تقييد حرية المرأة الجنسية
محمد شرينة
2009-07-20
كل ما قال قائل أو تحدث عن المساواة بين النساء والرجال قالوا له: ليست النساء كالرجال. ولو سلمنا بذلك، فهل يعني عدم التماثل التفاضل؟ بمعنى أن يكون المختلف عن الرجل أقل منه مرتبة؟
في الواقع حتى الرجال ليسوا متماثلين منهم القوي ومنهم الضعيف، منهم الذكي ومنهم من هو دون ذلك. فيهم الأبيض والأسود والمجتهد والكسول، الطويل والقصير. فهل يعني هذا أنهم غير متساوون وأنهم يجب أن يعطوا من الحقوق بقدر ما يمتلكون من القوة أو الذكاء أو الحيلة والقدرة على معالجة الأمور؟
ما من شك أن الحياة تفرض تمييزا على الناس بحسب قدرتهم على التعامل معها، فتعطي الذي يعرف كيف يسير مصالحه في الدنيا أكثر من الذي لا يعرف. وهذا يسمى ناجح وذاك ينعت بالفاشل، ولكن من حيث الحقوق الأصلية، هل عدم التماثل هذا يعني عدم المساواة في الحقوق؟ بحيث يكون للأخ القوي نصيب أكبر مما يكون للأخ الضعيف من إرث أبيهما؟ أو يجوز للأول الارتباط بامرأتين في نفس الوقت ويمتنع ذلك على الثاني؟
ما من أحد يقول أن المرأة مثل الرجل وحتى الرجال ليسوا متماثلين بل ما أكثر الرجال الذين هم أضعف وأقل حيلة من النساء، فلماذا إذا يتم التمييز بين البشر على أساس الجنس: رجل يحق له ويجوز له وامرأة لا يحق لها؟
هذه قصة قديمة جدا، (تطرقت إليها باختصار في مقالة سابقة): فبما أن ممارسة المرأة للجنس تؤدي في معظم الأحيان إلى الحمل، وهو أمر ظل غير ممكن السيطرة عليه طوال التاريخ البشري القديم، لذلك فان المجتمعات البشرية كلها تقريبا فرضت قيودا على ممارسة الأنثى للجنس لأن ذلك كان الوسيلة الوحيدة المتوفرة لحمايتها من مشاكل ومخاطر الحمل والإنجاب المتكررة والتي لا يخفى مقدار خطورتها في تلك الأزمنة؛ يضاف إلى ذلك عبء تربية وتنشئة المولود حيت أن المرأة المتزوجة لديها من يساعدها في هذه المهمة وهو الزوج، بعكس غير المتزوجة، مما يعني أن هذا العبء كاملا ستتحمله الفتاة وحدها، وبالطبع فأن أهل الفتاة لن يكون أمامهم مفر من تحمل جزء من هذا العبء قل أو كثر. هذا أعطى أهل الأنثى مبررا ماديا ليتدخلوا في حريتها الجنسية فهم في النهاية من سيتحمل العبء الكبير الناتج عن هذه الممارسة.
بتقديري أن حاجة المرأة الشديدة لمن يساعدها ويشاركها في رعاية المولود هي التي جعلت المرأة تقنع الرجل بعملية الأبوة، فغريزة الأبوة ولا شك غريزة من الدرجة الثانية بعكس غريزة الأمومة، أعتقد أن الأمور جرت كالتالي:
عندما أدرك الإنسان البدائي دور الذكر في الإنجاب وتنبهت المرأة إلى هذا الدور وجدت فيه عاملا مساعدا لحل مشكلة الرعاية الطويلة التي يحتاجها أطفالها، فبسبب انتصاب قامة الإنسان صارت طفولته طويلة جدا مقارنة بباقي الحيوانات، فحيث يستطيع صغير حيوان ضعيف كالغنم الركض وتناول غذاءه من البيئة المحيطة بطريقة معقولة خلال أسابيع من ولادته، يحتاج صغير الإنسان إلى سنوات ليستطيع ذلك. وإذا تصورنا امرأة تنجب كل عام أو عامين مولودا وتظل هذه المواليد معتمدة بشكل كامل على رعاية هذه الأم لسنوات طويلة، فيمكننا أن نتصور امرأة مسئولة بشكل كامل عن الرعاية التامة لثلاثة أو أربعة مواليد في زمن بدائي لم يكن الإنسان يملك فيه أية وسائل أو أدوات يستعملها في تأمين حياته والدفاع عنها، يمكننا أن نتصور أن المهمة الملقاة على عاتق المرأة أصبحت شبه مستحيلة. حيث أن المرأة شأنها بذلك شأن كل إناث الثدييات هي المسئولة الوحيدة عن رعاية الصغار. لو استمر هذا الوضع فانه كان سيؤدي إلى انقراض الجنس البشري دون أدنى شك.
وفي سبيل المحافظة على النوع ولأن المرأة لم يكن أمامها من خيار آخر فقد بدأت عملية طويلة ومعقدة: أعني عملية تأسيس الأسرة التي هي الخلية الإنسانية الاجتماعية الأولى والتي منها انطلقت وتسارعت مسيرة الحضارة البشرية، إن هذه الخطوة هي السبب الرئيسي في تشكيل الحضارة الإنسانية، ومن المسلم به أن هذه العملية لم تنتهي ولم تجد الصيغة المثالية حتى يومنا هذا.
بدأت المرأة هذه العملية بمحاولتها خلق غريزة الأبوة لدى الرجل وهذا احتاج إلى إقناع الرجل الذي كان في هذه المرحلة يعرف كما المرأة دوره في الإنجاب ولكنه لا يهتم لذلك، فمادام يحصل على متعته من ممارسة الحب مع المرأة وتتحمل هي عبء الصغار الذين ينتجون عن هذه العملية، فلم يهتم؟
لقد بذلت المرأة وما تزال جهودا مضنية ومتواصلة لتشكيل الأسرة وتنمية غريزة الأبوة لدى الرجل ولكن ذلك احتاج منذ البداية كأساس له، إلى إقناع الرجل بأن هذا المولود هو النتاج المادي الحقيقي لعلاقته مع المرأة، بمعنى ابنه ماديا (بيولوجيا) فبدون هذه العملية التي يقصد منها إشعار الرجل بأنه شريك فعلي مادي في خلق وتكوين هذا الصغير وبالتالي فان هذا الصغير هو جزء منه واستمرار له أو حتى ملك له دون كل الرجال الآخرين؛ لم تكن هذه العملية لتنجح. كانت هذه هي الخطوة الأولى والأساسية في خلق الاجتماع البشري أعني إقناع الرجل بحصرية أبوته لطفله، مما اقتضى من المرأة الاقتصار على معاشرة رجل واحد فقط.
عند هذه المرحلة بدأ المجتمع البشري يتحول إلى النظام الأبوي من النظام الأمومي، وأعتقد أن المثيولوجيا (الأساطير) إنما تشير إلى هذه العملية عندما تتحدث عن إخراج المرأة للرجل من الجنة، فهي فعلا قد فعلت ذلك.
ببساطة الرجل خاسر تماما من هذه العملية التي فقد فيها حريته وتحمل مهمة لم يعتد على تحملها والمرأة كذلك خاسرة بضياع حريتها الجنسية ولكن الرجل أكثر خسرانا، فقد كسبت المرأة مقابل التنازل عن حريتها الجنسية معينا في تحمل عبء أطفالها، الذين صاروا أطفالهما.
إن ارتباط كل امرأة برجل واحد وهو ما نجحت المرأة في تحقيقه إلى حد بعيد لم يترك للرجل الذي لا يرغب في تحمل هذه المهمة خيار، المرأة قادرة إلى حد كبير على ضبط عواطفها بحيث لا تعاشر الرجل إلا بعد موافقته على تحمل عبء المولود معها (لنسمه الزواج)، إما أن هذه هي طبيعتها أو أن الضرورة ألجأتها إلى ذلك. وما أن قطعت العملية شوطا معينا حتى لم يعد يتوفر للرجل أكثر من امرأة واحدة، هذا إن توفر له واحدة، فبما أن المرأة صارت تربط معاشرة الرجل لها بتحمله مسؤولية الأولاد الناتجين؛ فان الرجل العادي أصبح يفكر كثيرا قبل الإقدام على الارتباط بعدة نساء. وبالتالي فقد الرجل حريته الجنسية هو الآخر وتحمل حملا لم يعتد تحمله. وبما أن المرأة تدرك ذلك تماما فقد قدمت كل التنازلات اللازمة لاستمرار هذا الوضع الذي بدون استمراره كان الجنس البشري سينقرض، بالطبع فعلت المرأة ذلك تحت تأثير غريزة الأمومة لديها وهي غريزة من الدرجة الأولى إن لم تكن أقوى الغرائز لديها وهذه عملية بيولوجية طبيعية زرعتها الطبيعة في المرأة بهدف بقاء النوع.
لقد تنازلت المرأة إلى كل الحدود اللازمة فهي عندما يكون الرجل الذي اختارته (أو فرض عليها) ليحتل موقع والد أبنائها قويا، كانت تسمح له حتى بمعاشرة أو الارتباط بنساء أخريات غيرها ما دام قادرا على حماية وإطعام أولادها، وهي مضطرة لذلك، ذلك أنها بدأت هذه العملية بهدف رئيسي وحيد هو هذا، أعني حماية وإطعام أولادها. وبالطبع هي قد ضحت بحريتها أيضا وبشكل أكثر من الرجل ولكن الفارق أنها كانت مضطرة لذلك بمعنى أن الطبيعة هي التي دفعتها إلى ذلك. بينما لم يكن الرجل مضطرا لذلك بمعنى إن المرأة هي من دفعه إلى هذا الدور وليست الطبيعة، طبعا في النهاية الطبيعة هي من دفع كليهما ولكن المرأة دُفعت إلى ذلك مباشرة من قبل الطبيعة (غريزتها الأمومية) بينما دُفع الرجل إلى ذلك بواسطة المرأة. إن تمنع المرأة على الرجل هو أمر غريزي عائد بالتحديد إلى هذه النقطة، أي تقدم غريزتها الأمومية على غريزتها الجنسية. وهذا ما يفسر كون غريزة الأبوة هي من الدرجة الثانية كما يفسر ما سبق وأشرت إليه أعلاه لماذا يعتبر الرجل أن المرأة مسئولة عن معاناته (إخراجه من الجنة في الأساطير القديمة).
لقد خلق الوضع السابق تناقضا شديدا بين الواجب والرغبة لدى كل من الرجل والمرأة وهذا التناقض أشد بكثير في حالة المرأة. إن هذا التناقض هو المولد الفعلي للحضارة البشرية وهو ما يزال قائما، هذا من ناحية ومن ناحية أخرى فان تشكيل الأسرة هو الذي علم الإنسان الحياة المؤسساتية وقاد إلى تشكيل القبيلة فالمدينة فالدولة وبالتالي ولد السياسة والاقتصاد البشريين (وكذلك هو مولد فكرة الإله والدين). إن السياسة والاقتصاد هما موضوع واحد وليسا موضوعين وأتمنى لو أجد كلمة مثل –زمكان (زمان- مكان) – تعبر عنهما معا فهما شيء واحد غير قابل للتمايز. تطور الاقتصاد – السياسة لدى البشر أدى إلى تطور الثقافة الإنسانية وصولا إلى ما نحن عليه الآن. وهنا أجد أنه من المفيد أن أذكر أنه بما أن الأسرة هي المعهد الذي تطورت فيه الثقافة البشرية فان منع تعدد الزوجات والطلاق في المسيحية وقبلها عند الرومان واليونان هو الذي جعل أسر هؤلاء الأقوام تنتج ثقافة تعددية ديمقراطية حيث الرجل لم يكن ربا مسيطرا على الأسرة بل كانت المرأة دائما شريكا مفروضا عليه شاء أم أبى، بعكس حالة العالم الإسلامي وقد أفردت لهذه الفكرة مقالا خاصا.
إن التناقض المشار إليه آنفا بين الواجب والرغبة كان وما يزال وسيظل محرك الحضارة البشرية وهو السبب في عدم انضباط الأزواج الجنسي. من المؤكد أنه كان هناك دائما نسبة من النساء ونسبة أكبر من الرجال غير قادرين على الانضباط الكامل من حيث المعاشرة الجنسية. ولما كان هذا التناقض أشد لدى المرأة حيث أنها مطالبة بالالتزام الكامل بشريكها وإلا ضاع كل شيء بعكس الرجل الذي كان ولا يزال عنده هامش ولو ضيق من الحرية وفي كل الثقافات تقريبا، فلم يكن أمام بعض النساء اللواتي يصعب عليهن الالتزام التام بهذه القيود في العصور القديمة من طريق سوى أن يكن مزدوجات الشخصية، يرتبطن بالرجل الأكثر مناسبة لرعاية نسلهن بينما يمكن أن ينجبن من الذي هو أكثر مناسبة لإنجاب نسل أكثر تفوقا وبالطبع يمكن أن يعاشرن من يملن إليهم كما يفعل الرجال. لهذا ظل الرجل معظم التاريخ يفعل ذلك علنا أو بشكل لا يراعي فيه كثيرا إخفاء ذلك؛ بينما المرأة كانت (وربما لازالت إلى حد ما) مضطرة إلى فعل ذلك بسرية تامة حتى لا تهدم القضية من أساسها. أعني قضية الأسرة التي إنما بنيت على إقناع الرجل بأبوته المادية للطفل والتي ظلت حتى وقت قريب تحتاج لأن لا تعاشر المرأة رجلا آخر غير الرجل الذي يفترض أنه الوالد البيولوجي لأولادها. وهذا هو سبب أن النساء اتهمن على مدى التاريخ بالمراوغة والخيانة والغش.
لقد قدم تطور العلوم الحديث حلولا كثيرة لمعظم هذه المشاكل، فلم يعد الإنجاب مرتبطا بممارسة الجنس بالنسبة للمرأة. كما أن تطور الدولة الحديثة ورعايتها الاجتماعية حرر إلى حد بعيد المرأة من الاعتماد على الرجل في حماية وإطعام نسلها. أضف إلى ذلك أن اكتظاظ العالم بالبشر جعل عملية جلب مزيد من البشر إلى هذا الكوكب عملية ليست هامة إن لم يكن العكس. وهذا يتضح إذا فكرنا بأن الأمراض والمجاعات والحروب والكوارث الطبيعية في الأزمان القديمة كانت بالمرصاد لأعداد البشر، ولولا أن النساء لم يكن يجلبن كل ما يقدرن على إنجابه من مواليد إلى هذا العالم لانقرض الجنس البشري.
إن ما سبق وبالأخص تطور وسائل منع الحمل هو السبب الحقيقي للحرية الجنسية الواسعة التي سادت في العالم وخاصة المتقدم منذ منتصف القرن الماضي.
كل هذه الحلول رغم أنها ناجعة فهي جزئية والمشكلة ما تزال مستمرة وستظل كذلك.
إن إدراك الأسباب المادية التي وقفت وراء علاقات البشر الجنسية هو عامل في غاية الأهمية في سبيل تحرير البشرية من الكثير من الأوهام التي علقت في الذهن البشري والتي راحت تعزو التصرفات الجنسية للبشر من زواج وغيره إلى ضرورات ثقافية أو دينية، فهي إنما كانت ولا زالت ضرورات مادية تنتفي الحاجة إليها بزوال سبب هذه الحاجة شانها في ذلك شأن كل الثقافة ومنها الدين فهي ليست إلا أفكار مفيدة في وضع مادي (اقتصادي) معين وناتجة عن ذلك الوضع.
------------------------
محمد شرينة،
، عن موقع "التنوير"،