الحجر على الآباء والأمّهات: قصصاً واقعية تحكي ألماً يعيشه بعض كبار السن
رهادة عبدوش
2008-12-10
دار الكرامة، دار السعادة، دار اليتيم....وغيرها من دور خصّصت في سورية لرعاية كبار السّن تسمى أحيانا مأوى للعجزة وأحيانا أخرى واحة للسعادة وتارة تسمّى مكان للحجر، أسماءٌ كثيرة يطلقها كل حسب مفهومه من يراها ملجأً ومن يراها دار للإيواء ليبّرر غاية واحدة هي التخلي عن هذا المسن الذي هو أباً أو أمّاً دون أن يشعر بالندم.
لم يكن سهلاً العثور على مسنين يتّحدثون عن ألمهم فما أن دخلت إحدى دور المسنين بدمشق حتى بدأت أتجول بين المسنين ذاك يلعب النرد وتلك تقصّ الحكايا وهذا يجلس وحيداً ودمعةً حائرةً بعينيه، في مكان أشبه بفندق فيه أشكال وألوان مختلفة من البشر يجمعهم شيءٌ واحد أنهم أصبحوا مسنين وعالة برأي أولادهم جعلتهم يودعونهم في مكان بعيد عن الأسرة التي ضحوا بعمرهم لتكوينها وصمودها بوجه مصاعب الحياة.
حاورت الكثير من المسنين الموجودين وقليل منهم تكلّم على أولاده بالسوء لكنهم جميعاً طلبوا لأولادهم وأحفادهم حياةً كريمة وسعيدة، وسامحوهم لزياراتهم القليلة والتي لا تتعدى المرّة في الشهر في أكثر الحالات.
وما فاجأني أن الكثير ممن يتمتعون بذاكرة قوية وكلام متزن قد حجر عليهم من قبل أولادهم أي حجر على أموالهم المنقولة وغير المنقولة ولم يعد لهم الحرية بالتصرف بأموالهم فبحكم المحكمة حجر عليهم .
ولم يكتفوا بذلك بل وضعهم أبناءهم في مأوى للعجزة وكان (أبو نادر) أول الأشخاص الذين ألتقيتهم بالمأوى وقد حجر عليه فقد دلّني عليه صديقه بالغرفة المجاورة قال لي اذهبي إلى أبو نادر فهو سيحكي لك كيف نهبوا أولاده منه ثروته وأودعوه بمأوى بالرغم انه كان يمتلك أموالاً تشتري عشرة مباني مثل هذا المبنى وكان تاجر له كلمته بالسوق، اقتربت منه أتأمله فرأيت في عينيه نظرةً حزينة وألماً لم تخفيه رعشة يده على عكازه الفخم.
وهنا تبادلت معه أطراف الحديث إلى أن وصلت إلى حكايته قال لي: أنجبت ثلاثة شباب وابنتان وربيتهم على الأخلاق وعلّمتهم ولم أبخل عليهم مرّة في حياتي وكنت تاجراً بسوق الحميدية لمدة خمسين عاماً ولديّ من الأملاك ما لا تأكلها النيران أحيانا كنت أقول إن المسنين عندما يهملهم أولادهم لا بد أن تكون التربية ليست جيدة و أن الأب كان ظالما لكن عندما حجر أولادي علي عرفت أن هذا كله قضاء وقدراً وهذا حظي بالحياة .
أما لماذا حجر أولادي علي فأنهم يريدون تغيير نوع التجارة التي كنت أقوم بها وأن أبيع دارنا الكبير في دمشق القديمة ليبنوا بدلاً منه مطعما ولم أقبل بذلك وهكذا إلى أن استيقظت ذات يوم على خبر أنه حجر على أموالي وأصبح أولادي أوصياء عليّ وقد أصابتني جلطة دماغية لا زالت آثارها إلى الآن في جسدي .
وبعد فترة وضعوني هنا لأنهم تعبوا من الاعتناء بي يزوروني أحياناً بالأعياد وأحياناً يكلّمونني بالهاتف معتذرين عن القدوم لانشغالهم إني أسامحهم لكني لا أريد أن أعود مرّة أخرى إليهم فالموجودين هنا أحن علي من أولادي الذين غدروا بي.
وفي الطابق الثاني تعّرفت على السيدة (أم جعفر) وهي كانت من المدرسات القديرات واللواتي حجر أولادها على أموالها مع زوجها وقد حدثتني عن قصتها المؤلمة.
فقالت: بعد أن تقاعدت عن العمل وجلست بالبيت مع زوجي قرّرنا تزويج ابننا الصغير فقد زوجنا أخواته جميعا وهو آخر العنقود وبحثنا له عن بنت الحلال لكنه فاجأنا بفتاة تعرّف عليها ولم نمانع بالرغم من أن أسكنها عندنا بالبيت ومن هنا بدأت المشاكل فهي لا تريد أن تعتبرني موجودة أبدا حتى أنها كانت تمنعني من الجلوس على شرفة المنزل مع زوجي بل كانت تحبسنا طوال النهار بغرفتنا بحجة أنها تنظف البيت وهكذا إلى أن يأتي زوجها تفرج عننا.
ولم نكن نخبره بشيء إلى أن بدأت تتذمر من وجودنا فهي تريد الغرفة، وبين أخذ ورد قّرر أن يودعنا في مأوى العجزة وهنا لم نرضى بل طالبناه بالرحيل من البيت فهو لا زال باسمنا، وبعد فترة من الزمن تفاجانا كيف أن اتفق علينا جميع أولادنا وتوزعوا أموالنا ولا زلنا على قيد الحياة فقد حجروا علينا ونحن بكامل قوانا العقلية استطاعوا الاتفاق مع المحامي والقاضي ودفعوا رشوة كأننا أعداءهم (وبدأت تبكي بكاء شديدا اضطرت الممرضة أن تحقنها بإبرة مهدئة قبل أن انهي كلامي معها).
وخلال تجوالي التقيت مع احد الزوار وعرفت منه أنه يزور أباه هنا ومن خلال الحديث توضّح لي بأنه قد حجر على أباه وبدأ يبرر لي السبب من وجهة نظره فقال: إني أحب والدي كثيرا لكنه بالفترة الأخيرة بدأ يوقّع على شيكات بدون أن يدرك ما هي وهذا كاد يسبب له ولنا خسائر مادية كبيرة فكان لا بد من الحجر عليه لأن ذاكرته وعقله بدأ يشيخ وهذا لا يعني أننا لا نحبه فهو عزوتنا وقد اضطررنا أن نضعه هنا لأني أسافر دائما خارج البلد وكذلك أخوتي وهنا يتسلّى أكثر وهو ليس منزعجا من ذلك.
ومن هنا التقيت مع الاختصاصي الاجتماعي (عماد أبو زيد) والذي حدثني عن الآثار السلبية في الحجر على الآباء ووضعهم في مأوى للعجزة وقال:
إنّ هذا الموضوع له عدّة محاور فله أولاً نتائج سلبية على ترابط المجتمع، فالأسرة هي البنية الأساسية للمجتمع وترابط أفرادها ينعكس على المجتمع بأسره فهذه قيماً وأخلاقاً تعيشها المجتمعات باختلافها.
فعندما يحترم الأبناء آباءهم وليس بالكلام فقط أو باعطاءهم المال بل بمنحهم دورهم الحقيقي فلا يجوز تنحيتهم عن الأسرة لأن لهم دورهم الذي قد لا يبقى نفسه لكنه يتغيّر ويصبح ملائماً لسنّهم لكن أبداً لا يزول وبإزالة دورهم في الحياة يؤثر بداية عليهم فيشعرون باقتراب أجلهم وهذا يضعهم بكآبة فهم يعتبرون أن دورهم قد انتهى ولا يبقى لهم سوى انتظار الموت بعد أن أعطوا كل ما لديهم خلال عمرهم يكافأون ببساطة بإزالتهم من الأوراق الثبوتيّة يحجر عليهم أو يوضعوا في مأوى للعجزة.وهذا ينعكس على الأسرة كلها فتتفكك ولا تشعر بالانتماء لبعضها.
ومن ناحية أخرى في انتقال المسن من مكانه الذي عاش فيه طوال عمره وعلميا ينتقص هذا من عمره فهو سيغادر المكان الذي عاش فيه طوال عمره، سنوات حياته بحلوها ومرّها ليتلقى صفعة من الزمن تأويه في مكان لا يمتّ له بصله.
أما من النّاحية النفسية تقول الأخصائية (جهينة عبود):
إن الانطواء الذي يعيشه المسن بسبب الحجر عليه ينعكس على حالته النفسية فيصاب بالكآبة وهي تساهم في فقدان ذاكرته والزهايمر وتصيبه بالعجز لأنه يعتبر أن دوره قد انتهى وليس لديه شيء يقدمه للحياة بالإضافة إلى ما رآه من الإجحاف بحقه من أبنائه ما يزيد من طلبه للموت والانتهاء من الحياة فالكبير بالسن يحتاج أن يشعر أنه مازال مهما بنظر أبناءه أولا والمجتمع ثانيا يمكننا أن نعطي لهم أدوارا تناسبهم وألا نأخذ منهم كل شيء وهذا يساعدهم على الصمود بوجه الحياة والتفاؤل بالمحبة وبأهمية وجودهم.
هذه بعضا من حكايا للمسنين ربما تطالبنا بوقفة قصيرة نسأل فيها أنفسنا ماذا نريد من الحياة أن نكون بشرا أم أشباهٌ للبشر.
نساء سورية
تنشر بالتعاون مع "الأبجدية الجديدة"،