحقيق تلك الاستعادة.
العطلة الصيفية عنت دعوة إلى الإقبال على كتب الجاحظ لحصد الثمرتين كلتيهما معاً، العقل والأدب. وإذا أخذنا في الاعتبار أن ذلك كان يسير بالتوازي مع تلف الإنتاج الفكري والأدبي، الذي كانت المطابع العربية تقدمه للقراء العرب (خصوصاً في مصر ولبنان وسوريا) بصيغتي الكتاب العربي والكتاب الأجنبي المترجم، فإننا نلاحظ أن خطاً أولياً وضمنياً كان يحقق نفسه في عملية الاستهلاك الكتابي، وذلك على أساس من التوازن بين طرفي جدلية التراث والحداثة.
كان طلبة المدارس صغاراً وكباراً، ينشغلون بمتعتهم الأثرية إليهم والمتمثلة بالمطالعة، في إطار مرحلة ما بعد الاستقلالات العربية المتوهجة برموز الوطن والاستقلال والتقدم والتغيير والحرية والتضامن مع شعوب العالم الثالث، وهذا ما أسهم في إنتاج وعي وطني يقتدي بقيم الإنتاج الحضاري المتدفقة من الماضي العربي ذي المكانة العقلانية الرفيعة، ومن الغرب (الفرنسي والإنجليزي والألماني والإيطالي خصوصاً)، كما من "الغرب الشرقي" الصاعد في حينه (الاتحاد السوفييتي والمنظومة التي التفت حوله).
وقد تعمقت اتجاهات المطالعة في أوساط طلبة المدارس، وتحولت إلى واجب أو إلى شرف ثقافي وأخلاقي ووطني، وأهم من ذلك، أصبحت المطالعة هدفاً أمام التلاميذ، يسعون إليه في المنزل ومكتبة المدينة أو في الحدائق والبساتين عبر جلسات فردية وجماعية مفعمة بالحيوية والمتعة.
كان ذلك بمثابة تأسيس على تأسيس لشخصيات البنات والأولاد، الذين أنجز الكثير منهم ما أنجزوه مع تبلور شخصياتهم العامة تحت ثلاثة تأثيرات راحت تمارس عليهم، السياسة والدين والحب. وكالمرحلة المجتمعية العربية في معظم تجلياتها آنذاك، مارس أولئك تلك الحقول الثلاثة بكثير من الصدق والشفافية والحميمية والاعتدال.
وقد نقول إن الأطر البشرية العلمية والسياسية والقضائية وغيرها، التي تكونت في حينه، كانت في الإجمال هي التي استلمت مناصب الحكم ومواقع المؤسسات الغضة، أي ما يعتبر أسساً للمجتمعين السياسي والمدني في مجموعة من البلدان العربية.
ومعروف أن ذلك سيتم الانقلاب عليه مع بدايات تكون نظم الأمن والمخابرات، خصوصاً مع بواكير الوحدة السورية المصرية عام 1958، والدخول في نفق حُطام عربي مفتوح.
وكما يتضح مما سبق، كانت العلاقة بين الصيف واليافعين والثقافة ذات بعد عميق ومثمر. ومن ثم، فإن المقولة المركزية لعلم النفس العام، وهي إن الناس لا يولدون شخصيات بل يصبحونها، تبرز هنا بقوة في تجلياتها الثلاثة كما طرحتها عالمة النفس (غالينا أندرييفا)، التي هي: النشاط، والتعاشر، والوعي الذاتي (أنظر كتاب الباحثة المذكورة بعنوان: السيكولوجيا الاجتماعية).
فبمقتضى ذلك، حقق جيل اليافعين العرب، في مرحلة ما بعد الاستقلالات إلى نشأة النظم الأمنية المعنية، تقدماً ملحوظاً حصدت ثماره التجارب البرلمانية الديمقراطية اليافعة والقصيرة (مثلاً في تونس وسوريا ولبنان). لكن ذلك لم يطل، حيث انقض عليها إنقلابيون، وعملوا على تمزيقها.
ضمن النظم الأمنية، التي التهمت ما تم إنجازه في حقلي المجتمع السياسي والمجتمع المدني، راحت أجيال اليافعين العرب (ربما هي ثلاثة) تجد نفسها مشدودة بقسوة وعنف وقهر إلى ملحقات تلك النظم النقابية الفاقدة للمصداقية، مثل العمالية والفلاحية والفنية والشبيبية والطلائعية إلخ.
وعلى مدى عقود، تفرض نفسها حالتان اثنتان في أوساط تلك الأجيال، تتجلى الأولى منهما في كسر شعلة الحرية والإبداع والدفاع عن العدالة والكرامة في حياتهم، وإغلاق الدائرة عليهم. أما الحالة الثانية فتتمثل في سحق الطموح المعرفي الحر والثقافي الإنساني العمومي لديهم، ممثلاً ذلك - وفق ما نحن الآن بصدده - في تغييب حالة المطالعة الحرة في الإجمال، وفي العطلة الصيفية بكيفية خاصة.
وتزداد الوضعية اضطراباً وقلقاً وصعوبة، حيث ينشأ النظام العالمي الجديد وتنشأ معه شبكات مفتوحة من التواطؤات بينه وبين المرجعيات "الثقافية والأيديولوجية" للنظم الأمنية العربية، وذلك عبر أحصنة طروادة جديدة تقدمها ثورتا الاتصالات والمواصلات.
أما أخطر هذه الأحصنة وأكثرها فاعلية فهي الرياضة العابثة الهستيرية، والفن الوضيع الذي يستبيح شخصية المرأة، والعزوف عن الشأن العام. لكن هل يعني ذلك أنه يقودنا بالضرورة إلى ما بعد المطالعة؟
-------------------------------
د. طيب تيزيني- الإتحاد الإماراتية عن كلنا شركاء