الفارابي : المرأة والرجل متساويان في امتلاك العقل والحسّ والخيال
فريد العليبي
حظيت مسألة المرأة باهتمام عدد من فلاسفة العرب خلال العصر الوسيط، وقد عرضنا في مناسبات سابقة لمواقف بعض هؤلاء، ونروم هنا الإحاطة بوجهة نظر الفارابي، وقد كان تناوله لها مندرجا ضمن حديثه عن أجزاء النفس الإنسانية، والقوى المكونة لها، وكيفية اجتماعها لكي تكون نفسا واحدة، وذلك ضمن إطار أعمّ؛ هو بحث المسألة السياسية.
نشير بدءا إلى أنّ الفارابي (أبا نصر محمد بن محمد بن اوزلغ بن طرخان) فيلسوف متعدّد الاهتمامات، فقد كتب في شتّى صنوف معارف زمانه، وقد تنازع العرب والكرد والفرس والترك نسبته إليهم، غير أنه من حيث اللغة التي كتب بها والثقافة التي أبدع ضمنها، يمكن إدراج فلسفته ضمن الموروث العربي.
تنقّل أبو نصر بين مدن مشهورة في عصره، مثل بغداد ودمشق وحلب، كما زار مصر التي أتمّ فيها كتابه "آراء أهل المدينة الفاضلة"، وغلبت على حياته المديدة ـ فقد مات في الثمانين ـ البساطة، حتى انه امتهن حراسة البساتين في فترة ما من حياته، وقرأ بعض مؤلّفات كبار فلاسفة اليونان على ضوء القنديل الذي كان يستعمله ليلا للحراسة، وحتى عندما تبدّلت الأحوال وأصبح مقرّبا من سيف الدولة الحمداني فإنّه حافظ على تلك البساطة، يقول عنه ابن أبي أصيبعة في عيون الأنباء في طبقات الأطباء؛ "ويذكر أنّه لم يكن يتناول من سيف الدولة من جملة ما ينعم به عليه، سوى أربعة دراهم فضة في اليوم، يخرجها فيما يحتاجه من ضروري عيشه، ولم يكن معتنيا بهيئة ولا منزل ولا مكسب، ويذكر أنّه كان يتغذّى بماء قلوب الحملان مع الخمر الريحاني فقط".
كما عرف بتواضعه في مجال المعرفة فقد "سئل: من أعلم أنت أم أرسطو؟ فقال: لو أدركته لكنت أكبر تلاميذه، ويذكر عنه أنّه قال: قرأت السماع لأرسطو أربعين مرة، وأرى أني محتاج إلى معاودته " نفس المصدر، فقد كان بعيدا عن التبجّح، تلك الآفة التي إذا ما تملكت عالما سلبته عقله.
ولغزارة علمه وتفوّقه ونبوغه في مجالات معرفية شتى أحيطت شخصيته بما يشبه الهالة الأسطورية، يقول عنه ابن خلكان في "وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان" أنّه كان يجيد الكلام بسبعين لسان، وأنّه برع في الموسيقى، حتى أنه أضحك الناس في مجلس سيف الدولة بعزفه، وأبكاهم، ثم جعلهم يغطون في نوم عميق، وتركهم على ذلك الحال وخرج .
نظفر بآراء الفارابي بخصوص المرأة في ثنايا بحثه في تكوين الجنين، فأوّل الأعضاء المتشكلة القلب، ثم يتلوه الدماغ، فالكبد والطحال، و سائر الأعضاء الأخرى. وعندما يصل إلي الحديث عن أعضاء التوليد، يلاحظ أنها متأخرة من حيث فعلها. والقوة التي يكون بها التوليد منها ما هو رئيس ومنها ما هو خادم، والرئيس يوجد في القلب، أما الخادم ففي أعضاء التوليد. مما يعني أن تلك الأعضاء ليست المسؤولة عن التوليد إلا ثانويا، فالقلب هو الذي يشتمل على القوة المولدة من حيث الجوهر والأصل.
ويستعمل مفهومي المادة والصورة للإبانة عن عملية التوليد، فقوة التوليد تنقسم إلى قسمين، إذ هناك من جهة القوة التي هي بمثابة المادة التي عنها يتشكل الحيوان المنوي، ومن جهة أخرى هناك القوة التي تمنح ذلك الحيوان الصورة التي يحتاجها، وتجعل المادة متحركة في اتجاه تحصيل صورة النوع الذي سيولد و و في واقع الحال الإنسان.
ومثلما عليه الأمر لدى أرسطو، نرى الفارابي في كتابه آراء أهل المدينة الفاضلة يقسم هاتين القوتين بحسب كل جنس، فالذكر يعطي الصورة، بينما تعطي الأنثى المادة، قائلا:" القوة التي تعد المادة هي قوة الأنثى، والتي تعطي الصورة هي قوة الذكر، فإنّ الأنثى هي أنثى بالقوة التي تعد بها المادة، والذكر هو ذكر بالقوة التي تعطي تلك المادة صورة ذلك النوع الذي له تلك القوة ". وإذا علمنا أن الصورة أشرف من المادة لدى أرسطو والفارابي، فان ذلك يعني أن المرأة أقلّ شأنا من الرجل من حيث المساهمة في تشكل الجنين، فهى تضطلع بدور ثانوي بينما يظل دور الرجل رئيسيا.
ويجاري الفارابي هنا أرسطو فيوافقه الرأي بخصوص علاقة كل من المرأة والرجل بتشكل الجنين، فهو أمام رأي واضح وصريح بلوره المعلم الأول، الذي كان يعد في عصره سلطة علمية مرجعية، والفارابي المنحاز إلى علم زمانه لا يعارض ذلك الرأي. غير أن هذا ليس إلا الوجه الأول للمسألة، أما الوجه الثاني فهو أنه بعد إشارته لهذا الأمر سرعان ما يقر المساواة بين المرأة و الرجل في امتلاك العقل والحس والخيال، ويحصر الاختلاف بينهما في الأعضاء الجنسية المتصلة بالذكورة و الأنوثة، حيث يقول في نفس الكتاب: "سائر القوى النفسانية الباقية تحدث في الأنثى على مثال ما هي في الذكر". وهذه المساواة من استتباعاتها أن المرأة المتفوقة عقلا يمكنها أن تكون فيلسوفة والمتفوقة خيالا يمكنها أن تكون نبية.
لقد كان الفارابي على بينة من اختلاف الكائنات الحية في امتلاك قوتي الذكورة والأنوثة، فإن كانت هاتان القوتان توجدان منفصلتين في الإنسان، على نحو تمتلك في المرأة إحداهما بينما يمتلك الرجل الأخرى وهو ما نجده أيضا لدى الكثير من الكائنات الحية الأخرى، فإن الأمر مختلف بالنسبة إلى البعض الآخر، حيث نجدهما متحدين في نفس الكائن، يقول في آراء أهل المدينة الفاضلة:" أما الإنسان فليس كذلك، بل هاتان القوتان متميزتان في شخصين، ولكل واحد منهما أعضاء تخصه، وهى الأعضاء المعروفة لهما، وسائر الأعضاء فيهما مشتركة، وكذلك يشتركان في قوى النفس كلها سوى هاتين".
واضح إذن أنّه يساوي بين الرجل و المرأة في امتلاك قوى النفس، بما في ذلك العقل كما بيناه، وإذا كان هناك من اختلاف فهو في امتلاك القوتين الذكرية والأنثوية، وهو ما ينعكس على مستوى الأعضاء التناسلية.
وعندما يحلل الحالات النفسية التي تعرض للمرأة والرجل مثل القسوة والغضب اللذين يشتهر بهما الرجال، والرحمة والرأفة اللذين تشتهر بهما النساء، يلاحظ أن ذلك نسبي، إذ يمكن أن نجد نساء ميالات إلى الغضب والقسوة ورجالا ميالين إلى الرحمة والرأفة.
لقد خالف الفارابي آراء معروفة لأرسطو، تنتقص من قيمة المرأة باعتبارها لا تصلح سياسيا للرئاسة، وأن العقل لديها عديم الفاعلية معرفيا، كما أنها أخلاقيا أقلّ شأنا من حيث العفة والشجاعة. وهي الآراء التي عبّر عنها أرسطو في كتاب السياسة، ولا نجد لها أثرا عند الفارابي، مما يعني أنها لم تلق موافقته، أو أنه لم يطلع على كتاب السياسة المشار إليه رغم كونه يحيل عليه في كتاب الملة، ونحن نرجّح الاحتمال الثاني فهناك شكوك كثيرة حول نقل الكتاب المذكور إلى العربية.
وإذا عرفنا أنّ المعلم الثاني مطّلع على جمهورية أفلاطون التي تتضمّن إنصافا أكبر للمرأة، فإننا نرى أنه سار على خطّ أفلاطون، خاصة أنه لم يكن يرى أيّ تعارض بينه وبين أرسطو، بل إنّه ألّف كتابا في الجمع بين رأيي هذين الحكيمين، فالعقل برأيه واحد والفلسفة واحدة، وربما لو اطلع على كتاب السياسة لكان له رأي آخر .
واللافت أنّه ضرب صفحا عن المدونة الدينية الإسلامية قرآنا وحديثا في بلورة آرائه تلك، لعلمه بتعارضها مع ما هو فلسفي، مما يعني أن انتصاره للمرأة قد أملته ضرورات فلسفية من جهة، وهي التي بيناها، كما يمكن أن يكون محركها من جهة ثانية وازع عملي إصلاحي؛ فالمساواة بين الجنسين احدى سبل ارتقاء الأمم. وهذا الذي نقوله ربما تجعله الأبيات التالية المنسوبة لأبي نصر أكثر وضوحا، فقد كان متبرّما من زمانه زاهدا في صحبة السلاطين، رافضا الأكل والشرب على موائدهم، متمردا على جهالة العوام، فاختار التوحد وانقطع إلى محاورة فلاسفة كانوا قد رحلوا ولم تبق غير تواليفهم فكانت خير جليس، يقول الفارابي:
لمّا رأيت الزمان نكـسـا وليس في الصحبة انتفـاع
كلّ رئيس بـه مـــلال وكـلّ رأس بـه صـداع
لزمت بـيتـي وصـنـت عرضاً به من العزّة اقتناع
أشرب ممّا اقتنـيت راحـاً لها على راحتي شـعـاع
لي من قواريرها ندامـى ومن قراقيرها سـمـاع
وأجتني من حـديث قـوم قد أقفرت منهم البـقـاع
------------------------
فريد العليبي،
عن موقع "الأوان"